حين تهتزُّ الأرض تحت أقدام الإنسان، وتسقط البيوت المرتفعة ذات الطَّوابق المتعدِّدة أمامه، وتنهار المنازل من حوله وقد كانت من قبل عامرة بأهلها، وتندكُّ الدّور على رؤوس أصحابها، ولا يظلّ لهم أثر يذكر أنَّهم كانوا هناك يسكنون، ويمرحون ويطربون، ويأكلون ويشربون، ويتسامرون، ويتنعَّمون يحياتهم البسيطة المطمئنَّة.. ولا يظلّ أمام هذا الإنسان غير الرُّفات والحطام وأكوام الحجارة، ورائحة الموت تذكِّره وتذكِّر الأحياء أنَّ مصيره ومصيرهم إلى التُّراب.. وأنَّ هذه الحياة لا تستقرُّ على حال، وكلّ يوم هي في شأن وحال مختلف، فلا الغنيُّ يظلُّ غنيًّا، ولا الفقير يظلُّ فقيرا، ولا صاحب الجاه والمنصب والسُّلطان يظلُّ خالدا في مكانه، منعَّما بما أنعم الله به عليه .. فالبقاء لله وحده .. والعظمة والتقديس لله وحده .. وهو سبحانه وتعالى من يهب تلك النِّعَم وهو من ينزعها من هذا أو يمنعها عن ذاك .. وهو سبحانه وتعالى من يوزِّع الأرزاق ويصرِّف الأقدار بين عباده بعدله وكرمه .. وهو سبحانه وتعالى من ينزِّل بنا السَّرّاء والضَّرّاء، واليسار والإعسار .. وهو سبحانه وتعالى من يتفضَّل علينا بإسباغ النِّعَم فلا نحصيها .. وهو سبحانه وتعالى من يوقع بنا المصائب ،والشَّدائد، والمحن، وينزل علينا الصَّواعق، والزَّلازل، والفياضانات، والكوارث الطبيعية، اختبارا أو ابتلاء، أو لحكمة بالغة علِمَها من علَّمه وفقَّهه وبصَّره بأسرارها، وجهلها من لم يكشف عنه غطاءها، ولم يهد قلبه لكشف مشارق أنوارها .. وهو سبحانه وتعالى من يقيم الأرض ويبسطها، وهو من يحرِّكها ويميل بها، فتهتزُّ وتنشقُّ وتميد وتضطرب وتتزلزل بمن فوقها .. وهو سبحانه وتعالى من يدير هذا الكون ويدبّر أمره بمشيئته وقدرته، وعظمته وعزَّته وجبروته .. فمن كان منّا يتنبَّأ بحدوث الزلزال في المغرب في يوم وقوعه، وفي ساعة حدوثه؟!! وكذلك الشَّأن في سائر البلدان والأقطار، من يتتبَّأ بما ينزل بها من النَّوازل، وما قد تبتلى به من الكوارث، وما يحدث من الحوادث التي تحصد آلاف الأرواح..؟!! ومن كان منّا يتنبَّأ أن تفجع كلُّ أسرة مغربية في مكان حدوث الزِّلزال يإصابة أو موت قريب لها، أو صديق، أو زوج أو إبن أو بنت، أو أب أو أم، أو أخ أو اخت، أو أسرة بكاملها….؟!! من كان يتصوَّر أو خطر بباله أنّه سيمسي ضاحكا وبصبح حزينا، وأنّه بعد أن كان آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، يصير مصيره إلى ضيق وشقاء وإعسار، وابتلاء شديد وكرب عظيم، وجوع يلهب أمعاءه، وعطش يحرق جوفه، وخوف وذعر وفزع يلازمه، فيحسُّ بالقشعريرة تمشي في أعضائه، والبرد يسري إلى جسمه وهو لحافه، والحجر والطّين والتُّراب وساده وسريره، ويتراءى له الضَّلال والتّيه والسَّراب يملأ يومه وغده، فلا بيت يأويه، ولا مال، ولا زوج ولا زوجة ولا أبناء ولا أسرة .. ولا معيل ولا معين إلا رب العالمين .. فيصير حاله غير سالف عهده، ويصير شأنه إلى شأن آخر، لا يبتغي إلاّ شبرا من ظلٍّ يستظلُّ به، وشبرا يقيه البرد والحرَّ، وأمانا وسكنا … حتّى يُخَيَّل لنفسه أنَّ تلك الأكوام من الحجارة والدّور والأبنية التي سقطت وزلزلت، وأنّ من هلكوا وردموا تحتها صاروا جميعا قبرا كبيرا مفتوحا، سيطوي كلّ يوم وساعة أجسادا فوقها أجساد كما طوت من صاروا تحت التُّراب .. ويرى نفسه وهو وسط الدَّمار والخراب كيف كان غصنًا غضًّا مورِقًا، ونبتة خضراء، وزهرة يانعة، فإذ هي تُجْتثُّ وتُقْطَع جذورها، وتُفْصَل فروعها عن أصولها وأصولها عن فروعها، وتُفْصَل عن منابتها، فلا يظلُّ منها إلاّ الشّحوب والاصفرار والذُّبول، ومخاض آلام وأوجاع، وجروح وقروح وكسور، وأوراق يابسة قد جفَّت ينابيع عروقها، ونضب معين حياتها .. فيكاد الخوف من الموت يهوي به ويقصف بركبتيه، كما قصف الزِّلزال بالأجسام والأرواح والأبنية .. حتّى يصبح لا يرى إلاّ مخلوقا واحدا يحفُّ به من كلِّ مكان، هو نفسه وأوجاعه ودموعه، تتلو عليه تراثيل حزينة، وتروي له أحاديث ترعبه من الآتي الذي يترقّبه في قابل أيّامه، وتثقل عليه ذكرياته في الماضي، وتقضُّ مضجعه الوحدة الموحشة، وسواد اللّيل وظلمات بعضها فوق بعض: ظلمة اللَّيل والبرد، وظلمة الصَّمت، وظلمة الخوف، وظلمة الخيبة واليأس … وتظلُّ الجبال حوله شامخة لا آخر لها، وهو لا يستطيع أن يصل حياته بحياة أخرى تسلمه طوق النَّجاة، حتّى يصير الموت أخفُّ عليه حملا، وأحلى مذاقاً من الانتظار الطّويل العسير، ومن النّبش بيديه وأظافره، باحثا عن آمال وآراب تبعث فيه التَّرقُّب بلا شغف، والدّهشة بجنون، فيظلّ يعيد ويكرِّر محاولات النَّبش والحفر رجاءَ وصل حياته بحياة من ماتوا، أو ما زالوا قيد الحياة .. ثم يطمر رأسه في التُّراب، عساه يجد في بطن الأرض التي كانت عامرة بأهله، وأبناء باديته وقريته.. رطوبة تبعث فيه الرّجاء، ويدسُّ فيها أنفه لعلّها تريحه، فتبعث رائحة الحياة وتطهِّر رائحة الموت .. فلا يزيد على أن يدفن روحه حيّاً في جوفها الملتهب بالموتى .. وهذا ما لا يطيقه إلاّ من تسلَّح بقوَّة اليقين والإيمان، فلم يفتن في إيمانه ودينه، ورضي حتّى صار الرِّضى لقلبه بردا وسلاما، ولمعدته ريّاً وشبعا، ولروحه حياة آمنة مطمئنَّة .. .. ؟!! إنَّه الله وحده سبحانه وتعالى القادر على أن يلطف بنا ويرحمنا، ويدفع عنّا هذه الخطوب والمحن .. وهو سبحانه وتعالى من يعلم تصاريف الغيب، وما سيأتي في المستقبل، وما سيحدث ويقع غدا .. وهو سبحانه وتعالى من يقدِّر ويصرِّف كلَّ حدث حادِث، وكلَّ نازلة تنزِل، وكلَّ قضاء يقضي به بمشيئته وإرادته وقدرته .. وإذا قال لشيء قد أراده وقدَّره كن فيكون، ولا رادَّ ولا دافع لقضائه وقدره .. .. هذا هو قدر الله تعالى .. وهذا هو الزِّلزال الذي يجب أن نكون منه على بال .. زلزال النفوس !! فيه يقظة وصحوة، وإياب وعودة، وإصلاح وتغيير، وتخلية وتخلية، وتطهير وتزكية وتربية، وخلاص من عتمة الضَّلال، والجهل، وموت الضَّمير، والأخلاق والفضيلة .. وفيه حياة بعد إدراك ما في الموت من الفقد .. كي نتعاون على البرّ والتّقوى، ونحبّ بعضنا البعض في الله، ولوجه الله تعالى وليس لوجه الدّنيا ووجوه قسمتنا لسادة وعبيد، وطبقات ومراتب، ومناصب ووظائف، وأسماء وأعيان وشواهد .. وأن نحبّ بعضنا البعض بلا مصالح، ولا مطامع، ولا من أنت وما وظيفتك ؟، ولا ما حسبك وما نسبك؟، ولا ما جمعت وكدّست؟، ولا ما شكلك ولونك؟، ولا ما عرقك ومذهبك ووطنك؟، ولا ما انتماؤك وهويّتك …؟ وفيه فرصة قد تكون هي الفرصة الأخيرة لنا في الحياة .. كي نبعث ما مات واندثر بداخلنا من إيمان ويقين، ولتطهير قلوبنا المعتمة الموصدة والمقفلة بأقفال قد صدئت، حتّى صارت لا تحسُّ ولا تشعر ولا تتحرَّك في عروقها دماء الإنسانيّة بلْه البشريّة .. أو تخفق أو تنبض بداخل صدر يحمل خِلقة وطبيعة وفطرة إنسان يتألَّم لمن يتألَّم، ويحزن لمن يحزن، ويتقاسم مع سائر القلوب أفراحهم وأتراحهم .. نعم .. وفيه فرصة قد تكون هي الفرصة الأخيرة لنا في الحياة .. كي نتبصَّر ونبصر، ونسمع ونعي ونفقه، ونستيقظ من سباتنا العميق في كهف نفوسنا، التي تغطُّ في شخير نومها نهارا وليلا .. كي نصحو من غفلتنا وجهلنا، وغرورنا وتكبُّرنا، وأنانيَّتنا، وظلمنا لأنفسنا ولمن حولنا ونحن لا ندري .. أو نحن ندري بما نقترفه، وما تجنيه أيدينا من الخطايا والآثام، والجرائم والمظالم والانتهاكات .. ومع ذلك نتجاسر ونغترُّ ونطغى، ونتكبَّر ونتجبَّر، ونكفر، ونتمادى في ظلمنا وغيِّنا وجهلنا، وتكالبنا على الدُّنبا، وسعارنا على المال ثم المال ثم المال، ثم عبادة المال .. وإن خسفت بنا الأرض أو زلزلت، أو انفجرت بحارها وبراكينها، أو أطبقت السَّماء على الأرض، وخرّت الجبال فوق رؤوسنا .. لأنَّه لا أحد فينا يصدِّق أنّه قد يموت فجأة، بدون إشعار أو إعلام أو إخبار.. ولا أحد فينا يصدِّق أنَّه سيترك كلَّ ما حلم به وتأمله، وطمح وسعى إليه، وحقَّقه وأنجزه وبلغ غايته.. وأنَّه سيترك كلَّ ماجمعه وكدَّسه، من مال وذهب، وما أقام قواعده وشيَّده من منازل فخمة، ودور وقصور، وما بلغه من عزٍّ ومنصب وجاه، وما بلغه من نجاح وثراء وشهرة… وأنَّ كلّ شيء إلى فناء وزوال، وإلى نهاية.. هي الموت.. ولا أحد فينا يصدِّق أنّه مهما تتعدَّد أسباب الموت، سيأتيه في أيَّة ساعة أو لحظة، سواء كان قائما أو قاعدا، نائما أو صاحيا، وسواء كان مستعدًّا لاستقباله أو غير مستعدٍّ له.. وسواء كان في جمع من الأهل والنّاس، والإخوان والأصحاب، والعصبة من الوجهاء والأعيان والرجال، أو كان فردا، فلن يدفع عنه الموت دافع، ولن يؤجله عن ساعته وميقاته إذا حضر أحد من خلقه.. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)) سورة ق. فليس الزِّلزال حقًّا أن تموت مسلما مؤمنا، تقيًّا ورعا، شهيدا تحت الأنقاض.. ولكن الزِّلزال حقًّا أن تموت وقد خسرت دينك الإسلام، وخسرت إيمانك ويقينك، وخسرت ثباتك على الحقِّ وكلمة الحقِّ والإخلاص والصِّدق، وخسرت نفسك وضميرك، وشرفك، وأخلاقك وقيمك .. وخسرت أغلى ما تملك هو أن تموت والله راض عنك .. فلا قيمة لحياتك بعد الزِّلزال ولا قبل الزِّلزال إن عشت قبل وبعد حيًّا ميِّتا .. ولا قيمة لحياتك بعد كلِّ ذلك ولو عشت ألف عام .. بل حياتك الحقيقيَّة هي أن تحيا وتموت والله يهيّئ لاستقبالك جنَّة عرضها السَّماوات والأرض، ويبشِّرها فيقول تعالى: ((يَٰۤأَيَّتُهَا 0لنَّفۡسُ 0لۡمُطۡمَئنَّةُ (27) 0رۡجِعِيۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةࣰ مَّرۡضِيَّةࣰ (28) فَ0دۡخُلِي فِي عِبَٰدِي (29) وَ0دۡخُلِي جَنَّتِي (30)) سورة الغجر. وحياتك الحقيقيَّة هي أن تحيا وتموت وكلَّ من عرفك قد أحبَّك، فلا يذكرك إلاّ بالخير في حياتك وبعد موتك.. لأنك مسلم حقًّا قولا وفعلا، وعملا وسيرة، وتاريخا حافلا بما أنجزته وخلَّدته من علوم نافعة، وأعمال صالحة، وصدقات جارية.. وإنَّ الموت المفزع والمرهب والمروِّع حقًّا هو موت الرّوح لا موت الجسد، وإنَّ الإسلام إنَّما جاء لينقذنا من موت أجساد تتحرَّك وهي تحمل أثقال الدُّنيا لا أثقال الآخرة.. وإنَّ الإسلام إنَّما جاء لينقذنا من موت الأرواح حين تفقد خفَّتها ولطافتها، ونورانيَّتها وطهرها، وفطرتها التي فطرها الله عليها..