قد يتخطى الأعمى حفرةً بين يديه، ويتجاوزها بخفة وسهولة، وقد يقع فيها ذو عينين بصيرتين، فتتهشم بعض عظامه، وإن اللبيب ليسأل بين يدي هذا المشهد المثير للانتباه: من الذي أمد هذا الأعمى بقوة الإدراك للخطر فاستطاع أن يتفاداه؟! ومن الذي أعمى ذلك الذي يزعم أنه يبصر بعينيه فوقع صريعا؟! الحق أن الله تعالى هو الذي قدر الأقدار، وقسم الأرزاق، وهو سبحانه من يُيَسِّرُ لكل أحد أن يصيب قدره، وأن يدرك رزقه، فلا أحد يملك أن يفر من قدره، ولا أحد يستطيع أن يستزيد في رزقه. وقد جاء في القرآن العظيم قوله سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}[1]، وجاء في الأثر عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا النَّاسَ، فَقَالَ: (هَلُمُّوا إِلَيَّ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَجَلَسُوا، فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، جِبْرِيلُ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لاَ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ)[2]. إن هذه الدنيا ملك لله تعالى وليست ملكا لأحد، والعباد وكل ما في الدنيا من جماد ومتحرك، عبيد لسطانه سبحانه، لا يملك أحد منهم أن يقدم أو يؤخر إلا بإذنه. ومن رحمته عز وجل، ومن تكريمه لهذا الإنسان، أن خلق له عزيمة، ووهب له مشيئة، وأودع فيه عقلا مفكرا، وقلبا مريدا، فهو يفكر ويريد، ويعزم على ما يشاء، لكن ذلك كله في دائرة موسعة، الله عز وجل هو الذي وسع حدودها، وبسط في طولها وعرضها. وفي ظل هذه المشيئة الموهوبة، والعزيمة الممنوحة، تنبسط للناس أمور الدنيا وتتيسر، فيفعلون ما يشاؤون، ويصنعون ما يريدون، يقدمون ويؤخرون، ويرفعون ويخفضون، كأنهم أسياد لا عبيد، أو كأنهم الواهبون لا الممنوحون!! ويتسلل الشيطان إلى صدورهم وقلوبهم، ويوحي إليهم أن أمور الدنيا كلها عائدة إليهم! وأن حياتهم ملك خالص لهم! فمن هذا يملك الحق في أن يعبث بحياتك، فيأمرك أو ينهاك! ويعطيك أويَحْرمك! وأنت سيد نفسك، ومالك أزِمَّةِ أمورك! وهذا والله بداية الضلال وطريق الانحراف، الذي سلكه كثير من الشيبة والشباب، فآمنوا بالأرض تحت أقدامهم، وأنكروا السماء فوق رؤوسهم، فتسارع الوهم إلى صدورهم، وظنوا أن عِلْمَ كل شيء منهم وإليهم. قرأت في القرآن الكريم يوما قول الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[3] ، فعلمت مقدار حقارة من يقطع صلته بالسماء، وخِسَّةَ من يحصر همه بالأرض. ولا أدَلَّ على عظمة الخالق، وقوته وعلمه وحكمته، من هذه الأبدان والعقول والقلوب التي نحيا بها، فهل نشتغل بها ونتناسا من وهبها وأكرمنا بها، ألم يقل الله تعالى في السورة الكريمة التي يتلوها الأطفال منذ الصغر: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[4]!! أليس من وهب العقل بأعلم منا! أليس من وهب الإرادة بأعظم إرادة منا، أليس من أودع فينا المشيئة بأوسع منا مشيئة! أم أن وحْي الشيطان اللعين، ووهْم المضلين المفسدين قد غطى على العيون فصارت لا تبصر، وحجب الحق عن القلوب فأصبحت لا تفقه من الأمر شيئا! إن الله عز وجل يقول في تتمة الآيات السالفة: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[5]. إن القرآن الكريم يرسم لنا الخط المستقيم الذي يوصل إلى الحق، ويسوق إلى ساحة الرحمن، وهو خط ينطلق من النفس الإنسانية ذاتها، حينما يعترف المرء فيما بينه وبين نفسه، أن له ربا في السماء، هو الذي قدَّر له قدره، وقسم له رزقه، ويسَّر له أمره، وأنه لا يملك لنفسه أن يقدم أو يؤخر بإرادته ومشيئته، إلا إذا شاءت من فوقه الإرادة العليا، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[6] . إن الطريق إلى الله تعالى ينطلق منك أنت أيها الإنسان، حينما تعترف بأنك إنسان مخلوق، وأن المدبر العظيم لكل أمورك هو الخالق العظيم، الذي خلقك فأكرم، ووهب لك فأنعم. والله المستعان الأستاذ : سعيد المنجا / مدينة أفورار