أيها الفضلاء: هذه البلدة[التي عُيِّنْتُ فيها أستاذا للتعليم الإعدادي 2003] أفاض الله علينا من بركاتها، وعلمت يقينا قوله تعالى:" فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا"، فكانت سببا في فتوحات كثيرة، وذات يوم اتصل بي السيد منسق الأنشطة بالمجلس العلمي بمكناس، وقال لي إن الأستاذ يطلب منك أن تجمع أئمة المنطقة وفقهاءها، وتعلن في الناس أن السيد رئيس المجلس العلمي سيأتي في زيارة رسمية- يوم كذا مع صلاة العصر- لمسجد البلدة؛ مع الأعضاء وبعض الوعاظ المتعاونين مع المجلس، وفعلا قمت بما طلب مني، وبدأت بالإعلام، هذا يعلم هذا، وذاك يعلم ذاك، إلا أن الأستاذ كان عنده نشاط آخر في نفس اليوم بمدينة زرهون، فأخروه عن الوصول إلينا قليلا، فنادى علي بالهاتف بعد أن صلينا العصر، وتعذر عليه الوصول قبله، وقال لي: اعتذر لعموم الناس واتركهم يمشون، وامسك لي الأئمة والفقهاء، فحاجتي بهم أكثر من عموم الناس، فبقينا في المسجد ننتظره إلى أن سمعنا بوصول سيارات الضيوف، فخرجنا لاستقبالهم والترحيب بهم، ودخلنا إلى المسجد، وقال لي في أذني، وقد قصدنا المحراب ليجلس من إجل إلقاء كلمته، نجلس على مذهب مالك : أن لا صلاة بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، وشرع في إلقاء كلمته.. فتحدث عن أهمية القرآن، وواجب الأئمة في المحافظة عليه، وعلى الأعراف المتعلقة بتحفيظه، ومنها عرف "ترتيب الطلبة" من أجل حفظ القرآن؛ كما كانت هذه البلدة ونواحيها معروفة به في السابق، بل مما جاء في كلامه : "أن كل إمام؛ لو جمع عنده أربعة من الطلاب فصاعدا، فليسجل أسماءهم، ولْيَقْدُمْ بهم إلى الأستاذ ؛ من أجل أن يرصد لهم إعانات من المحسنين تشجع الطلاب على ملازمة الحفظ، وتوفر لهم بها ما يحتاجونه من مؤنة"، ثم أنهى كلمته ، وأخرج من جيبه قدرا من المال، وقال للفقهاء : "هذا من مالي الخاص، اقسموه بينكم بالسوية ، وادعوا لي بظهر الغيب، فإني مريض هذه الأيام.."، ثم أخرج قدرا آخر من المال ، وقال: انه من أحد المحسنين، وزاد مؤكدا على قسمة المال بالسوية لما رأى طالبا حديث السن، قال لهم بالحرف الدارج "كيف الكبير كيف الصغير". = أي حق طالب القرآن الصغير من المال، كحق الحافظ أو الفقيه الكبير.. ثم ختم المجلس؛ فكان ختما مؤثرا ،ودعا له الجميع وتأثروا، وبكى بعضهم، ثم خرجنا وقال لي: إلى أين الآن يا عبد المنعم؟ ، فقلت له يا أستاذ إلى مقر عملي بالإعدادية؛ فإن السيد المدير قد اغتنم المناسبة، وجمع لك التلاميذ من أجل أن تلقي فيهم كلمة توجيهية، فانطلقنا إلى الإعدادية، ووجدنا السيد المدير والأساتذة في استقبالنا، فرحبوا ترحيبا حارا بالأستاذ وضيوفه، ودخل إلى المؤسسة؛ فرأي ساقية ماء، فقصدها، وقال: "نشرب من هذا الماء المبارك لعله يكون شفاء"، ثم انطلق إلى أن وصل إلى قاعة اجتماع التلاميذ، وكانت كلمته من وحي المكان: أنْ رأى الإعدادية في غابة من أشجار الزيتون، مرافقها متباعدة لشساعة مساحتها، فتحدث عن قضية " التلوث الضوضائي في المدن وأثره على الفكر النفسي والعقلي " ، وذكرنا بنعمة موقع المؤسسة والبلدة؛ فأحيا فينا شكرا بنعم، ربما جحدناها لكثرة إلفنا لها، وحصلت نفحات ربانية، وسكن الجميع كأن على رؤسهم الطير، وأمنوا على أدعية نورانية صدرت من الأستاذ في ختام الكلمة، وتنمى الكل أن لو لم يختم الأستاذ كلمته.. ولكن كما قال الشاعر: ولو نُعطى الخيارَ لما افترقنا **ولكن لا خيارَ مع الزمانِ! ثم شيعه الجميع في موكب مهيب إلى باب المؤسسة، فودعناه ثم افترقنا..