هوية بريس-متابعة في الخامس من فبراير عام 2003، وقف وزير الخارجية الأميركي الأسبق الراحل كولن باول (1937-2021) أمام مجلس الأمن قائلا: "ما نقدمه لكم هي حقائق واستنتاجات مبنية على استخبارات قوية، تؤكد امتلاك العراق أسلحة دمار شامل". كان ذلك الخطاب بمثابة إعلان صريح لغزو العراق الذي تم يوم 19 مارس/ آذار 2003، وإسقاط النظام فعليا يوم التاسع من أبريل/ نيسان 2003. أظهر باول آنذاك -الذي حضر الجلسة مصحوبا برئيس وكالة الاستخبارات الأميركية جورج تينيت- أنبوبا يحوي مسحوقا أبيض (في إشارة إلى أنثراكس أو الجمرة الخبيثة)، وصورا لأقمار اصطناعية مؤكدا أنه يقدم أدلة "لا يمكن دحضها" عن إخفاء نظام صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، وأنه يواصل خروقاته المادية لقرار مجلس الأمن 1441 لعام 2002، وطلب من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الضوء الأخضر للقيام بعمل عسكري ضد العراق. واتهم باول أيضا نظام الرئيس الراحل صدام حسين بعلاقته بتنظيم القاعدة، مؤكدا أنه لا يستحق منحه فرصة أخرى، غير أنه بعد عامين من الغزو وإسقاط النظام، عبر عن ندمه على هذا الخطاب، مؤكدا أنه سيظل "وصمة عار في مسيرته السياسية". وقال: "إنه فعلا نقطة سوداء لأنني كنت أنا الذي قدمته باسم الولاياتالمتحدة إلى العالم، وسيظل ذلك جزءا من حصيلتي". استند خطاب باول في ذلك الوقت على معلومات للمؤسسات الاستخباراتية والعسكرية الأميركية لتبرير الغزو، موجهة للرأي العام الداخلي والخارجي التي اتضح لاحقا أنها مضللة، ونعتها الإعلام الأميركي ب"كذبة القرن"، رغم أنه روج لها بشكل هائل في حينه، وقد كلفت العراق هذه "الكذبة" ثمنا باهظا وأدخلته في أزمة سياسية واقتصادية عميقة. اعترف باول بأن خطابه الذي اتهم فيه العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل سيظل نقطة سوداء في ملفه باول اعترف بأن خطابه الذي اتهم فيه العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل سيظل نقطة سوداء في ملفه (رويترز) وفي الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2008 شكك الرئيس جورج دبليو بوش الابن نفسه في الأدلة التي قادت إلى غزو جيشه للعراق قائلا: "أكثر ما ندمت عليه خلال الرئاسة هو فشل المخابرات في العراق، فالكثير من الناس وضعوا سمعتهم على المحك وقالوا إن أسلحة الدمار الشامل سبب للإطاحة بصدام حسين". أما رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير فقد عبّر في السادس من يوليو/ تموز 2016 أيضا عن "أسفه وحزنه"، وقدم "اعتذاراته"، بعد نشر تقرير لجنة تشيلكوت حول غزو العراق عام 2003، ينتقد مشاركة بريطانيا فيه. وقال بلير خلال مؤتمر صحفي: "كان ذلك القرار هو الأكثر صعوبة الذي اتخذته.. أنا أتحمل كامل المسؤولية وأعبر عن ألمي وأسفي وأقدم اعتذاراتي". لكنه قال أيضا: "إن التقرير أوضح أنه لم تكن هناك أكاذيب، ولم يتم تضليل الحكومة والبرلمان ولم يكن هناك التزام سري بالحرب". وعلى غرار كولن باول وجورج بوش الابن، شارك عدة مسؤولين غربيين في تبرير الغزو، لكنهم لاحقا عبروا -بشكل أو بآخر-عن ندمهم لمساهمتهم في ذلك، بينهم مفتشون عن أسلحة الدمار الشامل، مثل السويدي هانس بليكس (Hans Blix) كبير مفتشي الأسلحة التابع للأمم المتحدة في فترة ما قبل الحرب الذي قدم تقريرا إيجابيا حول تعاون العراق مع اللجنة قبل الغزو. لاحقا، وأثناء إفادته أمام لجنة تشيلكوت قال بليكس: "إنه تم جر بريطانيا للمشاركة في حرب لا يمكن الدفاع عنها من الوجهة القانونية"، مشيرا إلى أنه طلب مزيدا من الوقت لإكمال مهمته، ولكن واشنطن ولندن تجاهلتا طلبه وقامتا بالغزو، بعد أن ضخمتا المعلومات الاستخبارية التي كانت متوفرة قبل الحرب لتعزيز موقفهما الداعي الى استخدام القوة، وفق تصريحاته. وكان سكوت ريتر(Scott Ritter)، أحد أشهر المفتشين عن أسلحة الدمار الشامل العراقية من 1991 إلى 1998، قد انتقد بشكل واسع مبررات الحرب، خصوصا أنه أكد في تقرير له خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، وقال لاحقا -بعد أن أصبح من أشد المناهضين للغزو ومبرراته- "إن العراق خضع لأكبر عملية تفتيش عسكرية في التاريخ شاركت أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية والإسرائيلية في التأكد منها". وأشارت معظم التقارير والشهادات والوقائع لاحقا إلى أن تلك المبررات التي سيقت لتبرير غزو العراق كانت الفصل الأخير من "قانون تحرير العراق"، الذي أصدره الكونغرس ووقعه الرئيس بيل كلينتون في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 1998، وينص على أنه "ينبغي أن تكون سياسة الولاياتالمتحدة دعم الجهود الرامية إلى إزالة النظام الذي يرأسه صدام حسين من السلطة في العراق..". وكانت أيضا جزءا من إعادة تشكيل المنطقة والعالم وفق تصورات الإدارة الأميركية في ذلك الوقت. الحرب والديمقراطية في 20 مارس/ آذار عام 2003 شنت الولاياتالمتحدة الحرب على العراق بغرض الإطاحة بحكم الرئيس صدام حسين وتدمير مخزونه المزعوم من أسلحة الدمار الشامل. وكانت الغارات الجوية الأميركية قد بدأت قبلها بيوم بعد خطاب للرئيس جورج دبليو بوش قال فيه: "في هذه الساعة انطلقت المراحل الأولية من العمليات العسكرية للقوات الأميركية والحليفة لنزع سلاح العراق ولحماية العالم من الخطر الجسيم". مع العلم أن القوات الأميركية المدعومة بقوة بريطانية أخفقت بالعثور على أسلحة دمار شامل في العراق. ورغم اعتقال صدام حسين ومحاكمته وشنقه في 30 ديسمبر/كانون الأول 2006. ما زال العراق يعاني من ندوب عميقة خلفها الغزو، وصاحبها دمار اقتصادي واضطرابات سياسية، أفضت إلى وقوع العراق تحت تأثير النفوذين الأميركي والإيراني. ورغم أن الحرب أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 200 ألف مدني عراقي، ونحو 4500 جندي أميركي، وشيوع الفوضى في العراق وعدم الاستقرار في المنطقة بأسرها، فإن التساؤلات حول الأسباب الحقيقية لشنها ما زالت قائمة. وأصبح واضحا أن السياسيين والمنظرين الأميركيين كانوا يمهدون الطريق لاحتلال العراق قبل أعوام من إقدام جيشهم على تطبيق ذلك. فبعد قيام صدام حسين بغزو الكويت صيف العام 1990، كشف الرئيس الأميركي جورج بوش الأب عن عزمه على فرض "ديمقراطية ليبرالية" في العراق، مفسحا بذلك المجال أمام المحافظين الجدد الذين بدؤوا ضغوطهم لخلع صدام من الحكم. وتغذى قرار شن الحرب على المخاوف الأمنية التي ولدتها هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، التي اختلطت بدورها بالدوافع الأيديولوجية الرامية إلى تحرير العراق والمنطقة وفرض الديمقراطية عليها. ووجد هذا التوجه ترجمته في 20 مارس/ آذار 2003 عندما غزت القوات الأميركية والبريطانية وحلفاؤها أراضي العراق انطلاقا من الكويت، وحطمت الجيش العراقي النظامي وأزاحت صدام حسين عن السلطة. وما هي إلا 3 أسابيع حتى بلغت القوات الغازية العاصمة بغداد. وقامت بالتعاون مع عدد من المدنيين بتحطيم تمثال الرئيس صدام حسين وإسقاطه في ساحة الفردوس، لتكون هذه الخطوة تلخيصا رمزيا للانتصار الأميركي وتخلص العراقيين من الدكتاتورية والذي احتل عناوين الصحف عبر العالم. وفي الأول من مايو/أيار أعلن الرئيس جورج بوش الابن من على ظهر حاملة الطائرات "يو إس إس لينكولن" نهاية العمليات القتالية الرئيسية في العراق، في حين تجاهل المسؤولون الأميركيون حالة الفوضى التي انتشرت بسرعة في أرجاء العراق مؤشرة على فشل القوات الأميركية، معتبرين أنها قليلة الأهمية. قبل أن ينقضي عام على الغزو، وفي 13 كانون الأول/ ديسمبر 2003 ألقي القبض على صدام حسين في بلدة الدور قرب مدينة تكريت مركز محافظة صلاح الدين في ما أطلق عليها "عملية الفجر الأحمر" (Operation Red Dawn). وقد حوكم في وقت لاحق ونفذ فيه حكم بالإعدام بعد إدانته بارتكاب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية. وكانت الإدارة الأميركية قد أقرت قبل اعتقال صدام بوقت قصير بأن مزاعمها بشأن امتلاك العراق أسلحة كيميائية وبيولوجية ونووية كانت بالأصل عارية عن الصحة. وخلصت لجنة تحقيق رئاسية إلى أن المعلومات الاستخبارية الأميركية حول امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل كانت مختلقة، وأنه "لم يتوفر دليل واحد" على صحتها. وتبين كذلك أن شهادات وروايات المنشقين العراقيين وأعضاء المجلس الوطني العراقي بهذا الشأن كانت مختلقة ولا أساس لها من الصحة. المرحلة الانتقالية في مايو/ أيار 2003، قام رئيس سلطة التحالف المؤقتة السفير بول بريمر بحل الجيش وأجهزة الاستخبارات العراقية وحظر مشاركة حزب البعث في العمل السياسي. وأدى القرار إلى إقصاء مئات الآلاف من العراقيين المدربين، وخلق ذلك فراغا أمنيا وسياسيا في بلد تعرض لسنوات من التدمير. وترافق انتقال السلطة من أيدي الأميركيين إلى العراقيين خلال العقد الأول من القرن الحالي مع مقتل عشرات آلاف العراقيين، واندلاع انتفاضة مسلحة ضد الوجود الأميركي، ثم دخلت البلاد في حالة من عدم الاستقرار ما لبثت أن تحولت في بعض فصولها إلى حرب أهلية. الانتخابات والعنف الطائفي في أعقاب سقوط صدام الذي اتهم بقمع العراقيين الشيعة والأكراد، تفرغت السلطة العراقية المؤقتة لخلق نوع من التوازنات العرقية والطائفية في البلاد، فلجأت بعد عام 2003 إلى المحاصصة الطائفية عند اختيارها لأعضاء مجلس الحكم، عبر توفير تمثيل نسبي للجماعات الشيعية والسنية والكردية داخل أجهزة الدولة. وفي حين أتاح اعتماد هذا النظام قوة سياسية واقتصادية للأحزاب التي هيمنت على المشهد السياسي منذ عام 2003، فقد عمق في الوقت ذاته الانقسامات الطائفية التي استشرت داخل العراق وفي المنطقة. ورغم انتشار العنف، منح العراقيون عام 2005 أصواتهم لحكومة بولاية كاملة ولبرلمان يضم غالبية من الأحزاب الشيعية. وبعد إقرار دستور عام 2005، قام نظام حكم يمنح منصب رئاسة الوزراء للشيعة ورئاسة البرلمان للسنة، في حين كانت رئاسة الدولة ذات الصلاحيات الشكلية من نصيب الأكراد. كان فشل الحكومات المتعاقبة في التعامل مع العراقيين السنة وعدم فعالية مؤسسات الدولة وفسادها، سببا لانتشار العنف الطائفي في أرجاء البلاد. واتخذ ذلك شكل التمرد في الأنبار والفلوجة، بالتزامن مع تصاعد أعمال العنف في مناطق الجنوب حيث الوجود القوي لأنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر. المصدر : الجزيرة