ثبت أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين حين قدموا المدينة كانوا يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، ثم جاء الأمر الإلهي بعد ذلك بالصلاة قِبلَ الكعبة المشرفة، ونزل في ذلك آيات كريمة كما سيأتي. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حريصاً على أن يتوجَّه في صلاته إلى قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، فهو أولى النَّاس به؛ لأنَّه من ثمرة دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام، وحامل لواء التَّوحيد بحقٍّ كما حملها إبراهيم عليه السلام، وهو صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يكون مستقلاً، ومتميِّزاً عن أهل الدِّيانات السَّابقة؛ الَّذين حرَّفوا، وبدَّلوا، وغيَّروا؛ كاليهود، والنَّصارى؛ ولهذا كان ينهى عن تقليدهم والتَّشبُّه بهم؛ بل يأمر بمخالفتهم، ويحذِّر من الوقوع فيما وقعوا فيه من الزَّلل، والخطل[(575]، والآنحراف، ومقتضى هذا الحرص أن يتوجَّه في صلاته بشكل دائم إلى قيلة أبي الأنبياء، وهو أول بيت وضع للناس[(576)]. تكاد تكون حادثة تحويل القبلة، من بيت المقدس إلى الكعبة المشرَّفة هي الفاصل بين الحرب الكلاميَّة، وحرب المناوشات، والتدخُّل الفعليَّ من جانب اليهود، لزعزعة الدَّولة الإسلاميَّة الناشئة. (اليهود في السُّنَّة المطهَّرة، 1/258) فعن البَرَاء بن عازبٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان أولَ ما قَدِمَ المدينة نزل على أجداده – أو قال: أخواله – من الأنصار، وأنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى قِبَلَ بيت المقدس ستةَ عَشَرَ شهراً، أو سبعةَ عَشَرَ شهراً، وكان يُعجبه أن تكون قبلتُه قِبَلَ البيت، وأنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى أوَّل صلاةٍ صلاها، صلاةَ العصر، وصلَّى معه قومٌ، فخرج رجلٌ ممَّن صلَّى معه، فمرَّ على أهل مسجدٍ؛ وهم راكعون، فقال: أشهد بالله! لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكَّة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم أنَّه كان يُصلِّي قِبَلَ بيت المقدس، وأهلُ الكتاب، فلمَّا ولَّى وجهه قِبَلَ البيت؛ أنكروا ذلك [البخاري (40) ومسلم (525)]، وقد نزلت في هذه الحادثة آيات عظيمة، فيها عِبَرٌ، وحكمٌ ودروسٌ للصفِّ المسلم. قال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشُوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آياتنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 149 – 152] . إن لحادثة تحويل القبلة أبعاداً كثيرة: منها السِّياسيُّ، ومنها العسكريُّ، ومنها الدِّينيُّ البحت، ومنها التاريخيُّ؛ فبعدها السياسيُّ: أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبعدها التَّاريخيُّ: أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربيِّ لإبراهيم – عليه الصَّلاة والسَّلام – وبعدها العسكريُّ: أنَّها مهَّدت لفتح مكة ، وإنهاء الوضع الشَّاذِّ في المسجد الحرام، حيث أصبح مركز التَّوحيد مركزاً لعبادة الأصنام، وبُعدها الدينيُّ: أنها ربطت القلب بالحنفيَّة، وميَّزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام في بقية الأديان. *﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آياتنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 149 – 152]. إنَّ نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييزكم بشخصيَّتكم من نعم الله عليكم، وقد سبقتها آلاء من الله كثيرةٌ عليكم؛ منها: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ﴾: فوجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم – إمام المربيِّين والدُّعاة – هو من خصيصة هذه النخبة القيَّاديَّة، الَّتي شرَّفها الله تعالى بأن يكون هو المسؤول عن تربيتها؛ فقيه النُّفوس، وطبيب القلوب، ونور الأفئدة، فهو النُّور، والبرهان، والحجَّة. ﴿ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آياتنَا﴾: فالمادة الأساسيَّة للبناء والتَّربية كلام الله تعالى، وكان يرافقهُ شحنةٌ عظيمةٌ لنزوله أوَّل الأمر غضَّاً طريَّاً، فكان جيلاً متميِّزاً في تاريخ الإنسانيَّة. ﴿ وَيُزَكِّيكُمْ﴾: فالمعلِّم المربِّي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فهو المسؤول عن عمليَّة التربيَّة، وهو الَّذي بَلَغَ من الخُلُق، والتَّطبيق لأحكام القرآن الكريم ما وصفه الله تعالى به من هذا الوصف الجامع المانع، الذي تفرَّد به صلى الله عليه وسلم من دون البشريَّة كافَّةً، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وهو الَّذي وصفته عائشة رضي الله عنها، بأعظم ما يملك بشرٌ أن يصف به نبيَّاً، فقالت: «كان خُلُق نبيِّ الله القرآن» [البخاري في الأدب المفرد (308) وأحمد (6/91) والنسائي في السنن الكبرى (11287)] فكان الصَّحابة يسمعون القرآن الَّذي يُتلى من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرون القرآن الَّذي يمشي على الأرض، متجسِّداً في خلُقه الكريم صلى الله عليه وسلم . : فهذه هي المهمَّة ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، تعليم الصَّحابة الكرام الكتاب، والحكمة، فالقرآن الكريم لكي يكون مؤثراً في الأمَّة لا بدَّ من المربِّي الرَّبَّانيِّ الَّذي يزكِّي النُّفوس، ويطهِّر القلوب، ويعلِّمها شرع الله تعالى من خلال القرآن الكريم، وسنَّة سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم ؛ فيشرح للمسلمين غامضَه، ويبيِّن مُحْكَمَهُ، ويفصِّل مجمله، ويسأل عن تطبيقه، ويصحِّح خطأ الفهم لهم؛ إن وجد. كان الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، يعلِّم، ويربِّي أصحابه؛ لكي يُعلِّموا، ويربُّوا النَّاس على المنهج الرَّبَّانيِّ، فتعلَّم الصَّحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج التَّعليم، ومنهج التَّربية، ومنهج الدَّعوة، ومنهج القيادة للأمَّة من خلال ما تسمع، وما تبصر، ومن خلال ما تعاني وتجاهد، فاستطاع صلى الله عليه وسلم أن يعدَّ الجيل إعداداً كاملاً، ومؤهِّلاً لقيادة البشريَّة، وانطلق أصحابه من بعده يحملون التَّربية القرآنيَّة، والتَّربية النَّبويَّة إلى كل صُقْعٍ، وأصبحوا شهداء على النَّاس. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾: ماذا كانوا قبل الوحي والرِّسالة؟ وماذا أصبحوا ذلك؟ كانوا في حروبٍ، وصراعٍ، وجاهليَّةٍ عمياء، وأصبحوا بفضل الله، ومَنِّهِ، وكرمه أمةً عظيمةً، لها رسالةٌ، وهدفٌ في الحياة، لا همَّ لها إلا العمل ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، وحقَّقوا العبوديَّة لله وحده، والطاعة للهِ وحده، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وانتقلوا من نزعة الفردية، والآنانيَّة، والهوى إلى البناء الجماعيّ، بناء الأمَّة، وبناء الدَّولة، وصناعة الحضارة، واستحقَّت بفضل الله، ومَنِّه أعظمَ وسَامَيْنِ في الوجود، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، وقال – أيضاً -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]. (التَّربية القياديَّة، 2/438 442) ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾: فهذه المنن، وهذه العطايا، وهذه الخيرات تحتاج لذكر الله في الغدوِّ، والاصال، وشكره عليها، وحثَّهم المولى – عزَّ وجلَّ – على ذكره، وبكرمه يُذكرون في الملأ الأعلى، بعدما كانوا تائهين في الصَّحاري، ضائعين في الفيافي، وحُقَّ لهذه النعم جميعاً أن تُشْكَر!. وهكذا الآيات الكريمة تربِّي الصَّحابة – من خلال الأحداث العظيمة كحادثة تغيير القبلة- وتصوغ الشَّخصيَّة المسلمة القويَّة، الَّتي لا ترضى إلا بالإسلام ديناً، والتَّي تعرَّفت على طبيعة اليهود من خلال القرآن الكريم، وبدأت تتعمَّق في ثنايا طبيعتهم الحقيقيَّة، وانتهت إلى الصُّورة الكلِّيَّة النِّهائيَّة، الَّتي تربوا عليها من خلال القرآن الكريم، والتَّربيَة النَّبويَّة. قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120] . المراجع: التَّربية القياديَّة لمنير الغضبان، دار الوفاء – المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 ه 1998 م. السيرة النبوية، عرض وقائع وتحليل أحداث، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2005م. اليهود في السُّنَّة المطهَّرة، د. عبد الله الشقاري، دار طيبة – الرِّياض، طبعة أولى، 1417 ه 1996