في خضم الأزمة الممتدة التي تعرفها ليبيا، عاد الحديث عن الملكية وعودتها إلى ليبيا لمعالجة العطب البنيوي في هوية النظام السياسي، وذلك بحكم الفراغ الذي أحدثه القذافي في مؤسسات دولة، كانت سباقة إلى اعتماد دستور كان يتضمن مؤشرات عن قيام دولة ديموقراطية، ولعل أهمية الملكية كعامل لوحدة الليبيين تتجلى في الدور المركزي العملي والرمزي الذي لعبه علم الاستقلال، والذي كان ثمرة من ثمار الملكية الدستورية في دستور الاستقلال الذي تزامن مع إعلان ليبيا مملكة متحدة، فقد شكل علم "المملكة الليبية" عامل وحدة بين الفصائل والتيارات السياسية والأيديولوجية المختلفة التي حملت السلاح لإسقاط نظام القدافي، بل إن ذلك العلم كان نقطة الاتفاق الوحيدة. المملكة الليبية هي الدولة التي وجدت في ليبيا بعد استقلالها في 24 كانون الأول (ديسمبر ) 1951 وعاصمتها مدينة طرابلسوبنغازي منذ عام 1951 حتى 1963، ومن عام 1963 حتى 1969 اتخذت من مدينة البيضاء عاصمة لها، أقر في الدستور الليبي الصادر في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 1951 الذي أقرته "الجمعية الوطنية الليبية" بمدينة بنغازي وجاء في تصديره: نحن ممثلي شعب ليبيا من برقة وطرابلس الغرب وفزّان المجتمعين بمدينة طرابلس فمدينة بنغازي في جمعية وطنية تأسيسية بإرادة الله. بعد الاتفاق وعقد العزم على تأليف اتحاد بيننا تحت تاج الملك محمد إدريس المهدي السنوسي الذي بايعه الشعب الليبي، ونادت به هذه الجمعية الوطنية التأسيسية ملكاً دستورياً على ليبيا. وعلى تكوين دولة ديموقراطية مستقلة ذات سيادة تؤمن الوحدة القومية وتصون الطمأنينة الداخلية وتهيئ وسائل الدفاع المشتركة وتكفل إقامة العدالة وتضمن مبادئ الحرية والمساواة والإخاء، وترعى الرقي الاقتصادي والاجتماعي والخير العام. وبعد الاتكال على الله مالك الملك، وضعنا وقررنا هذا الدستور للمملكة الليبية المتحدة"، تأسست المملكة في البداية باسم المملكة الليبية المتحدة واستمر العمل بهذا التسمية حتى 26 أبريل 1963 حين عُّدل إلى «المملكة الليبية» وذلك بعد إلغاء النظام الاتحادي الذي كان يجمع بين الولايات الليبية الثلاث طرابلس، برقة وفزان، وكانت مدينة البيضاء كعاصمة لها. الأسرة السنوسية الملكية في ليبيا كانت أسرة مقاومة وهي امتداد للزاوية السنوسية التي كانت توحد الليبيين ومناطق أخرى في السودان ومصر، وعرف على الملك إدريس السنوسي بمقاومته للأطماع الأجنبية، حيث دفعته قوات الاحتلال الايطالية إلى اللجوء لمصر فقام بتنصيب عمر المختار نائباً له مكلفاً بالعمل العسكري المقاوم، وأعلن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عن استقلال برقة سنة 1949 وأعلنها إمارة بدستور يمنح حق الانتخاب وكل الضمانات الديموقراطية لدولة ناشئة، قبل أن تلتف حوله القبائل الليبية لتعلنه ملكاً على مجموع ليبيا وإعلان دستور ينظم شؤون ملكية دستورية بداية من 1951، وقد عرف عن الملك السنوسي زهده واستقامته. يقول المعارض الليبي يوسف المكريسي عن الظروف التي قادت معمر القذافي إلى السلطة "كانت مجموعة سبتمبر (يقصد مجموعة القذافي) قد علم بتحركاتها القاصي والداني في ليبيا قبل اغتصابها للسلطة، ولم يتخذ مع ذلك أي إجراء بشأنها، فقد ساهم استخفاف النظام الملكي بالأمن الوطني في هذه الكارثة التي حلت بنا جميعاً"، المكريسي يذهب إلى أبعد من هذا، ويقول إنه ما كان للقذافي أن يفكر مجرد التفكير في الاستيلاء على السلطة لو حوكم الضباط الذين قاموا بالعصيان العسكري في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 1961 بتهمة الخيانة العظمى (وهذا ما طالب به الملك إدريس حقاً في بداية الأمر)، ونالوا جزاءهم الحقيقي الذي يستحقون، ولكن أغلبهم نالوا أحكاماً هزيلة تتراوح بين سنة وسنتين. ولم تكد تمضي سنتان حتى أصدر الملك عفواً عن جميع الضباط الذين سجنوا في تلك الحوادث، بل لم يكد يمضي أسبوع على العصيان حتى صدر مرسوم بتعيين اللواء السنوسي لطيوش، قائد التمرد، سفيراً في الخارجية بعد إقالته من رئاسة الأركان، ثم عُين وزيراً للمواصلات والأشغال العامة في التعديل الوزاري الأول لحكومة محمود المنتصر في ربيع 1964، أي بعد سنتين وخمسة أشهر فقط من محاولته الانقلابية. لذلك يتساءل المعارض الليبي "إذا كان هذا هو جزاء من يتمرد على الحكم، فكيف لا يغري هذا الأمر ضباطاً أقزاماً على تكرار المحاولة؟"، هكذا قاد الملازم (وهي بالمناسبة أقل رتبة عسكرية يقود صاحبها انقلاباً عسكرياً في التاريخ) معمر القذافي انقلاب الفاتح من سبتمبر الذي أنهى الملكية ودستور 1951 وهو لم يتجاوز 27 سنة من العمر، وأدخل ليبيا في نزعة تجريبية في الحكم اختلط فيها الجنون بالواقع، وزاد النفط من تكريس سلطة لا مثيل لها في العالم اتسمت على المستوى الداخلي بتجهيل ممنهج للشعب، وفق نظريات مفارقة لتطور التاريخ وكل التجارب التي راكمتها الإنسانية في تنظيم الحكم، وعلى المستوى الخارجي تميزت بركوب موجة الناصرية وكل الشعارات الطوباوية العنترية التي لم تقرن أبداً القول بالفعل، وبقيت خطب العقيد مجرد إنشاء ساعدته الثروة التي تنام عليها ليبيا أن يكون له توقير من عدد من بلدان العالم طمعاً في جزء من الثروة وليذهب الشعب الليبي للجحيم. نظام القذافي وأسلوبه في الحكم كان لهما أثر مباشر في ما تعرفه ليبيا اليوم من صعوبات الانتقال من الثورة إلى الدولة، ببساطة لأن النظام السابق لم يضع أسساً للدولة، وفضل الاشتغال ببنيات قبلية متداخلة لتشتيت الخصوم المفترضين واللعب على التناقضات وخلق الصراعات بين كل التيارات التي بإمكانها أن تطور طموحاً في الحكم، وهذا الأمر لم يستثنِ الجوانب الأمنية والعسكرية، حيث خلق النظام السابق أكثر من جهاز للأمن بغية تحقيق التوازن والحماية من الاختراق، وبالنسبة للجيش الذي حمل العقيد إلى سدة الحكم، فقد قرر القذافي أن يعدم هذه المؤسسة خوفاً من أن يلقى المصير نفسه الذي لقيه الملك السنوسي، حيث اكتفى بخلق ميليشيات وكتائب عسكرية يقودها أبناؤه، ليس كقادة عسكريين نظاميين، بل كزعماء عصابات على طريقة المافيا والمرتزقة، وهذا المنطق في تدبير مرافق الدولة الأكثر حيوية، ترافق مع جميع أشكال الفساد في التدبير المالي والاقتصادي، هذا الواقع الذي استمر أكثر من أربعين سنة، أثر على أجيال كثيرة من الليبيين وخلق بيروقراطية منعدمة الكفاءة، وثقافة اتكالية في المجتمع تعيش على الريع وما يمنحه رأس النظام كرشوة لشراء الولاء والصمت. على النقيض من ذلك، كان هناك ليبيون أكفاء مهمشون داخل الدولة وخارجها، سواء من المعارضين أو ممن كانوا يبحثون عن أفق علمي أو مهني لا يقتل فيهم الرغبة في التطور.. هذه الفئات المختلفة وحّدتها الثورة، من خلال هدف واحد وهو إسقاط نظام القذافي، لكن دون امتلاك رؤية لما سيكون عليه النظام المقبل، فكان الليبرالي يقاتل إلى جانب اليساري إلى جانب الإسلامي، لكن هذه الصورة الجميلة تأكد اليوم أنها كانت صورة خادعة، فكل تيار سياسي أصبح يطالب بمقابل يوازي قدر مساهمته في الثورة ويسند مطلبه بتحالفات خارجية متناقضة تتصارع على أرض ليبيا منذ سبع سنوات، فتحولت الثورة بذلك إلى بورصة وأسهم موزعة بين تيارات المقاتلين. إن طول المرحلة الانتقالية في ليبيا، واستمرار مظاهر التسلح الميليشياتي، وغياب الدولة المركزية، وانتقال مقاتلي "داعش" إليها من سوريا، ينذر بعواقب وخيمة ليس فقط على ليبيا، لكن على منطقة شمال أفريقيا ككل. فهل تعود الملكية إلى ليبيا بوصفها عامل وحدة وطنية كما صنعت ذلك بداية الاستقلال؟