أسبوع "الاحتفاء بمهن السياحة 2025".. التزامات ملموسة من أجل مستقبل السياحة المغربية    أحوال الطقس ليوم الأربعاء: برد وزخات مطرية في مناطق واسعة من البلاد    جيراندو يعمد إلى تزوير عمر الفتاة القاصر لكسب تعاطف المغاربة.. ويتجاهل شقيقته وزوجها بعدما ورطهم في جرائمه..    بلاغ حول انعقاد الدورة العادية لمجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة    مصرع شخصين في اصطدام عنيف بين شاحنتين بطريق الخميس أنجرة بضواحي تطوان    15 قتيلا و2897 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    الحزب الثوري المؤسساتي المكسيكي يدعو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الانضمام للمؤتمر الدائم للأحزاب السياسية في أمريكا اللاتينية والكاريبي    تراجع الصادرات ب 886 مليون درهم.. وتفاقم العجز التجاري ب 24.5 مليار درهم    كأس العرش 2023-2024 (قرعة).. مواجهات قوية وأخرى متكافئة في دور سدس العشر    ترامب يعلق جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد أيام من مشادته مع زيلينسكي    القاهرة.. انطلاق أعمال القمة العربية غير العادية بمشاركة المغرب    التنديد بانتهاكات حقوق الإنسان في مخيمات تندوف بالجزائر أمام مجلس حقوق الإنسان بجنيف    أسعار اللحوم في المغرب.. انخفاض بنحو 30 درهما والناظور خارج التغطية    وكالة بيت مال القدس تشرع في توزيع المساعدات الغذائية على مؤسسات الرعاية الاجتماعية بالقدس    إطلاق برنامج طلبات عروض مشاريع دعم الجمعيات والهيئات الثقافية والنقابات الفنية والمهرجانات برسم سنة 2025    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على أداء سلبي    بنك المغرب يحذر من أخبار مضللة ويعلن عن اتخاذ إجراءات قانونية    أمن فاس يوقف 6 أشخاص متورطون في الخطف والإحتجاز    استئنافية مراكش ترفع عقوبة رئيس تنسيقية زلزال الحوز    مقاييس الأمطار بالمغرب في 24 ساعة    انتخاب المغرب نائبا لرئيس مجلس الوزارء الأفارقة المكلفين بالماء بشمال إفريقيا    التفوق الأمريكي وفرضية التخلي على الأوروبيين .. هل المغرب محقا في تفضيله الحليف الأمريكي؟    الضفة «الجائزة الكبرى» لنتنياهو    "مرحبا يا رمضان" أنشودة دينية لحفيظ الدوزي    مسلسل معاوية التاريخي يترنح بين المنع والانتقاد خلال العرض الرمضاني    الركراكي يوجه دعوة إلى لاعب دينامو زغرب سامي مايي للانضمام إلى منتخب المغرب قبيل مباراتي النيجر وتنزانيا    ألباريس: العلاقات الجيدة بين المغرب وترامب لن تؤثر على وضعية سبتة ومليلية    القناة الثانية (2M) تتصدر نسب المشاهدة في أول أيام رمضان    مبادرة تشريعية تهدف إلى تعزيز حقوق المستهلك وتمكينه من حق التراجع عن الشراء    الصين تكشف عن إجراءات مضادة ردا على الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة على منتجاتها    جمع عام استثنائي لنادي مولودية وجدة في 20 مارس    فنربخشه يقرر تفعيل خيار شراء سفيان أمرابط    ‬ما ‬دلالة ‬رئاسة ‬المغرب ‬لمجلس ‬الأمن ‬والسلم ‬في ‬الاتحاد ‬الأفريقي ‬للمرة ‬الرابعة ‬؟    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    فينيسيوس: "مستقبلي رهن إشارة ريال مدريد.. وأحلم بالكرة الذهبية"    الزلزولي يعود إلى تدريبات ريال بيتيس    تصعيد نقابي في قطاع الصحة بجهة الداخلة وادي الذهب.. وقفة احتجاجية واعتصام إنذاري ومطالب بصرف التعويضات    الصين: افتتاح الدورتين، الحدث السياسي الأبرز في السنة    الإفراط في تناول السكر والملح يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان    دوري أبطال أوروبا .. برنامج ذهاب ثمن النهاية والقنوات الناقلة    فرنسا تفرض إجراءات غير مسبوقة لتعقب وترحيل المئات من الجزائريين    الفيدرالية المغربية لتسويق التمور تنفي استيراد منتجات من إسرائيل    مباحثات بين ولد الرشيد ووزير خارجية ألبانيا للارتقاء بالتعاون الاقتصادي والسياسي    بطولة إسبانيا.. تأجيل مباراة فياريال وإسبانيول بسبب الأحوال الجوية    القنوات الوطنية تهيمن على وقت الذروة خلال اليوم الأول من رمضان    سينما.. فيلم "أنا ما زلت هنا" يمنح البرازيل أول جائزة أوسكار    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    3 مغاربة في جائزة الشيخ زايد للكتاب    المغرب يستمر في حملة التلقيح ضد الحصبة لرفع نسبة التغطية إلى 90%‬    أحمد زينون    كرنفال حكومي مستفز    وزارة الصحة تكشف حصيلة وفيات وإصابات بوحمرون بجهة طنجة    حوار مع صديقي الغاضب.. 2/1    فيروس كورونا جديد في الخفافيش يثير القلق العالمي..    بريسول ينبه لشروط الصيام الصحيح ويستعرض أنشطة المجلس في رمضان    الفريق الاشتراكي بمجلس المستشارين يستغرب فرض ثلاث وكالات للأسفار بأداء مناسك الحج    المياه الراكدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التفويض بين السلف والخلف "أمروها كما جاءت"
نشر في هوية بريس يوم 07 - 11 - 2022

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد؛ فإنه يُثار بين الفَيْنَة والأخرى نقاشٌ حول كلمةٍ مأثورةٍ عن السلف، وهي قولهم في نصوص الصفات: "أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ"، ولعل من أواخر ذلك الجدلُ الذي أثاره كلام الفقيه مولود السريري حول هذه الكلمة، والغرض من مقالتي هذه وما سيأتي بعدها –إن شاء الله- هو تحرير المعنى الذي قصده السلف بهذه الكلمة، لكن قبل ذلك لا بد من مقدمات مهمة يتبين من خلالها مدى أهمية فهم كلام السلف:
المقدمة الأولى: وجوب التقيد بفهم السلف للدين أصولا وفروعا:
من الأمور التي لا يُخالف فيها من له نصيبٌ من العلم، أنه يجب علينا أن نتقيد في فهمنا لديننا بفهم سلف الأمة، وعلى رأسهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن اتبع سبيلهم من أهل القرون الفاضلة. فإن اتفقوا على أمر لم نخرج عن إجماعهم، وإن اختلفوا لم نخرج عن خلافهم، ويسعنا من الخلاف ما وسعهم، كما قال ابن الجزري رحمه الله:
فَكُنْ عَلَى نَهْجِ سَبِيلِ السَّلَفِ*** فِي مُجْمَعٍ عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفِ
وقد دلت نصوص وآثار كثيرة على لزوم التقيد بفهم السلف للكتاب والسنة، منها:
-الأدلة من القرآن على وجوب التقيد بفهم السلف:
قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُّشَاقِقِ اِ۬لرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اُ۬لْهُد۪يٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اِ۬لْمُومِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلّ۪يٰ وَنُصْلِهِۦ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ (النساء114).
وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى تَوَعَّدَ من خالف سبيل المؤمنين بعذاب جهنم، ولم يكن حينَ نزولِ هذه الآية مؤمنون غير الصحابة رضي الله عنهم، فهم أول الداخلين في هذا الوصف: "المؤمنين"، ثم يُلْحق بهم من جاء بعدهم، ممن اتبع سبيلهم.
وقوله تعالى: ﴿ فَإِنَ اٰمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ اِ۪هْتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِے شِقَاقٍ﴾ (البقرة136).
وجه الدلالة أن الآية تخاطب الصحابة ابتداءً، وفيها أن الله تعالى قد حكم بالهداية لمن آمن بمثل إيمانهم، واعتقد بمثل عقيدتهم، ومفهوم ذلك: أن من خالف عقيدتهم فقد ضل.
وقوله تعالى: ﴿ وَالسَّٰبِقُونَ اَ۬لَاوَّلُونَ مِنَ اَ۬لْمُهَٰجِرِينَ وَالَانص۪ارِ وَالذِينَ اَ۪تَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ اَ۬للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِے تَحْتَهَا اَ۬لَانْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداٗۖ ذَٰلِكَ اَ۬لْفَوْزُ اُ۬لْعَظِيمُۖ ﴾ (التوبة 101).
وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى قد وعد السابقين الأولين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بالجنة والرضوان، وفي ذلك تزكيةٌ صريحة لفهمهم للدين، ودعوة واضحة إلى اتباع سبيلهم، واقتفاء أثرهم.
-الأدلة من السنة على وجوب التقيد بفهم السلف:
حديث الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه قال: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ » ([1]).
قلت: الشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا"، فأمر صلى الله عليه وسلم الصحابة ابتداءً، ومن جاء بعدهم تبعاً، بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين، وهم كبار الصحابة، وخيارهم، وقدوتهم، وَوَصَفَهُم ب"المهديين"، وما ذلك إلا لأنهم أعلم الناس بسنته وهديه صلى الله عليه وسلم، وأحرص الناس على طاعته والاقتداء به، فاستحقوا بذلك وصف "المهديين"، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾، فهم إنما استحقوا هذا الوصف بسبب طاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، فسنتهم تابعة لسنته صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «تمسكوا بها»، ولم يقل "بهما"؛ لأنها سنة واحدة، فسنتهم ما هي إلا بيانٌ لسنته صلى الله عليه وسلم، كما أن سنته صلى الله عليه وسلم بيانٌ للقرآن الكريم؛ فهم الواسطة بيننا وبين نبينا صلى الله عليه وسلم، كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بيننا وبين ربنا لأ في البلاغ.
وفي معنى هذا الحديثِ ما رواه حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْي عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ»([2]).
قال الإمام الطحاوي: "…فتأملنا هذا الحديث، فكان فيه مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالاقتداء بأبي بكر وعمر، معناه عندنا – والله أعلم – أن يمتثلوا ما هما عليه، وأن يَحْذُوا حَذْوَهُمَا فيما يكون منهما في أمر الدين، وأن لا يخرجوا عنه إلى غيره، ثم تأملنا ما أمرهم به من الاهتداء بهدي عمار، فوجدنا الاهتداء: هو التقرب إلى الله لأ بالأعمال الصالحة، وكان عمار من أهلها، فأمرهم أن يهتدوا بما هو عليه منها، وأن يكونوا فيها كهو فيها، وليس ذلك بِمُخرج لغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلك المنزلة…" ([3]).
قلت: التساؤل الذي يُطرح هنا: لماذا يأمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول بالتمسك بسنة الخلفاء مع سنته؟ ولماذا يدعونا في الحديث الثاني إلى الاقتداء بأبي بكر وعمر م، والاهتداء بهدي عمار رضي الله عنه، والتمسك بوصية ابن مسعود رضي الله عنه؟ أليس في سنته، وهديه، ووصيته صلى الله عليه وسلم مَا يَكْفِي وَيَشْفِي؟!
الجواب: بلى! في سنته وهديه صلى الله عليه وسلم كفاية وزيادة، ولكن هؤلاء هم عيون صحابته، وهم أعلم الناس بسنته، وأشدهم تمسكا بهديه، فلهذا دعانا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الاستدلال على هديه بهديهم، وعلى طريقته بطريقتهم…
-من أقوال الصحابة الدالة على وجوب الاعتصام بفهمهم للدين:
من ذلك قول: عمر رضي الله عنه حين هَمَّ بقسمة كنز الكعبة بين المسلمين، فقال له شيبة: "مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ"، قَالَ :"لِمَ؟"، قَالَ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ (يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه)، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: "هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا"([4]).
ومثله: أَنَّهُ جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَصَبْنَا أَمْوَالًا وَخَيْلًا وَرَقِيقًا نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهَا زَكَاةٌ وَطَهُورٌ، قَالَ: "مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ قَبْلِي فَأَفْعَلَهُ"([5]).
قلت: في الحديثين دليل على أن عمر رضي الله عنه على جلالة قدره، لا يستنكف أن يقتدي بأبي بكر رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلا لأنه أعلم منه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما كَلَّمَه في قتال مانعي الزكاة، وقال له عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ». فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا"، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: "فَوَ اللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ"([6]).
انظر رحمك الله! كيف يستدل عمر رضي الله عنه على الحق برأي أبي بكر رضي الله عنه، مع أن معه الحديث، ولكنه يعلم أن أبا بكر أعلم بالحديث منه وفقهه.
ومن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه لأصحاب الحلق الذين وجدهم يذكرون الله بالحصى على هيئة الاجتماع: "مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟!". قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حصًا نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ. قَالَ: "فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ. وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ! هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ". قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: "وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ"…" ([7]).
قلت: الشاهد منه قوله" هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون": أي كيف تهلكون وصحابة نبيكم كثيرون؟! ومفهوم ذلك أن بالاقتداء بهم، واتباع طريقتهم في الذكر والعبادة، تسلمون من الهلاك، وتنجون من الضلالة.
ومنه قول ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا، وَأَحْسَنَهَا حَالًا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ"([8]).
قلت: هذه دعوة صريحة إلى التأسي بالصحابة رضي الله عنهم، وسلوك طريقهم، واتباع آثارهم، في فهمهم للدين، وتطبيقهم لكتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وقول ابن عباس رضي الله عنه للخوارج حين ناظرهم: " أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَمِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِهْرِهِ، وَعَلَيْهِمْ نُزِّلَ الْقُرْآنُ، فَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، لَأُبَلِّغَكُمْ مَا يَقُولُونَ، وَأُبَلِّغَهُمْ مَا تَقُولُونَ"([9]).
قلت: استدل ابن عباس م على ضلال الخوارج بغياب الصحابة في صفوفهم، وفي هذا تنبيهٌ لهم على انحرافهم، ودليل لنا على أن من خالف الصحابة فقد ضل السبيل.
وقول حذيفة رضي الله عنه: "كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا تَعَبَّدُوهَا؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ مَقَالًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، وَخُذُوا بِطَرِيقِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ"([10]).
قلت: في هذا الأثر أَمْرٌ بسلوك طريق من قبلنا من الصحابة رضي الله عنهم؛ وتحذير من مخالفة طريقتهم في التعبد.
وعن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أنه كَانَ جَالِسًا وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَا تُحَدِّثُونَا إِلَّا بِالْقُرْآنِ, قَالَ: فَقَالَ لَهُ: ادْنُهْ, فَدَنَا, فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ وُكِلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى الْقُرْآنِ أَكُنْتَ تَجِدُ فِيهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَصَلَاةَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا, تَقْرَأُ فِي اثْنَتَيْنِ, أَرَأَيْتَ لَوْ وُكِلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى الْقُرْآنِ أَكُنْتَ تَجِدُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَالطَّوَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, ثُمَّ قَالَ: أَيْ قَوْمُ! خُذُوا عَنَّا، فَإِنَّكُمْ –وَاللَّهِ- إِلَّا تَفْعَلُوا؛ لَتَضِلُّنَّ ""([11]).
قلت: في هذا الأثر دليلٌ على أن من لم يأخذ عن الصحابة ضَلَّ السبيل؛ وذلك لأنهم أخذوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم التأويل (التفسير والفهم)، كما أخذوا عنه التنزيل (الوحي).
وقد سار على درب الصحابة من جاء بعدهم، وأوصوا باقتفاء أثر أسلافهم، كما سيأتي بيانه في المقال الآتي بحول الله…
([1]) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (17145)، ومن طريقه أبو داود (4607)، وأخرجه الترمذي (2676) وصححه، وابن ماجه (42-43). وصححه الألباني وجمع من العلماء كما في الإرواء (2455).
([2]) رواه أحمد (23386)، والترمذي (3805)، وابن حبان في صحيحه (6902)، والحاكم (4455) وصححه، ووافقه الذهبي، وكذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1233).
([3]) شرح مشكل الآثار (2/85).
([4]) رواه البخاري (7275)، في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
([5]) رواه أحمد (82) بإسناد صحيح.
([6]) رواه البخاري (1399)، ومسلم(20).
([7]) رواه الدارمي (210) بإسناد رجاله موثقون.
([8]) أخرجه ابن عبد البر في الجامع (1810)، والهروي في ذم الكلام (188)، ورجاله موثقون.
([9]) أخرجه النسائي في الكبرى (8522)، واللفظ له، والحاكم في المستدرك (2656)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (16819).
([10]) الحوادث والبدع للطرطوشي (ص 149)، والاعتصام للشاطبي (2/630).
([11]) أخرجه بهذا اللفظ الخطيب في الكفاية في علم الرواية (ص 15). وبمعناه أخرجه عبد الله بن المبارك في مسنده (233)، وفي الزهد (2/23)، ومن طريقه أخرجه ابن بطة في الإبانة (67)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2348).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.