إن لحظات الاختلاء بالنفس هي من أجمل لحظات العمر التي تسبغ على الأرواح سبغة النّقاء والطُّهْر ، وتضمُّ جواهر معانيها في عقدٍ يسبر أغوار أسرارها .. وإنّ اقتناص ساعاتِ التَّجَلّي في النّظر والاعتبار، يؤلِّف القلوب ويرتِّب حروف نبضها على سطورٍ قد حرّك خافِقَها الوِفاق والِائْتِلاف والِاتِّساق، وضمَّتها حركات الحواسّ في ممارسة نشاطها وما يَحْسُن بوظائفها .. إنّه الاسْتِئْناس بمسَرّات الوحدة ومباهجها، والتَّنعُّم بالاخْتلاء في رياضها وبساتينها، والاسْتِجْمام بحدائقها وظِلالها وجداولها، وارْتِياد مجالس أُنْسِها احْتفاءً واغْتباطًا بنَفسِها .. هناك حيث تنشد السَّلامَةَ من شَرِّ المخالطة المُهْلِكًة، والسَّكَن في مًنازِل الرّاحة وصَفْو المحبَّة والوداد، واعتزال خُلَطاء السّوء، وما يَكُفُّ سَمْعَها وبَصَرَها ودينَها وعِرْضَها .. ويقيها من شرّ هذا الزَّمانِ وأَهْلِه، وما يدعونها إليه ممّا تبغض وتكره، وما يفتنها عن دينها، وبصدُّها عن القيام بشؤون دنياها، وما يورِدُها مَوارِدَ الهَلَكَة والهَرج، وما يُلْهي ويُلْغي .. فمن كان الله أُْنْسَه وأنيسَه لا يَسْتَوْحِشُ أبدًا، ومَنْ عَمَّرَ الله قَلْبَهُ بحُبِّه ومحبّته، وجعل أنسَه بذِكْرِه ودعائه، وأَلِفَ مناجاته والتّفرُّغ له في سِرِّه ومجالس خلوته، وَشُغِلَ بهِ، واستغنى به، واكتفى به عن غيره، وجد لذّاته في وحدته، ووجد شبعه وارتواءه ورضاه وغناه، وكفايته، وضروراته وحاجاته، ومحابّه ومستحبّاته، وسلوته وسروره بِخُلْوَته .. * وكما قال الفُضَيْل بن عِياض: «كَفى بِاللَّهِ مُحِبًّا، وبالْقُرْآنِ مُؤْنِسًا، وبالْمَوْتِ وَاعِظًا، اتَّخِذِ اللَّهَ صاحِبًا وَذَرِ النَّاسَ جَانِبًا» * وروي عن أبي الحَسَنِ مُحَمَّد بْنُ العَبَّاس النَّحْوي قال: " كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ لَمْجَةَ يَسْتَزيرُني، فكَتَبْتُ إِلَيْه: أَنَسَتْ نَفْسِي بِنَفْسِي … فَهِيَ فِي الْوَحْدَةِ أُنْسِي وَإِذَا آنَسَتْ غَيْرِي … فَأَحَقُّ النَّاسِ نَفْسِي فَسَدَ النَّاسُ فَأَضْحَى … جِنْسُهُمْ مِنْ شَرِّ جِنْسِ فَلَزِمْتُ الْبَيْتَ إِلَّا … عِنْدَ تَأْذِينِي لِخَمْسِ * ومما أنشد أهل الأدب لبعضهم: لَمَّا رَأَيْتُ الزَّمَانَ نَكِسًا … وَلَيْسَ بِالْحِكْمَةِ انْتِفَاعْ كُلُّ رَئِيسٍ لَهُ مَلَاكٌ … وَكُلُّ رَأْسٍ لَهُ صُدَاعْ لَزِمْتُ بَيْتِي وَصُنْتُ عِرْضًا … بِهِ عَنِ الذِّلَّةِ امْتِنَاعْ أَشْرَبُ مِمَّا ادَّخَرْتُ رَاحًا … لَهَا عَلَى رَاحَتِي شُعَاعْ لِي مِنْ قَوَارِيرِهَا نَدَامَى … وَمِنْ قَوَاقِيزِهَا سَمَاعْ وَأَجْتَنِي مِنْ عُقُولِ قَوْمٍ … قَدْ أَقْفَرَتْ مِنْهُمُ الْبِقَاعُ * وقال الشيخ أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي (المتوفى: 388ه) (وأَمَّا عُزْلَةُ الأَبْدانِ ومُفارَقَةُ الجَماعَةِ الَّتي هي العَوَامُّ فإنَّ من حُكْمِها أن تَكونَ تابِعةً لِلْحاجَة، وجارِيَةً مَعَ المَصْلَحَة، وذَلِكَ أَنَّ عِظَمَ الفائِدَةِ في اجْتِماعِ النَّاس في المُدُن، وتَجاوُرِهِمْ في الأَمْصار إِنَّما هو أن يَتَضافَروا فيَتَعاوَنوا ويَتَوازَروا فيها، إِذْ كانَتْ مَصالِحُهُم لا تَكْمُلُ إِلَّا بِهِ، ومَعايِشُهُمْ لا تَزْكو إلَّا عليه. فَعَلى الإِنْسان أن يَتَأَمَّلَ حالَ نَفْسِه، فَيَنْظُرَ في أَيَّةِ طَبقَةٍ يَقَعُ مِنْهُمْ، وفي أَيَّةِ جَنَبَةٍ يَنْحازُ من جُمْلَتهِم، فإنْ كانَتْ أحوالُهُ تَقْتَضيهِ المَقامَ بَيْنَ ظَهْرانَي العامَّة لِما يَلْزَمُه من إِصْلاحِ المِهْنَة الَّتي لا غُنْيَةَ لَهُ بِهِ عَنْها، وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِيهَا ولا وَجْهَ لِمُفارَقَتِهِم في الدَّارِ ومُباعَدَتِهِمْ في السَّكَنِ والجِوارِ فإِنَّهُ إذا فَعَلَ ذلكَ تَضَرَّرَ بِوحْدَتِه، وأَضَرَّ بمَنْ وَراءَهُ من أَهْلِهِ وأُسْرَتِه. وإنْ كانت نَفْسُهُ بكُلِّها مُسْتَقِلَّةً وحالُهُ في ذاتِهِ وذَويهِ مُتَماسِكَةً، فالِاخْتِيارُ لَهُ في هذا الزَّمانِ اعْتِزالُ النَّاسِ، ومُفارَقَةُ عَوامِّهِم، فإنَّ السَّلامَةَ في مُجانَبَتِهِم، والرَّاحَةَ في التَّباعُدِ مِنْهُمْ. ولَسْنا نُريدُ – رَحِمَكَ اللَّه – بهذهِ العُزْلَةِ الَّتي نَخْتارُها مُفارَقَةَ النَّاسِ في الجَماعاتِ والجُمُعاتِ، وتَرْكَ حُقوقِهِم في العِباداتِ، وإِفْشاءَ السَّلامِ، وَرَدَّ التَّحِيَّاتِ، وما جَرَى مُجْراها من وَظائِفِ الحُقوقِ الواجِبَةِ لهم، وَوَضائِعِ السُّنَنِ والعاداتِ المُسْتَحْسَنَةِ فيما بينهم، فإنَّها مُسْتَثْناةٌ بشَرائِطِها، جارِيَةٌ على سُبُلِها، ما لم يَحُلْ دونَها حائِلُ شُغْلٍ، ولا يَمْنَعُ عنها مانِعُ عُذْرٍ. إِنَّما نُريدُ بالعُزْلَةِ تَرْكَ فُضولِ الصُّحْبَةِ، ونَبْذَ الزِّيادَةِ منها، وحَطَّ العِلاوَةِ الَّتي لا حاجَةَ بِكَ إليها، فإنَّ من جَرَى في صُحْبَةِ النَّاسِ، والِاسْتِكْثارِ من مَعْرِفَتِهِمْ على ما يَدْعو إليهِ شَغَفُ النُّفوسِ، وإِلْفُ العاداتِ، وتَرْكُ الِاقْتِصادِ فيها، والِاقْتِصارِ الَّذي تَدَعوهُ الحاجَةُ إليهِ كانَ جَديرًا أَلَّا يَحْمَدَهُ غِبُّه، وأن تُسْتَوْخَمَ عاقِبَتُه، وكانَ سَبيلُهُ في ذلكَ سَبيلَ من يَتَناوَلُ الطَّعامَ في غيرِ أَوانِ جوعِهِ، ويَأْخُذ منهُ فوقَ قَدْرِ حاجَتِهِ، فإنَّ ذلكَ لا يُلْبِثُهُ أن يقعَ في أمراضٍ مُدْنِفَةٍ، وأَسْقامٍ مُتْلِفَةٍ، وليسَ من عَلِمَ كَمَنْ جَهِلَ، ولا من جَرَّبَ وَامْتَحَنَ، كَمَنْ بادَهَ وَخَاطَرَ. ولِلَّه دَرُّ أبي الدَّرْداءِ حيثُ يقول: وَجَدْتُ النَّاسَ أُخْبُرْ تَقْلُهْ. قال: أنشدني ابن أبي الدَّقِّ قال: أنشدنا شُكْرٌ قال: أنشدني ابن أبي الدُّنيا: مَنْ حَمِدَ النَّاسَ وَلَمْ يَبْلُهُمْ … ثُمَّ بَلَاهُمْ ذَمَّ مَنْ يَحْمَدُ وَصَارَ بِالْوَحْدَةِ مُسْتَأْنِسًا … يُوحِشُهُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ ********************** كتاب : " العزلة " المؤلف: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي (المتوفى: 388ه)