أثار انتباهي -وأنا أتصفح السِّفر النفيس في تراجم العلماء المالكية (ترتيب المدارك) للقاضي عياض بن موسى اليحصبي رحمه الله- مدحه وثناؤه على (جملة) من العلماء بالعقل، فيقول مثلا في ابراهيم الليثي: ( كان عاقلا راجح الذهن)، وفي يحيي بن بكير (وكان يحيى رجلا عاقلا) وفي سعيد بن الحكم (وكان عاقلاً لم أرَ بمصر أعقل منه) وفي يحيى بن يحيى الليثي (وكان ثقة عاقلا) وفي سعيد بن محمد بن بشير (وكان رجلاً صالحاً عاقلاً) واستمر له هذا الثناء في جملة وافرة من اهل العلم الذين ترجم لهم. وقد يستغرب القارئ وجه المدح بالعقل لقوم دون آخرين، مع ان كل الذين ترجم لهم لا شك انهم من اعقل العقلاء واعلم اهل زمانهم وهذا لا شك انه لم يفهم المراد بالعقل، وانه شيء فوق العقل الطبيعي لبني ادم، انه عقل من نوع خاص، العقل الذي لا بد من لكل عالم قائم في الناس مقام الانبياء والرسل. هذا العقل هو الذي يبصر العالم بمراتب المصالح والمفاسد، وهو الذي يضبط فتوى المفتي واجتهاد الفقيه وقضاء الحاكم. عقل العالم هو الذي يحمله على مراعاة الاولويات واعتبار المآلات، والتفطن لدسائس المغرضين. ومن العقل: أن لا يتكلم العالم في كل شيء، وفي الأثر المنسوب لعلي رضي الله عنه «ليس كل ما يُعْرَف يُقال، وليس كل ما يُقال حَضَرَ أهلُه، وليس كل ما حَضَرَ أهلُهُ حان وقته، وليس كل ما حان وقته صَحَّ قوله». وقال ابو هريرة رضي الله عنه ( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، أما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قُطِعَ هذا الحلقوم ) ومن العقل: ان لا يتكلم العالم في المسائل الغريبة بحضرة العوام وفي الاثر عن ابن مسعود رضي الله عنه (ما انت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم الا كان فتنة لبعضهم) وقال علي رضي الله عنه (حدثوا الناس بما يعقلون اتريدون ان يُكذب الله ورسوله) ومن العقل الضروري لكل عالم: أن لا يفتي الناس بما يكون فيه فرقة لجماعتهم، وشتات لشملهم، وتسلط بعضهم على بعض، بل يلتزم الفتوى بمذهب البلد ما دام للاجتهاد فيها مساغ، او يحتفظ بفتواه لنفسه والخاصة من طلابه، وقد كان مالك رحمه الله يعمل في نفسه بما لا يفتي به الناس حرصا على وحدتهم ونقاوة قلوبهم. ومن العقل: أن لا تبث العلم فيمن لا يأبه لك، وليس هو أهلا لسماعه. قال مالك رحمه الله "من إهانة العلم تكلمُ الرجل بالعلم عند من لا يطيعه" ومن العقل: أن لا تفتي من يستفتيك ممتحنا مغرضا. ومن العقل: ان لا تحمل المنحل من ربقة التكاليف على الشديد العسير منها، بل تسايره بالتدرج رويدا رويدا. العلم وحده دون عقل بلاء على صاحبه، قد يدخله السجن أحوج ما يكون الناس إليه، وقد يورده المهالك وهو في غنى عن ذلك، وقد يسقطه من عيون الناس سقطة لا قيام له بعدها الى يوم القيامة،. نسأل الله ان يرزقنا العقل الوفير، فإنه لا حياة من دونه. ما وهب الله لامرئ هبة…أفضل من عقله ومن أدبه هما حياة الفتى فإن فقدا…..ففقده للحياة أليق به