تجمع جبهات النضال عددا معتبرا من الفضلاء وبمرجعيات مختلفة: قومية ويسارية وإسلامية، وتكاد القضية الفلسطينية أن تكون القاسم المشترك والهدف الجامع الموحد، فتجمعهم بيانات ووقفات ومسيرات ومواقف من أحداث بعينها، والمفروض تقوية هذه الجبهة في ظل تحديات كثيرة وهجوم قوي من أعداء الأمة للإجهاز على ما بقي فيها من بصيص أمل، وكذا حدوث تراجعات خطيرة وتهافت معظم الأنظمة للتطبيع مع الكيان الغاصب.غير أن سجالا يحدث بين الفينة والأخرى بخصوص تباين تقييم بعض الأحداث الجارية في ساحتنا الإسلامية، يكاد يفسد التنسيق وتوحيد الجهود، فنجد تقاطبا وتعصبا وتحيزا لهذا الطرف أو ذاك مما يخشى منه انفراط التوافق وذهاب وحدة الموقف من القضية الجوهرية في الامة، وحدوث التدابر بما سيصب حتما في صالح الصهاينة، ويضر بما بقي من حلم في دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف. فكان من اللازم النظر بروية وموضوعية في المشترك وتقويته والإعذار في المختلف فيه، والتمييز بين المبادئ التي لا تقبل المساومة وبين المرونة في مقتضيات التنزيل حيث الضرورات والإكراهات والرخص والاستثناء...ولعل من الأمور التي تحتاج لهذا التمييز بين المبادئ والممارسة والتنزيل، أمور التطبيع والاستبداد وحقوق الإنسان كما يقر بها الاسلام. فمصيبة التطبيع تبدأ من مصطلحه ولفظه، فهو بدعة طارئة تريد التلبيس والتدليس على الناس، وجعل ما ليس طبيعيا أبدا في الخانة العادية والطبيعية، فالطبيعي مع العدو المقاتل والمغتصب والمحتل هو المقاتلة والمدافعة والمقاومة وهذا في جميع قوانين وأعراف البشر، بل وحتى في عالم الحيوان، وعند اختلال موازين القوى وحالة الضعف والتقصير في إعداد العدة يمكن الانتقال إلى الحديث عن الهدنة بما يمكن تهييء النفس للمواجهة واسترداد الحقوق، وهذا الذي جرى في معظم بلاد الدنيا في تاريخنا المعاصر حيث جوبهت الهجمة الامبريالية والاستعمارية الغربية بمقاومة شرسة في مختلف الأصقاع بحسب ما قدرت عليه الشعوب المضطهدة، ثم خفتت تلك المقاومة قليلا لتهييء ما يناسب المعركة مع عدو غير تقليدي، فتحقق بعد حين وأصرار وصمود المقدر من الاستقلال في معظم أقطار الدنيا.ثم حدث التطبيع في العلاقات بين معظم البلاد المستعمرة (بالفتح) مع الدول المستعمرة(بالكسر). فكانت الشعوب والطليعة المقاومة تسمي المتعاون مع المستعمر خائنا، فما أدري كيف قبل البعض اليوم أن يكون المتعاون مع العدو الصهيوني -المحتل لفلسطين والمسجد الاقصى- في المجال الاقتصادي والسياسي والعسكري والثقافي والسياحي والمخابراتي والتعليمي..مطبعا، رغم أنه لم يحدث تحرير ولا استقلال، وأصبحت الخيانة تعقلا ورشدا وسياسة وكياسة...فالتطبيع مع العدو في مثل هذه الأحوال مرفوض ومدان في العقول والفطر السليمة والشرائع السماوية منها والأرضية، ووصم الخيانة لا يمكن نزعه أو اقتلاعه بحال. وقل قريبا من هذا في رفض الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة واغتصاب حقوق الشعوب في هذا المجال، وكذا الشأن في انتهاك حقوق الإنسان الأساسية كما أقرتها الشرائع المعتبرة ولم تعارض مقاصد الإسلام وحدوده. فالواجب في هذه التيارات الثلاثة: القومية واليسارية والاسلامية، إدانة هذه القبائح والكبائر والمنكرات العظيمة جميعا سواء منها التطبيع أو الاستبداد أو انتهاك حقوق الإنسان من أي طرف أو شخص أو نظام صدرت، فالتطبيع مدان من أي كان، والاستبداد مدان من أي كان، وانتهاك حقوق الإنسان كما أقرها الإسلام مدان من أي كان وخصوصا ما يتعلق بالمس بالضروريات الخمس للانسان:الدين والنفس والعقل والعرض والمال، فقتل النفوس مثلا خط أحمر عريض فلا تقتل نفس الا بحق، كما قال ربنا عز وجل "ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا" وتخدير عقول الناس لا يقبل ولا علاقة له بحقوق الإنسان، والشذوذ الجنسي لا يمكن أن يعتبر من حقوق الإنسان بحال، وأكل أموال الناس بالباطل مرفوض.. وهكذا في كل ما يمس هذه الأصول، والأمور الكبيرة في حياة الناس، وهذا من حيث المبدأ لا استثناء فيه، ثم يكون التعامل مع حالات الأعيان بما يناسبها من حيث درجة الإكراه الواقع فيها، والكلمة فيها لأهل الشأن والخبرة والأمانة والنزاهة في تلك الحال، لانه عندنا في الدين حتى أمر الإيمان والكفر، يخضعان للضرورة الملجئة والاضطرار الذي لا يبقى معه خيار، حيث يقبل النطق حتى بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان كما في قوله تعالى"من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم" جاء في فتح الباري لابن حجر وغيره في المشهور أن الآية نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه، قال: "أخذ المشركون عماراً فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له كيف تجد قلبك، قال: مطمئناً بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد". ولا شك أن ما دون الإيمان والكفر من المعاملات والعلاقات يخضع بدوره لهذا الأصل وحتى بشكل أخف، ولا شك أن العاصم في مثل هذا، هو توسيع الشورى في شأنه وإعمال الآلية الديموقراطية من خلال المؤسسات المنتخبة بحق واستحضار علماء الشرع في ذلك، أو القيام بالاستفتاء ونحو ذلك.بما يرجح المصلحة المعتبرة ويدفع المفسدة الواقعة أو المتوقعة، ثم يكون الإعذار بحسب سلامة المنهج المعتمد. ولاشك أن الواقع أمامنا الآن في هذه المجالات المتعلقة بالتطبيع والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، يقتضي الإدانة بلا تحفظ، فالدول العربية المطبعة تغيب فيها الشورى الحقيقية والديموقراطية المعتبرة ويغيب فيها صوت العلماء الأحرار وتقصى فيها الشعوب ونخبها العاقلة المعتبرة، وتلحق بها الأنظمة الأكثر استبدادا والأبشع دموية كنظام بشار والأسرة الأسدية فتدان بقوة بخصوص تدمير شعبها بالبراميل المتفجرة وغيرها، وأما النظام التركي فقد طبع مبكرا مع العدو الصهيوني إبان نظامه العسكري الأشد استبدادا، غداة نشوء دولة الاغتصاب (1949م) وحتى في فترة الانفراج الديموقراطي مع العدالة والتنمية لم يستشر علماء الشرع في البلد لإقرار الاستمرار في التطبيع من عدمه مع العدو الصهيوني حيث علمانية البلد ولا مجال فيه لعلماء الشرع في أمر السياسة، فتحققت الإدانة بكل طمأنينة لمن يستمر في مسار التطبيع، مع ذكر الحسنات لمن أحسن في غير المجال الذي أساء فيه، والترجيح في الأخير لمن غلبت حسناتهم سيئاتهم كما هو في ميزان الله، وهو تعالى الموفق للعدل والإنصاف وقول الحق ولو خالف النفس والهوى.