مبدئيا علينا الإقرار أن من حسنات ما بعد ثورات الربيع العربي أنها كشفت لنا الصالح من الطالح، و الشعوب اليوم تدرك جيدا من معها و من ضدها، و أصبحت تعي جيدا أعداءها الحقيقين، و أغلبهم و أخطرهم هم من يحكمونها، فمن منا كان يتوقع أن تكون السعودية و الإمارات و غيرها من بلدان الخليج داعمة للثورات المضادة ، بل ذهبت إلى دعم حروب دموية لتدمير بلدان الربيع العربي ، و لم تقف عند هذا الحد بل هي اليوم من داعمي الكيان الصهيوني ، و قد رأينا اتفاق الاستسلام الذي تم التوصل إليه بين الإمارات و البحرين من جهة و الكيان الصهيوني من جهة أخرى، و ما صاحب ذلك من تطبيل لهذا الفتح المبين من كلا الطرفين، فالكيان الصهيوني يضخم من هذه الاتفاقيات و يعتبرها تصفية و حل للقضية الفلسطينية و صك استسلام من العرب و المسلمين.. و الكيانات الخليجية تضخم من هذا الانجاز و هي لا تدرك أنها بذلك تحفر قبرها، أما القول بحل أو تصفية القضية الفلسطينية عبر التطبيع مع الكيان الصهيوني، فذلك الأمر غير متاح و غير ممكن، فقضية فلسطين و القدس لها شعب حر يحميها و يفديها بالغالي و النفيس، و أيضا ملايين العرب و المسلمين الذين لم و لن يقبلوا الاستسلام للكيان الصهيوني الغاصب للأرض و العرض، و كاتب المقال واحد من هذه الملايين التي تتوق للمس تراب القدس و الصلاة بالمسجد الأقصى بعد تحرير كامل فلسطين… و أسباب الفشل الحتمي لمخطط تصفية فلسطينوالقدس و تمليكها للكيان الصهيوني يمكن إجمالها في مؤشرين : المؤشر الأول : أن الشعوب العربية والإسلامية تستيقظ تدريجيا من سباتها، و أدركت أن حكامها بلغوا درجة كبيرة من الفساد و العمالة والتبعية لأعداء الأمة، و ما توالي انتفاضات الشعوب في مختلف أقطار العالم العربي المنكوب إلا دليل على هذا الوعي و الإدراك و الرغبة الجامحة لتحرير الإرادة الشعبية.. المؤشر الثاني: القران الكريم الذي يشكل دستور المسلمين في كل زمان ومكان، رغما عن أنف حكام وساسة كل هذا العالم، و أنف ألف ألف من أمثال "ترامب" و أشباهه، فهذا الدستور فيه سورة تلخص الحكاية و تتضمن سند ملكية رباني أبدي للقدس ومعه "الأرض المباركة" لا يستطيع أحد أن ينزعه من المسلمين طال الزمن أو قصر، فقد قال تعالى في مطلع سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} [الإسراء : 1-7]، هذا الوعد مقترن بالإيمان بالله و إتباع كتاب الله و سنة نبيه المصطفى، و هذا هو مفتاح النصر و التأييد، إلى جانب الأخد بأسباب القوة و الخروج من دائرة الغثائية و الضعف مصداقا لقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال : 60] و نعيد تكرار نفس القول ردا على صك الإستسلام والخنوع والخيانة و التطبيع المذل الذي تم عقده مؤخرا بين الكيان الصهيوني و حلفاءه في تدمير الأمة العربية و الإسلامية، النظام الإماراتي و السعودي ، هذا النظام الذي لم يترك جريمة في حق الشعب العربي و في حق المسلمين إلا و إرتكبها بسادية وعدوانية غير مفهومة، و الواقع أننا لا ندرك الغاية من هذا التوجه العدواني الذي يحكم سلوك حكام الإمارات و معهم بعض الامارات الخليجية كالبحرين و السعودية ، هل هو البحث عن مجد سياسي ؟ أو البحث عن البقاء في السلطة و حماية المناصب و المكاسب؟ و كلا الأمرين ليس بيد الصهاينة أو بيد "ترامب"، ففاقد الشيء لا يعطيه، فالكيان الصهيوني المرعوب من البالونات الحارقة التي يطلقها أهل غزة المحاصرة ، و الذي يصاب بالهلع من صواريخ حماس و حزب الله ، لا يمكن أن يقدم الحماية للنظام الإماراتي أو غيره من الأنظمة العربية، التي لها جميعا علاقات مع الكيان الصهيوني ، و تبارك الاتفاق الذي أعلنه "ترامب" قبل أيام، كما باركت سابقا إعلانه عن القدس عاصمة للكيان الغاصب، و إعلانه عن صفقة القرن… و الواقع أن الهرولة باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني و الجرأة في الإعلان عن علاقات طالما كانت سرية لعقود من الزمن ، يلخص حال الأمة من زاويتي: الأولى: أن الواقع العربي و الإسلامي بلغ درجة من العجز و الوهن لا تحتمل، بدليل أن أول القبلتين و ثالث الحرمين و مسرى رسول الله محمد صل الله عليه وسلم يتم غلقه و منع الصلاة به، و اقتحامه من قبل الصهاينة، في ظل وهن عربي و إسلامي غير مسبوق.. الثانية: الحرب الشرسة على الإخوان المسلمين وحماس – ظاهريا- و كبث حرية التعبير و التغيير، هي حرب غايتها محاصرة حركات التحرر الشعبية ضد الطغيان و الحكم الاستبدادي و السيطرة الاستعمارية، فمعظم البلدان العربية لم تحصل بعد عن استقلالها الحقيقي .. لكن بالرغم من هذا التكالب، و الدعم الضمني أو الصريح للكيان الصهيوني، من قبل حكومات و أنظمة، رهنت مصيرها ومصير شعوبها للإرادة الأمريكية و الصهيونية، مقابل الحفاظ على المناصب و المكاسب، إلا أن الشعب الفلسطيني أثبت طيلة قرن ونيف أنه يستحق و صف "شعب الجبارين" ، فأهل القدس وعموم فلسطين التاريخية، دافعوا و سيدافعوا إن شاء الله تعالى، عن المسجد الأقصى و عن فلسطين التاريخية ببطولة لا نستغربها على هذا الشعب الأبي الذي خانه الأقارب و الإخوة الأشقاء .. فقضية القدس و فلسطين ليست مجرد قضية أرض و شعب و خبز و تسهيلات إقتصادية، و إنما هي قضية عقيدة بدرجة أولى، و من يتنازل عن القدس و فلسطين فهو يشكك في حجية و قطعية دلالة القران الكريم، و يكذب رواية إسراء رسول الله عليه الصلاة والسلام و إمامته للأنبياء بالمسجد الأقصى ليلة الإسراء،ويفرط في ثالث الحرمين و أولى القبلتين، فالقدس و فلسطين تفدى بالغالي و النفيس لأنها قدس الأقداس في عقيدة أهل السنة والجماعة، و التفريط فيها لا يقل في إثمه عن التفريط في الحرم المكي أو الحرم النبوي… فلسطينوالقدس قضية كل مسلمي العالم بل قضية كل الأحرار، و الحق العربي و الإسلامي لا يمكن إنكاره، و من يفكر في غير ذلك فهو ينفذ أجندة الصهيونية ،بل إن المعركة حول فلسطين و القدس ليست بالمعركة التي يحسمها السلاح فقط، و إنما هي معركة وعي و إدراك لطبيعة النزاع، فهو نزاع ديني بين عقيدتين إحداهما لازالت تحتفظ بصفاءها الرباني، و أخرى حرفت و تحكم فيها الهوى البشري ، فنصرة فلسطين و الانتصار لها هو بخلاصة انتصار للعدل و للحق،و علينا ألا نصاب بالإحباط و اليأس نتيجة لهرولة الأنظمة العربية باتجاه التطبيع مع الكيان الغاصب، فالشعوب قادرة على كنس أنظمة الفساد و التبعية في سويعات.. لذلك، فعلى الرغم من تكالب أنظمة الخنوع و هرولتها بإتجاه الصهاينة ، فإننا ندعو الشعوب العربية و قواها الحية النابضة ،إلى ضرورة الإبتعاد عن الخلافات ضيقة الأفق، و تجاوز منطق المذهبية الحزبية، و تغليب منطق التعاضد و التأخي، فهناك قواسم مشتركة تجمعنا بإختلاف إنتمائتنا الفكرية و السياسية، فالتحرر من الإستبداد و الطغيان ، و الخروج من دائرة التفقير و التجويع و التجهيل الذي يمارس ضد هذه الشعوب بشكل ممنهج، و أوطاننا التي أصبحت مستباحة لكل القوى الأجنبية، و الأحرار من أبنائنا في الأسر أو يتعرضون للإعدامات، و الدماء التي تسفك و الحقوق التي تنتهك… كلها قواسم مشتركة كفيلة بجمع كل الفرقاء للجلوس على طاولة واحدة و الإلتزام بأجندة إسقاط الأنظمة الفاسدة و إقامة نظم حكم تعبر عن إرادة الناس و توسيع خياراتهم، و هذا التوجه كفيل بإقبار كل المشاريع الإستعمارية والتوسعية التي تحاك ضد شعوبنا و أوطاننا..أما ما يتم ترويجه من محاصرة إيران فإني أرى أنها محاولة لإلهاء الشعوب العربية عن الهدف الذي عبرت عنه في 2011 عندما خرجت الشعوب العربية للميادين، و رأينا جميعا أن هذا الحدث أرعب الجميع و أن الشعوب الغربية أخدت من الثورة العربية نموذجا تم رفع شعاره في عواصم غربية… فبوصلة التغيير الأمن تمر عبر بوابة مواجهة و مقاومة و كسر شوكة التحالف الأسود، الذي يسيطر على المنطقة العربية و الإسلامية و يعمل على تدمير شعوبها و تشويه دينها و نهب ثراواتها و إعاقة تحررها.. و هذا التحالف و إن بدا في الظاهر أنه متصارع و متنافر، إلا أنه في الباطن و العمق، يخدم نفس الأجندة و ينفذ ذات المشروع و أضلاعه : 1-الأنظمة الحاكمة العميلة و2- الصهيونية و رعاتها الغربيين و 3- النظام الصفوي و 4- المجموعات الإرهابية التي تحمل لواء إقامة الخلافة و هي في الواقع تحارب الإسلام و المسلمين و تنسف نظرية الإسلام في بناء الدولة و الإنسان، وعمارة الأرض بمنهج الإستخلاف… لأجل هذا فإن الشعوب العربية ملزمة بأن تكمل ما بدأته في 2011 ، و لازال النزول للميادين و المقاومة السلمية و مقاطعة الأنظمة الفاسدة و داعميهم هو الخيار الأنجع، فعلى الرغم من سوداوية الواقع إلا أن هذه المنطقة سيكون لها كلمة الفصل في تقرير مصير العالم و مستقبل البشرية، فقبل 14 قرن نجح عرب الجزيرة العربية، الحفاة العراة رعاة الغنم والإبل، عندما تمكن نور الإسلام من قلوبهم ووحد صفوفهم و جعلهم أمة واحدة متعاضدة متعاونة، نجحوا في نشر العدل و مواجهة الظلم و طواغيت العصر في جهات العالم الأربع، وأخرجوا العباد من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد ، و أقاموا نموذجا في الحضارة والإعمار و التنمية،برغم من أنه لم يعمر كثيرا إلا أن فعالية النموذج و طبيعته العادلة و المتكاملة، جعلت منه تطلعا يراود نفوس العقلاء في الغرب و الشرق في الماضي و الحاضر، و الحرب الدائرة غايتها تشويه و إعاقة هذا التطلع الذي إقتربت ساعته…و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون… إعلامي وأكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..