إن من العادات المعلومة لدى كافة الناس: أن من دخل دورة تعليمية أو تكوينية معينة: أن يكون حاله بعد التخرج من الدورة أحسن حالا من قبلها، فإذا لم يتغير مستواه الفكري أو النفسي أو السلوكي… فهذا يعني أن لم يستفد من الدورة إطلاقا، وإنما كان يسجل حضوره البدني فقط، شأنه في ذلك شأن بعض التلاميذ الذين يلتحقون بالفصول الدراسية فقط خوفا من تسجيل الغياب ومعاقبة الوالدين. وإن الصيام لهو دورة تعبدية كبرى في حياة المسلم: تستوجب استعدادا نفسيا وعقليا قبليا، كما فيه مجموعة كبرى من الأعمال، لمدة تدور بين التسع والعشرين والثلاثين يوما، وهذه الأعمال منها ما هو ضرري ومنها ما هو تحسيني، والمسلم مطالب بالقيام بها طيلة هذا الشهر، وأن الإخلال بما هو ضروري في أحد ايامه يفسد ذلك اليوم من الدورة، كما أن هذه الدورة لها مقاصد وأهداف من لم يحققها، لم ينجح في الدورة حتى وإن صام وقام، وقام بكل التحسينات والكمالات… إذا تقرر هذا فالمقال الذي بين يديك مكاشفة إيمانية، وإيقاظ نفسي، وتحريك عاطفي للبحث عن مواصفات المتخرجين، وأحوال الصائمين حقا وصدقا، لعلنا يا أخوتي ندرج أنفسا انطلاقا من هذا العام والأعوام التي بعده في صفوف الصائمين الناجين، لأن الأصل في كل الأحكام الشرعية ليس فقط صورها الفعلية وأنما أهدافها ومثقاصدها، وإن للصيام عدة أهداف من تحقيقها والاتصاف في رمضان وبعد رمضان. وهذه الأهداف يمكن رصدها في آيات الصيام الواردة في سورة البقرة: الهدف الأول: الوصول إلى مقام التقوى: ومن أسرار هذا الهدف أن به بدأت آيات الصيام وبه ختمت، ففي البداية قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] وفي الختام: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] الهدف الثاني: تحقيق مقام الشكر: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] الهدف الثالث: الوصول إلى مقام التعظيم والإجلال لله تعالى: وقد عبر عن هذا المقام بالتكبير الذي هو نتيجة التعظيم القلبي لله سبحانه وتعالى {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] الهدف الرابع: الوصول إلى مقام الاستجابة لله تعالى: وقد وردت الإشارة إلى هذا المقام في آية الدعاء الواردة ضمن آيات الصيام { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة: 186] الهدف الخامس: تعظيم حدود الله والوقوف عندها: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا } [البقرة: 187] الهدف السادس: الوصول إلى مقام الهداية المؤسس على البيان الإلهي، وهذا إنما يتحصل من خلال القرآن الكريم الذي نزل في هذا الشهر: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. إن كل هدف من هذه الأهداف يحتاج بيانه وتقريره إلى عدة مقالات، ولكننا سوف نعالجها على شكل مكاشفات من خلال أعمالنا في رمضان والتي ينبغي أن تصاحبنا مدى الحياة. ولتكن هذه المكاشفة على شكل أسئلة: أولا: لمن أصوم؟: إن كل مسلم عندما تواجهه بهذا السؤال يجيبك على البداهة: أصوم لله وحده، تُرى أخي الكريم، أختي الكريمة، هل في الإسلام عبادة الصوم فقط؟ أم أن حياة المؤمن كلها عبادة لله تعالى؟ الجواب: قطعا حياة المؤمن كلها عبادة لله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 162] إن هذا المعنى هو الذي يغيب عنا في محراب الحياة، ولا نستحضره إلا في رمضان، ولذلك نُنْهِي الشهر وما تعلمنا منه تحويل أعمالنا لله، وهذا هو البعد العقدي للصيام: أن ندرك أننا عباد لله، ومن علم أنه عبد لله فلا يسير إلا وفق منهج الله، مخلصا في كل عمله يبتغي به وجه الله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] إن الإجابة عن سؤال: لمن أصوم؟ وتعميم ذلك على كل الأعمال والتصرفات لهو التقوى الذي يجب أن يتخرج به المسلم من مدرسة الصيام، فعن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»[1] ثانيا: كيف نستقبل رمضان؟ إن كافة المسلمين تجد لهم اهتبالا واحتفاء واستعدادا وفرحا قبل قدوم شهر رمضان، استعدادا ماديا ومعنويا، لماذا؟ لأننا ندرك عظمة هذا الشهر عند الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم "[2]، إن هذا المعنى العظيم يجب ان لا يغيب عن حياتنا في مجالات التعبد وخاصة في الصلاة، فعندما ندرك أن الصلاة خير موضوع، ومكانها مقدم على الصيام في الفضل وهي بوابة قبول الأعمال: إذ جاء في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر"[3]، إننا إذا أدركنا هذا المعنى جعلنا للصلاة مكانتها في الحياة، وإذا فعلنا ذلك كان لها –الصلاة – الأثر الكبير على سلوكنا وأخلاقنا {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45] إن حسن الاستعداد والاستقبال للعبادة سواء كانت صلاة أو صياما أو زكاة أو حجا، لهو دليل على صدق الإيمان وأن حب الله وتعظيمه، وحب رسوله وتبجيله وحب دينه وتطبيقه: قد باشر شغاف القلوب، وما استقر شيء في القلب إلا جرت أنهاره وأينعث ثماره. ثالثا: كم لك من ختمة للقرآن في شهر رمضان؟ إن جل المسلمين في شهر رمضان يعودون لكتاب الله تعالى، فلا يمر عليهم يوم إلا وتجدهم يرتلون كلام الله أو يستمعون لقرائته، وعندما ينتهي رمضان تجد كل واحد منهم قد ختم مرة أو اثنتين، أو ثلاث، وربما أكثر، لكن عزيزي الكريم، أختي الفاضلة، هل سوف نودع القرآن مباشرة بعد شهر الصيام؟ أم يكون ذلك مستمرا مدى الحياة لأن القرآن لم يأتي ليقرأ في رمضان فقط، وإنما يقرأ ويلتزم في الزمن كله، إننا إذا كنا نودع القرآن مباشرة بعد انتهاء رمضان: فلنخشى على أنفسنا أن يقع علينا هذا النداء النبوي الذي شكا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى هجر الناس للقرآن، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } [الفرقان: 30] إن جعل قراءة القرآن جزاء لا يتجزء من حياة الإنسان لهو دليل على المستوى الكبير لتعظيم الإنسان لله تعالى، ومدى يقينه وصدقه في أيمانه. رابعا: لماذا تطيع الله في وجبات الصيام ومحرماته؟ الامتناع عن المفطرات كيفما كان نوعها: من أكل أو شرب أو شهوة جنسية… يفعله كل المسلمين طاعة لله وابتغاء الزلفى إليه. إن هذا السلوك الذي نفعله في رمضان يجب أن يصبح نفس المؤمن في الحياة وهو الابتعاد عن المحرمات، والقيام بالوجبات، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[4] إن هذا المعنى الكبير في استدامة طاعة لله واستمرارعبادته، قد عبر عنه الخليفة الراشد في أشد الأزمات التي يمكن أن تتيه فيه العقول، وهو موقف وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قال أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال: ثم تلا هذه الآية: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144][5] فالقضية التعبدية لله تعالى ليست مرتبطة بزمان الوجود النبوي، وإنما مرتبطة بعبادة الله تعالى، وعليه سواء بقي النبي عليه الصلاة والسلام حيا أو مات فالعبادة لا تنقطع: لأنها مرتبطة بالباقي وليس بالفاني، والشيء نفسه يقال في الصيام فعبادة الله ليست حكرا على رمضان، لأن زمن رمضان فاني، وإنما هي مرتبطة بالحي الباقي سبحانه وتعالى. وهذا المعنى من أدركه لن يتخلى عن الطريق حتى تودع الروح هذا الجسد. خامسا: كيف صلحت أخلاقك في شهر رمضان: إن اقبال شهر رمضان هو فرصة كبيرة لتغير سلوك المسلم نحو الأخلاق الحسنة، وإذا ما سئلت من تحسنت أخلاقه في هذا الشهر كان جوابه ماورد من نصوص شرعية حاثة على ضرورة الخلق الحسن في شهر الصيام ومن ذلك حديث أبي هريرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»[6]، لكن السؤال الذي يرد هنا، أوليس الذي أطعته في الخلق الحسن في شهر رمضان هو من أمرك به في مطلق الزمن؟ الجواب طبعا: أن الأمر بالخلق الحسن هو في رمضان وخارجه. وإذا كان كذلك وجب نقل سلوكنا الخلقي في شهر رمضان إلى خارجه تحقيقا لعموم الخلق الحسن الإسلامي، وهذه عين الاستجابة وعين الهداية بالقرآن الكريم، وعين التعظيم لله رب العالمين سادسا: متى ستخرج زكاة الفطر؟ قبل خروج رمضان بيوم أو يومين، شريطة أن تعطى لمستحقيها قبل صلاة العيد. هذا ما يفعله جميع المؤمنين من إخراج لزكاة الفطر كل عام لا يتخلف أي واحد منهم، وكلهم يفعلون هذا استجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما جاء في حديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة»[7]، فالقيام بهذا شكر لله تعالى على نعمه بالتصدق منها على الفقراء والمحتاجين. إن هذه الاستجابة الفورية والمنضبطة بزمن الإخراج مما ينبغي تعميمه على كل الأوامر الإلهية وخاصة باب الزكاة لأن الأمر بها أوكد من زكاة الفطر. فمن أطاع الله في إخراج زكاة الفطر: فليطعه كذلك في إخراج زكاة المال والحرث والماشية والخلاصة أن الله عز وجل عندما فرض علينا صيام رمضان أراد منا الوصول إلى أهدافه وغياته، وليس تطبيق رسومه وأشكاله فقط. وإذا كنا قد عرفنا ذلك فما بقي إلا إدارة بوصلة الإيمان نحو تلك المعاني السامية، والسير بها ومعها إلى يوم لقاء وجهه الكريم. [1] سنن الترمذي، باب ما جاء في معاشرة النساء، رقم الحديث (1987). [2] صحيح البخاري، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، رقم الحديث (1904). [3] سنن الترمذي، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، رقم الحديث (413). [4] صحيح البخري، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث (7288). [5] السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، شركة الطباعة الفنية المتحدة، 2/ 656. [6] صحيح البخاري، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به في الصوم، رقم الحديث (1903). [7] صحيح البخاري، باب فرض زكاة الفطرة، رقم الحديث (1503).