1- تعريف حزب الشيخات على غير عادة الأحزاب كما نعرفها ويعرفها العالم، لم يتأسس هذا الحزب ولم يجتمع أعضاؤه يوما، و إنما توافقوا على الرأي والمذهب والسلوك والتفكير نفسه، بعدما اجتهد أعضاؤه كثيرا حتى بلغوا النهاية في سلخ أنفسهم عن الفطرة؛ الفطرة السليمة، الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها. فما من فضيلة في المجتمع إلا يجعلونها موضع نكت وسخرية، وما من رذيلة ومنكر إلا يحمونه ويستبشرون به، وما من صلاح إلا يقطبون أجبنهم ريبة منه. ففي السياسة نجدهم يجرونها إلى الهاوية، وفي المجتمع نجدهم يعبثون بأصوله و آدابه و أخلاقه، وفي الإعلام نجدهم ينحدرون به إلى أدنى مستويات الانحطاط، وفي التاريخ والحضارة نجده يستبعدون مقومات البقاء والنمو والازدهار ويستقدمون كل أسباب الانحطاط والهدم والفناء، وفي الفن نجدهم لا يعترفون إلا بما تعلق بهز الأرداف و إثارة الغرائز وما كان مركزا على أسفل البطن والنهدين، ولا يقبلون منه ما احترم الذوق العام وراعى نظام المجتمع و تاريخه. يقول الدكتور فريد الأنصاري- رحمه الله- بعد أن ميّز بين "الفجور الطبيعي" الذي يرجع إلى الاستعداد النفسي للشر والفساد و"الفجور السياسي" الذي يرمي إلى محاصرة قوى الخير والقضاء على الضمير الاجتماعي: "الأول استجابة للرغبة الذاتية الحيوانية للفساد بصورة مستهترة، وانجراف قوي مع داعي الهوى في تلبية الشهوات…وأما الفجور السياسي فهو فلسفة للفجور، بممارسته ثقافة و أخلاقا أولا، ومدافعته جبهة الصلاح ثانيا، من خلال ترسيخ فلسفة الانحلال في المجتمع، وتشويه السلوك الصالح السليم، وذلك باستغلال طاقة الفجور الطبيعي في النفس الإنسانية ودعوتها للتحدي" 1 ففي كل مناسبة يظهر أتباع هذا الحزب في خندق واحد لحماية الوضع الفاسد وتبريره والانتصار له بمختلف الوسائل؛ المالية والإعلامية والتعبيرية…إلخ. هدفهم من ذلك جرُّ ما كان يدور في الخفاء استثناءً إلى مستوى الزعامة والقدوة والأصل والطبيعة. نحن لسنا ضد الفن، بل نحن أولى به منهم، لكن ليس أي فن. الفن الذي نعرفه ونعترف به ليس عفنا، هو الذي يحمل رسالة إصلاحية سامية، ينتقد الوضع الفاسد و أشكال الظلم و الاستبداد، فنّ نشأ نشأة طبيعية في مجاله، يحترم ثقافته و أعرافه الحسنة و تاريخه وأصله، الفن الذي يحترم الذوق السليم ولا يسعى لقلب وضع المجتمع فيجعل من حالة الشذوذ حالة طبيعية ينبغي أن يُعترف بها ويتم التصفيق لها. 2- ما وظيفة حزب الشيخات؟ ليس عسيرا إدراك وظيفة هذا الحزب ودوره التخريبي في المجتمع، تظهر هذه الوظيفة جليا من خلال ذراعه الإعلامي؛ القناة الثانية. من خلال تتبع سياق تأسيسها من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان عاشقا للثقافة الفرنسية مهتما بأوضاع السياسة هناك، متابعا لما يموج في المجتمع الفرنسي، صديقا لكبار السياسيين والصحفيين، فأرادها قناة "حداثية" و"متفتحة". ولذلك اتفق مع الرئيس الفرنسي السابق Valéry Giscard dEsting على التعاون من أجل هذا التحول في المشهد الإعلامي بالمغرب! كان الحسن الثاني متأثرا بالرئيس الفرنسي، فأراد أن ينسخ المشهد الإعلامي الفرنسي بكل فكره العلماني وثقافته الليبيرالية المتحررة إلى إعلام المغرب. وإذا أدركنا طبيعة التوجيهات التي أصدرها الرئيس الفرنسي أثناء فترة رئاسته، المتعلقة بالمجال الإعلامي والاجتماعي، علمنا إذن طبيعة البرامج التي ستبثها النسخة المزورة للقناة الفرنسية TV5. إنشاء هذه القناة لم يكن حاجة وطنية، بقدر ما كان رغبة شخصية و إشباعا لحاجة نفسية، ولذلك كانت برامجها تصطدم بالثقافة والحضارة المغربية. يقول الدكتور المهدي المنجرة- رحمه الله- في هذا الصدد: "هناك فترات يؤدي فيها الانفتاح التلقائي، وليس الانتقائي، إلى غزو كبير وإضعاف أعز ما للإنسان: هويته الثقافية، وهي الخلاصة وسبب وجود منظومة القيم" 2. هكذا كانت كل برامج هذه القناة وغيرها ممن يؤدي معها الدور والوظيفة نفسها تطعن في الأسس الصلبة لتاريخنا وحضارتنا وثقافتنا وهويتنا الإسلامية المغربية، ولأجل إتقان الدور وتنفيذ الخطة، كانت تنتقي من الإعلاميين والصحفيين و الإداريين من تنكّر لهويته الوطنية وأظهر ولاءً شديدا لفرنسا، بعقيدتها وثقافتها وتاريخها وسياستها…بل إننا وجدنا من إعلاميي هذه القناة من يدين بالطاعة والولاء لإسرائيل، ويتباهي بزياراته المتكررة لها، ويظهر خشوعا لا مثيل له قبالة حائط البراق(المبكى). يبرر أعضاء هذا الحزب المادة الإعلامية الرديئة التي تُبث عبر ذراعهم الإعلامي، بكونها تصور الواقع، والحقيقة هي أنها لا تصور ما شذّ من هذا الواقع فحسب، بقدر ما تصور ما يتمناه هذا الحزب أن يكون في الواقع، إنه يتمنى أن يعم الخراب والفساد والظلام، كما عمّ عقول ونفوس و أجساد أعضاء الحزب. يسعى أعضاء هذا الحزب إلى الفصل بين القيم و(الفن)، فلا يجعلون سلطة للقيم على الفن، ولا يعيرونها اهتماما في مواضيعهم. يرفض صاحب كتاب "غناء العيطة" تدخل الضوابط الأخلاقية والقيمية في اختيار شكل وموضوع الفن، إذ يزعم أن تعريف الشيخات بمحددات غير فنية انحراف منهجي، لأنه يخرج بالتعريف عن الممارسة الفنية إلى المحدد الأخلاقي وهو ليس من مرتكزات التحديد والتعريف. فإذا كان الأمر كذلك، فهل يستطيع هذا (الفن/العيطة/الشيخات) أن يوجهوا خطاب النقد للسطة الحاكمة و أشكال الفساد فيها؟ سيجيبنا مؤلف هذا الكتاب بأن هناك خطوطا (حمراء) لا يُسمح بتجاوزها..ثم نسأله سؤالا ثانيا: هل هذه الخطوط الحمراء نبعت من داخل الفن أم وُضعت ورُسمت له من خارجه؟ سيكون الجواب هو: هذه الخطوط وضعتها السلطة الحاكمة. فلماذا إذن يرضى الفن بسلطة "السلطة الحاكمة" ويرفض "سلطة الأخلاق والقيم" ؟؟ و إذ نقول هذا الكلام، لابد من التمييز بين "الشيخة" و"حزب الشيخات"؛ فالأولى قد تكون امرأة دفعتها ظروفها لامتهان هذه المهنة، وقد تكون شابة تمّ التغرير بها ووعدها رئيس الفرقة بكثرة المال والشهرة والثراء، من غير قصد منها السعي إلى الارتطام بأخلاق المجتمع و ضوابطه، لكنها في جميع الحالات تخجل من نفسها وتتمنى لحظة الانعتاق من هذا الوحل، وأما الثاني فهو جماعة وظيفية تشتغل بخطة وتنظيم و أسلوب ودعم ومال وأهداف..ونتائج، جماعة انطفأت أنوار بصائرها فلم تعد تستطيع التمييز بين النور والظلام. 3- هل الشيخات جزء من التراث المغربي؟ إن هذا الحزب الملوَّث والملوِّث لم يكن له وجود بهذه الصفة قبل الاحتلال الفرنسي، ففي التراث العربي شعره ونثره كانت صفة الشيخ تدل على كبر السن والاتصاف بالحكمة، وبعد رسالة الإسلام صارت تدل على معنى خاص هو الأستاذية والدرجة العلمية في علوم الشريعة واللغة والأدب والتاريخ، دون أن تفقد معناها العام، وكانت صفة (الشيخة) تدل على رتبة في رواية الحديث وتدريس متون الفقه واللغة وغيرها، ثم صارت بعد ذلك تدل على زعماء العشائر والقبائل. قبل الاحتلال الفرنسي لم تكن هذه الصفة تدل على الرقص وإثارة الغرائز ولم تكن تحمل مدلولا قبيحا في الأذهان، بل كان تطور مدلولها عبر التاريخ سليما يدور بين العمر والحكمة والعلم. وفي تراثنا الأمازيغي لم يكن هناك وجود للشيخات كما نعرفهم اليوم، بل كان الترويح عن النفس بالأشعار والزجل وما يصحب ذلك من رقصات أحواش أو أحيدوس، يمارسه الرجال وحدهم وتمارسه النساء وحدهن من غير اختلاط، مع توفر حد أدنى من شرط الحشمة والوقار. هذا النفي أو الإثبات يحسمه البحث التاريخي، فكل المصادر والمراجع التي تحدثت عن تاريخ المغرب ومظاهره الثقافية والاجتماعية والسلوكية قبل الاحتلال نفت وجود "الشيخات" بالمعنى الذي يريده حزب الشيخات اليوم، ولم أعثر في مجلداتها وبين فصولها وصفحاتها على ذلك المعنى أو على شيء قريب منه. فقد ورد في بعض وثائق المكتبة الوطنية مظاهر مجتمعية مرضية كانت تُمنع في المجتمع منعا، بمنع الترويج لها والتطبيع معها وإثارتها في العلن، منها: "يُمنع جميع الشوافات والطلاّعين وضاربي الحظ والفأل بالشوارع وغيرها من المكاتب والدور والحوانيت وغيرها نساء ورجالا…وكذا يُمنع التقييل والمبيت في الدور بالتطبيل والمزامير وكمانجة والنفار والمسمى بحيدوس…كما يُمنع النساء من الإشراف على الطرق من السطح والنوافذ…ونحوها في سائر الحفلات والمواسم وحضورهن فيها وفي الأزقة ووقوفهن لأجل ذلك" 3 هذه الوثيقة تضمنت أصنافا من الانحرافات السلوكية ومظاهر المجون وصورا من البدع والخرافات، كانت تمنع بقوة السلطة والمجتمع من الانتشار والظهور والتعميم، حتى تبقى حبيسة السرية والخفاء والكتمان. فكان يمنع ظهور الشوافات والمشعوذات في الشوارع والأماكن العامة، وكان يمنع السهر ليلا على آلات الموسيقى كالطبول والمزامير والكمانجة (آلة الكمان المعروفة) وغيرها، بل كان النساء يُمنعن من الإشراف على الطرق والشوارع من السطوح والنوافذ. فهل كان مثل هذا المجتمع بهذا الشكل من الضبط الأخلاقي ليسمح للشيخات بهز الأرداف وليّ الخصور في الأماكن العامة و أمام الجميع؟ وهل كان هذا المجتمع يعتبر ذلك تراثا مغربيا؟ الجواب طبعا لا. لأنه لم يكن حزب الشيخات موجودا حينها ليقلب الموازين، بل ظهر مع الاحتلال الفرنسي، أو بتعبير أدق صنعه الاحتلال الفرنسي وأحاطته السلطة بعطفها وحمايتها، ثم بدأ يطور أساليبه وخططه وطرق اشتغاله حتى صار منسلخا بالتمام عن جلده الطبيعي . لم يكن مجتمعنا بطبيعته طاهرا لحد الملائكية، بل كانت هناك حالات استثانية من الفساد والمجون والرذيلة، دافعها حظ الشهوة من الإنسان، لكنها كانت طي الكتمان تتحرك في الظلام بعيدا عن رقابة السلطة والمجتمع، يشعر روادها بالخجل ويتحاشون أن يُشار إليهم بالأصابع. قد يقال إن "الشيخات" و"العيطة" لعبن دورا وطنيا وقاومن الاحتلال، وهذا الكلام مجرد هراء وتدليس، لأننا وجدنا بعض المجرمين وتجار الخمور-على قلتهم- قد قاوموا الاحتلال، فهل نقول: إن الإجرام والخمور قاوم الاحتلال، فينبغي الاحتفاء به ورفع مكانته والتطبيع معه! حتى إذا سلمنا بأن الشيخات قاومن الاحتلال، فهل كان ذلك بأشعارهن وزجلهن، أم كان ذلك بليِّ الخصور وهزّ الأرداف؟ الجواب ظاهر وبيّن، فقد قاوم بعضهن الاحتلال بالشعر والكلام الموزون كما هو قاومه غيرهم من أرباب الكلمة واللسان، لا بشيء آخر يثير الغرائز ويحرك الشهوات. 3- الحياة الاجتماعية للمرأة قبل الاحتلال يصر "حزب الشيخات" أن يجعل الوضع الأخلاقي للمرأة المغربية المعاصرة كالوضع الأخلاقي لها قبل الاحتلال الفرنسي، ولذلك تجدهم يبحثون لها عن سلف في الماضي يستأنسون به ويجعلون منه قدوة…لكن المصادر التاريخية المختلفة تدلنا على العكس، فقد كان وضع المرأة عموما يطبعه طابع الوقار والحشمة، إلا ما كان شذوذا واستثناءً، والشاذ لا يقاس عليه. يذكر لنا المؤرخ عبد العزيز بن عبد الله وضع المرأة في الريف، فيقول: "وكانت توجد في الريف أسواق مخصصة للنساء لا يشاركهن فيها الرجال، كالسوق الذي ينعقد في سيدي مالك في قبيلة بقوية وكسوق مرنيسة" 4. ولم يكن الوضع في الأطلس و سوس مختلفا عن الريف، فقد كانت هناك أجنحة في الأسواق مخصصة للنساء، وكانت المرأة تتحاشى الرجال ما أمكنها، وعندما تتزوج البنت "تغالي في التحجب حتى لا يظهر من سربالها القطني الأبيض سوى عين واحدة، ومعظم النساء طاهرات عاملات" 5 ويحدثنا المؤرخ إبراهيم حركات – رحمه الله- عن المرأة والأسرة، فيقول: "و أسمى مثل للمرأة هو تلك السيدة الصالحة المتبتلة التي قد تصل إلى مرحلة المكاشفة. وهي في كل حال موضع تبجيل وتبرك من الفئات الاجتماعية على اختلافها، وقد نجد بين هذا الصنف من النساء مثقفات تلقين المعارف على شيوخ بارزين" 6 فهل تجرؤ هذه المرأة التي كانت موضع تبجيل من الجميع على تخطي حاجز الحياء، فتكون شيخة تمتع جمهورها وتثير فيه شهوته الحيوانية؟ بل هل يمكن لامرأة تتحاشى الرجال في الطرقات العامة، أن تقف فجأة- هكذا- على الخشبة وتمسح وجوه الجمهور ببصرها؟ إذا كان الجواب بالنفي، فمن تكون هذه المرأة التي صارت شيخة؟ هي- باختصار- من نسل المرأة التي تحدثنا عن طهرها ونقائها قبل، لكن تدخل المحتل بأساليبه الماكرة أفسد فطرتها و أزال عنها حجب الستر الحياء. حتى إذا ساد ذلك الوضع وانغمس المجتمع في الرذيلة فقد حاسته النقدية تجاه كل مهددات هويته القيمية والأخلاقية، وقد كان ذلك من أخطر أهداف المحتل. 1- الفجور السياسي، ص: 40 2- قيمة القيم، ص: 31 3- صالح شكاك، المسهب في أسرار المغرب، ص: 325 4- معطيات الحضارة المغربية، ج2، ص: 22 5- نفسه، ج2، ص: 23 6- المغرب عبر التاريخ، ج3، ص: 469