دأب المغاربة منذ قرون من خلال الجماعة الأهلية على احتضان أئمة المساجد والاحتفاء بهم، ومنحهم مكانة مرموقة تليق بالوظائف المتعددة التي يقومون بها، وظائف تنوعت بين الروحية والتعليمية والتربوية والاجتماعية. على ذلك، كان إمام المسجد يعيش معززا مكرما بما توفره له "جْمَاعَه" من مأوى وراتب شهري معتبر ناهيك عن الأعطيات في كل المناسبات الدينية. الأمر الذي جعل وظيفة الإمامة مهابة وذات حصوة في المجتمع. لكن سرعان ما بدأت أحوال الأئمة بالتردي والقهقرى أمام إقدام الدولة على مأسسة المساجد وتأميمها وجعلها مؤسسات ملحقة بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. تخلت الجماعة الأهلية عن إمام المسجد، واستضعفت الوزارة المعنية حقوقه، براتب شهري لا يتعدى 1200 درهم في واقع مرير يتسم بغلاء المعيشة وانفتاح الجيل الجديد من الأبناء على حالة الرفاه التي يعيشها العالم. حيال هذا الواقع المزري الذي أضحى الأئمة في المغرب يتجرعون صديده، لم هناك بد من دق جرس الإنذار وتنبيه أغنى وزارة في المغرب أن الأئمة الموظفين في سلكها يعيشون تحت خط الفقر. من الطبيعي جدا في هذه الحالة أن يتوجه الأئمة بكل الطرق السلمية للمطالبة بتحسين أوضاعهم وظروفهم المعيشية. هذا بالضبط ما حصل مع الإمام سعيد أبو علين الذي لم تكتف الوزارة المعنية باستضعاف حقوقه بل لجأت إلى قطعها بعد توقيفه عن الإمامة والخطبة وتعليم القرآن بمدرسة الرحمة القرآنية. الإمام سعيد هو فقط نموذج للحالة المزرية العامة التي يعيشها إمام المسجد في المغرب. لهذا حاول هذا الأخير أن يوصل صوته ومظلومية سائر الأئمة لوزير الأوقاف مباشرة ومن دون وسائط، فانتقل إلى العاصمة الرباط ليعبر من مطالبته بتصحيح وضعه الإداري والمالي، وكذا المطالبة بتحسين الظروف المادية والمعيشية الأئمة المساجد. هكذا وعوضا عن احتضانه وسماع شكواه قُدِّمت شكوى ضده اعتقل على إثرها وحُكِمَ عليه ابتدائيا بالسجن لمدة سنتين وغرامة قدرها 10 آلاف درهم. مبلغ لم يحلم بتوفيره من الراتب الهزيل الذي يتقاضاه طيلة حياته، فأنَّى له أن يدفعه.. إننا ونحن نعاين هذه النازلة الأخلاقية والقانونية والاجتماعية ذات الأبعاد السياسية لا يسعني إلا أن نستخلص الدلالات التالية: – أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عندما سحبت تدبير المساجد من النسيج الأهلي، وللأسف الشديد لم تكن في مستوى توفير وتليبة على الأقل نفس الوضعية المالية التي كان الأئمة يتمتعون بها قبل تأميمها للمساجد. – أن الوزارة عمدت إلى التحكم في الشأن الديني بتعيين الأئمة والخطباء والمشرفين على دور القرآن دون أن توفر لهم الحد الأدنى من الأجور، علما أن بيوت الله يتحمل كلفة بنائها المحسنون وتكتفي الوزارة بتدشينها وضمها. – أن الوزارة ومن ورائها الحكومة وكل مسؤول من ينصب نفسه مسؤولا عن الشأن الديني، عندما يزدرون أئمة المساجد ويحطون من قيمتهم الاجتماعية، ويهددون أمنهم الاقتصادي والمهني، إنما يعرضون أمن المغاربة الروحي إلى الخطر، ويدفعون بهؤلاء الأئمة إلى ممارسة ومزاولة مهن وحرف أخرى لتغطية نفقات حيوات أسرهم. إن من شأن هذا الفعل أن ينزرع عن الأئمة ذلك الوقار الروحي والمسحة الربانية التي تجعلهم أهلا للاقتداء وإمامة الصلاة. – إن محاكمة الإمام سعيد أبو علين هي إهانة للمسجد، وإهانة لأهل القرآن، وإهانة لتاريخ المغاربة الذين كانوا ولا زالوا يمجدون ويوقرون كل من يحمل في صدره كتاب الله عز وجل. – إن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي أصبحت بقدرة قادر من بين وزارات السيادة قد تخطت كل الخطوط الحمر في مربع لا يشبه مربعات وزارات السيادة الأخرى ألا وهو مربع الشأن الديني بما يحمله من حساسية خطيرة. إن فقدان الوزارة لمصداقيتها عبر الظلم المستمر الذي يلحق الأئمة والقيمين على المساجد، سيؤدي لا محالة على المدى المنظور والمتوسطة إلى فقدان المؤسسة الدينية ومن يترأسها إلى أية مصداقية. إن هذا التدبير المتهور له تبعات وخيمة في كل الاتجاهات. بناء عليه، نرى أن هذا القطاع الحيوي له خصوصية يتوجب التعامل معها بحذر شديد. فكيف لهذا القطاع الذي ينتظر منه تحليق الشأن العام أن يكون نموذجا سيئا حيث التمييز والطبقية في صفوفه، وحيث أن ثرواته تنفق على الأموات أكثر مما تنفق على الأحياء. فها هي ملايين الدراهم تنفق على الأضرحة والولائم والمواسم، وها هي ملايين أخرى تنفق على القيمين على المجالس العلمية في حين يقلع أئمة المساجد تحت خط الفقر. أليس في القوم رجل رشيد، أم ينطبق عليهم القول: لقد أسمعت لو ناديت حيًا…ولكن لا حياة لمن تنادي