الجمعة 06 نونبر 2015 اضرب في المليان.. هؤلاء خوارج… كلاب أهل النار.. طوبى لمن قتلهم وقتلوه.. لا زلنا نذكر تلك العبارات التحريضية التي أطلقها مفتي مصر السابق الشيخ علي جمعة، ليُضفي الشرعية على الممارسات القمعية ضد المتظاهرين السلميين المطالبين بعودة الشرعية التي ذُبحت في انقلاب الثالث من يوليو. ولم يعد خافيا على صغير أو كبير في مصر والعالم الإسلامي أن الرجل يرقص على إيقاعات السلطة باحتراف، وأصبح عمامة مُسَيَّسة تتماهى مع توجهات النظام. ولذا لم يثِر دهشتي إزاء توتر العلاقات بين النظام الحالي وتركيا، أن يتوجه جمعة لرشق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتكثيف الهجوم عليه. ولم يكن غريبا على الشيخ الذي يزعم رؤيته رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة، أن يقوم باللصق واللزق بعد اجتزاء السياق وبتره، ليوهم أن بائعات الهوى أعطين أصواتهن لأردوغان وحزبه عبر صفقة بين الجانبين. * قال جمعة: أردوغان اجتمع بالمومسات، أثناء عمله محافظًا لاسطنبول، وقام بحلّ المشاكل الخاصة بهن، وفتح لهن مكتبًا للحصول على التصريحات من وزارة الصحة والضرائب والداخلية لممارسة عملهن دون أي مضايقات. وبدا واضحا أن الشيخ يرمي إلى النيل من الشخصية الإسلامية للرئيس التركي المعروف برفضه للسلطة الانقلابية في مصر. * سأتجاوز تلاسنه وخروجه عن إطار الأدب الإسلامي ونعته أردوغان ب"المجرم ابن المجرم"، وهو ما يأبى أن يفعله أي شخص "محترم" فضلا عن كونه من أهل العلم، لأناقش معه ومعكم بإنصاف، ما اتهم به الرئيس التركي. أقول: يا فضيلة الشيخ، نعم الداعرات أعطين أصواتهن لأردوغان في انتخابات بلدية اسطنبول، أوافقك على هذا فهي حقيقة لا تُنكر، ولكن ليتك عرضت سياق الحدث بتمامه، والسبب ببساطة شديدة، أن الرجل تعامل معهن كفئة آدمية من مجتمعه مهما كانت آثمة، وضمّنها اهتمامات برنامجه الانتخابي، لأنهن من البشر. أراد أردوغان يا فضيلة الشيخ أن يأخذ بأيديهن إلى التوبة والاستقامة، ووعدهن حال التوبة بتوفير سكن وعمل شريف ومساعدتهن على الزواج إن أمكن. وإن كنت لا تقرأ، فاقرأ معي ما يقوله الدكتور عبد الودود شلبي رحمه الله عن أردوغان أثناء توليه منصب عمدة اسطنبول، وأنت تعرف أن الدكتور شلبي مصري مثلك، يقول في كتابه "جنرالات تركيا… لماذا يكرهون الإسلام": "لم يكتف الرئيس الشاب بكل هذه الإنجازات، فقد خطا خطوات أخرى كان لها وقع الصاعقة، فقد أغلق نوادي القمار والخمر، وذهب إلى زعيمة الداعرات في المدينة –وهي أرمنية الأصل- يعرض عليها وعلى ضحاياها التوبة ويعدهم بتوفير حياة كريمة لائقة بعيدة عن الفجور والدعارة". هذا كلام رجل زار إسطنبول في هذه الأثناء بنفسه، وينقل ما تبين له خلال فترة زيارته. تلك الفئة وجدت من يهتم بها وينظر إليها باعتبار آدمي، فلم يكن مستغربا من بائعات الهوى أن يهرعن إلى صناديق الانتخاب لمؤازرة من نظر إليهن ومد يد العون إليهن. وأوافقك يا فضيلة الشيخ في أن أوكار الدعارة في عهد أردوغان تمارس عملها بترخيص حكومي، فلن أجادل معك في تلك الحقيقة، لكني سائلتك: هل كانت الدعارة نشاطا أتى به أردوغان؟ أم أنه يُزاول قبل مجيئه بعقود؟ وقطعا أنا لا أوافق على السماح بالدعارة في أي من بلدان العالم الإسلامي، وقطعا لا أدافع عن أردوغان وحزبه في السماح للداعرات بمزاولة نشاطهن، ولكن يا فضيلة الشيخ الأمور التي تتعلق بالدول والجماعات والأمم لا ينظر إليها من جانب واحد بينما تهمل بقية الجوانب. وسؤال واحد إجابته هي الفصل ما بيني وبينك: هل أردوغان راضٍ عن ذلك ويشجعه؟ ولنقم بصياغة السؤال بصورة أعمق: هل أردوغان ذو توجهات إسلامية أم علمانية تفصل الدين عن الدولة؟ أكاد أسمعك يا فضيلة الشيخ تقول بأنّه لا يعبأ بالدين وأنّه صاحب شعارات فقط، ومن هنا دعني أقول لك: لماذا سُجن أردوغان عمدة اسطنبول أربعة أشهر؟ أليس بسبب أبيات شعر تحمل الصبغة الإسلامية؟ لماذا أرسل أردوغان ابنته لتتلقى تعليمها في أمريكا؟ أليس من أجل تفادي خلع الحجاب والتصادم مع مؤسسات الدولة العلمانية؟ لماذا أصرت بنات أردوغان وزوجته على ارتداء الحجاب رغم سيل الانتقادات وألوان الهجوم التي تعرضوا لها بسبب ذلك؟ لماذا قالت مجلة "نيوزويك" الأمريكية إن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان أطلق إحياء التعليم الإسلامي في المدارس التركية، ويقود زيادة بنسبة 90% في المدارس الدينية في تركيا؟ من الذي أدخل المحجبات البرلمان والمؤسسات الحكومية؟ ومن الذي بنى المساجد داخل تركيا وخارجها واعتنى بدور تحفيظ القرآن؟ أو ما علمت أن الرجل عندما سُئل عن سبب نجاحه في إدارة بلدية اسطنبول قال: لدينا سلاح أنتم لا تعرفونه إنه الإيمان لدينا والأخلاق الإسلامية أسوة برسول الإنسانية عليه الصلاة والسلام.. هل يقول ذلك علماني يفصل الدين عن شؤون الحياة يا فضيلة الشيخ؟ بل اقرأ معي ما سطره جراهام إي.فولر في كتاب "الجمهورية التركية الجديدة…تركيا لاعب إقليمي متنام" يقول: "حزب العدالة والتنمية ليس حزبا معتدلا فحسب، بل هو حزب إسلامي يمزج القيم الإسلامية بالحياة السياسية". ويضيف: "الحزب الإسلامي هو الحزب القادر على وضع تعاليم القرآن والسنة النبوية في صورة مبادئ قادرة على إدارة الدولة والمجتمع وهو ما يقوم به حزب العدالة والتنمية حاليا". *لا أدعي العصمة لأردوغان، ولا أقول بأنه خليفة المسلمين، لكنه رجل يعتز بدينه وأمته ويسعى لإقامة العدل.. نعم له اجتهاداته التي يصيب فيها ويخطئ. نعم له حساباته التي قد لا تنسجم مع تطلعات أهل الإسلام. ولكن هلا وعيت البيئة التي يعمل فيها أردوغان؟ إننا نتحدث عن بلد تخرج فيها المليونية بكل يسر وسهولة لكي تهتف: "لا للشريعة".." تركيا علمانية وستظل علمانية". إننا نتحدث عن إرث ثقيل وفكر جاثم على صدر الأمة التركية على مدى عقود، ينازعها في هويتها، ويزجّ بها إلى هاوية التغريب. لذا يسدد الرجل ويقارب، ويوازن بين الممكن والمأمول، يسعى لتحقيق المواءمة بين الإرث الأتاتوركي ومساره القسري تجاه التغريب، وبين التعاليم والتقاليد الإسلامية التي تربى عليها ويؤمن بها، ويأخذ في الإصلاح التدريجي. لكن الرجل يسعى للإصلاح ودرء الفساد لا شك، ومنذ سنوات تداولت وسائل الإعلام واقعة جرت في 25 أغسطس عام 2009، سجلها الكاتب شريف تغيان في كتابه "الشيخ الرئيس رجب طيب أردوغان". ومفادها أن أردوغان توجه إلى أحد الأحياء الفقيرة لتناول الإفطار في رمضان في أحد منازل الفقراء، فقابله عمدة الحي واسمه "بكتاش"، فقال له أردوغان: "سأطلب منك هذه الليلة طلبا"، قال: "السمع والطاعة لك يا سيدي"، فمد يده إلى جيب قميص العمدة والتقط علبة السجائر وقال: "إنك ستترك السجائر من الآن". ولما وعده الرجل بأن تكون العلبة الأخيرة، لم يجبه أردوغان إلى ما طلب، وأمسك بعلبة السجائر ودون عليها اسم العمدة والتاريخ ووقع عليها ثم ناولها مدير مكتبه وقال: "احتفظ بها لنضعها في متحف علب السجائر التي نجمعها". أنصف مع نفسك يا فضيلة الشيخ وقل لي: أمثل هذا الرجل يرضى بالدعارة في بلده أو أي وجه من أوجه الفساد؟ ولكن أعود وأقول يا فضيلة الشيخ، أنت الذي قلتها مُحرّضا على المتظاهرين السلميين في مصر: اضرب في المليان، فكيف لا تضرب في أردوغان.