من هو مثقف اليوم، يبدو أن تحديد تعريف مقتضب للمثقف أضحى من المهمات المعرفية الصعبة، إن لم نقل المستحيلة، في ظل تركب القضايا الثقافية، وتعقد المرجعيات الفكرية، وتواتر المعضلات الأخلاقية، وهي أسباب كفيلة بالقول : إن المثقف كائن ماعاد له وجود مركزي في الأوساط الثقافية، وإذا أردنا الاقتصاد في هذا الحكم، نقول: أصبح دوره هامشيا إلى حد الاكتفاء بمعاينة التحولات الكبرى عبر الفيسبوك، وبحساب مزور، ألهم إن كنا سنتحدث عن أشباه المثقفين الذين يقدمون أنفسهم كذلك، أو بالأحرى، بعض الخبراء الذين يدلون بدلوهم في مجالات محدودة لا يمكنهم بأية حال من الأحوال مقاربة القضايا الفكرية الاستراتيجية، ولا نقد القرارات السياسية المحركة للعجلة الديبلوماسية للبلاد، ولا تفكيك السلوكات المجتمعية للعباد، فالمثقف كذات كلية مجرد فكرة نرددها باستمرار دون أن نستوعب أنها مجرد سراب في مجتمع عرف تحولات جذرية، اختيارية ومفروضة، وخير دليل على هذا التصور الانتهاكات الحقوقية التي تعرفها البلاد، والاضطرابات الفكرية التي تؤزم وضعنا كل يوم، حيث المثقف بالمفهوم الذي تعلمناه من مطبوعات الكلية غائب، منعدم، لا صوت ولا صورة له، فمن هو مثقف اليوم إذن؟ الجواب عن هذا السؤال يقودنا إلى عدة أسئلة إنكارية، أهو ذاك الطالب الجامعي الذي يحفظ المطبوعات المنسوخة عن ظهر قلب داخل المكتبة الوطنية، أو على متن حافلة الترامواي، ويتقيؤها يوم الامتحان مجبرا، مكرها، ويتودد لزميلاته قصد خلق العلاقات، ويوهم نفسه بالانتماء إلى النخبة الموقرة، المحترمة، النخبة التي تحرك المجتمع بالأفكار، ويرفض النضال، لأنه في معتقده فعل رجعي، وتصرف متخلف لا يناسب مقام الطلاب، يقضي معظم يومه يتابع الأخبار على الفيسبوك، ينشر بعض الهرطقات، ويتغزل بالفتيات، ويقدم نفسه مثقفا يفقه في كل شيء، أم تلك الطالبة التي تتزين، تتملق، تلتزق بالأساتذة، وتنتظر زواجا عبثيا ينقذها من جحيم شعبة جامعية اصطدمت بها بعد حصولها على الباكلوريا . أهو ذاك الشاعر العربي الذي ماعادت العروبة تحرك فيه شيئا، يلتقط الصور مع الورود، ويردد دائما على الفيسبوك: الشاعرات هن الفاضلات، ينشر اقتباسات، مقتطفات، أسطرا أشبه بالشعر، كثير الحديث عن أناه، وقليل الحديث عن واقعه المشؤوم، يطبل للبدهيات،ويرفض الخوض في الجزئيات، ويختبئ دائما وراء الرمزيات والاستعارات. أهو رجل الدين، الفقيه، الشيخ الذي يكثر الحديث عن الجنس، ويفصل في مواضيع المرأة، ويمدح ولي الأمر، ويوصي الناس بالقناعة، ويحذرهم من الغنى، ويقذفهم بالثنائية المشهورة: الجنة للفقراء، وجهنم للأغنياء . أهو الأديب، الروائي الذي يلهث وراء الجوائز والتقديرات، ويتعطش لحضور البرامج التلفزية والمسابقات، ويكثر الشكر في الندوات، يكتب لمن؟ يكتب للمؤسسات . أم هو الكاتب الذي يتصيد الفرص، ويتودد لدور النشر، ويطمع في الأرباح، ويكتب في مواضيع مبتذلة، مادتها الجنس، وقوامها تشبيهات منمقة، وأغراضها استثارة غريزة القارئ وتنويم فكره المبطن . أهو الأستاذ الجامعي الذي لا يتجاوز إنتاجه الفكري محاضرات مقتضبة داخل مدرجات الكلية، ينسخها لطلبته ويمتحنهم في البضاعة نفسها ككل موسم جامعي، لا مقالات علمية تغني المشهد الثقافي، ولا مؤلفات تسهم في نماء المعرفة والثقافة والفكر . هل هو الصحافي الذي يبحث عن "البوز"، ويسترزق من فضائح الناس، ويطبل للقرارات السياسية كيفما كان وقعها على معيشة الشعب، وينكر خروقات حقوق الإنسان، ويتبجح بملكة الكتابة، ويرفض التجرأ على المؤسسات، إنه الصحافي الذي يتلطف لمتابعيه، ويخاطبهم دائما " خوتشي خواتاتشي" . هل هو الخبير الاقتصادي، السياسي، المالي، القانوني، والذي لا نراه يحرك ساكنا في الأزمات، هَمُه، كل همه، المرتب الشهري، والكثير من المكافآت . هل المثقف هو السياسي الذي يعيش بين المتناقضين، يعيش من الريع ويندد به داخل قبة البرلمان، يملك كل الامتيازات، ويدافع شفاهة عن الفقراء، يقضي معظم فترة الولاية متنقلا بين أفخم الفنادق والمنتجعات، وينزل للشارع ساعة الانتخابات …… من هو مثقف اليوم إذن؟ أو بالأحرى، لماذا ننتظر من البطل المثقف أن ينقذنا من واقع عدمي نحن صنعناه عبر التاريخ . إننا نعيش ردة ثقافية، فكرية، سببها المركزي أنانية مكتسبة، وجهل جمعي خيم على سلوكنا سنوات، وخوف مطرد . إنه الخوف من التغيير …