عندما يخلد الفكر للنوم، تنبعث الأرواح الشريرة (Ruth Grosrichard). تعكس هذه المقولة الأدوار التنويرية و»التطهيرية» التي يلعبها العقل كفاعلية في نقد الحياة العامة وقيمها وحدودها وفرصها المتاحة للخلاص والرفاه، من خلال الفكر النقدي والتنقية القيمية والمراجعة الدائمة من دون مواربة. كثيرة هي المراجعات والإسهامات النقدية التي راجعت أدوار المفكر، الاجتماعية والسياسية، وسطرت ملامح الانخراط المجتمعي للفكر والثقافة. ووافرة تلك الانتقادات التي وضعت المفكر اليوم في موقع اتهام ونقد، وهو ما تعكسه المقولة الوصفية «صمت المثقف»، حيث إن العديد من تلك التوصيفات انبنت على مظاهر سكون الفكر النقدي واستكانته أمام جور الحياة الاجتماعية وعدم توازنها الأخلاقي والسياسي. لكن مقولة «صمت المثقف» تحتاج إلى كثير من التمحيص، لاحتوائها العديد من الدلالات التبسيطية، لأن المطلوب أولا، قبل الانخراط في هذا الحكم القيمي، هو تحليل نظم وآليات اشتغال المثقف داخل المجتمع وتواصله معه، وهو ما يطلق عليه «Bouveresse»، التمفصلات التواصلية للثقافة. وثانيا، بسط الفرص المتاحة والمواتية (السياسية والمؤسساتية) التي تستدمج أدوار الفكر والثقافة داخل منظومات التخطيط السياسي والممارسة الديمقراطية. وثالثا، الحذر من تبخيس المثقف والثقافة داخل مجال سياسي تكون فيه ممارسات السلطة تواقة لفكر جمعي تطبيلي ومضيقة الخناق على كل ممارسات العقل الحرة التنويرية. التمفصلات التواصلية للممارسات الثقافية كيف نتعرف على المفكر والمثقف داخل المجتمع؟ وإذا جاز لنا تصنيف الثقافة وفق منظومة من السلوكات والارتكاسات والتمفصلات الخاصة، كيف لنا أن نضعها موضع نقد ودراسة؟ تنصب هذه الأسئلة في ما يطلق عليه في زمرة الأبحاث الفلسفية «فينومينولوجيا الثقافة». وعبر التاريخ الثقافي، وبالتدقيق تاريخ الممارسات الثقافية، كان المثقف دائما يساير تطور الأداءات التواصلية للمجتمع، إن لم يكن هو محركها، فبعد مشاركاته المكثفة في السجالات التي كانت تنظم في الملتقيات المغلقة (داخل الدير والصالات) إبان الانعتاق البورجوازي الأول، تحول المثقف -باعتباره دينامو التغيير الاجتماعي والمفاوض من أجل إرساء الديمقراطية- إلى وسائط تواصلية أخرى، مجاراة مع تطور الصحافة وتطور أدوار المؤسسات الجامعية وكذا تطور سوق الطباعة والنشر. اليوم، وبفعل تطور وسائط الاتصال الرقمي والسمعي -البصري، أصبح «لزاما» على المثقف الحضور الثقافي ومجاراة السلوكات التواصلية السائدة (كالحضور في الموائد التلفزية والبرامج الإذاعية والدخول في منتديات النقاش والسجال الثقافي الإلكتروني والتعامل مع دور النشر ومتطلبات سوق التوزيع والبيع) من دون إغفال أهمية المشاركات في اللقاءات والمنتديات وتحرير التقارير والمقالات الصحافية المتخصصة والعامة... وهي كلها عوامل تحولت إلى شروط للحياة والاعتراف والتعرف داخل مؤسسات الثقافة وداخل الساحة الثقافية، عموما. وبغض النظر عن هذا الوصف المقتضب للانخراط التواصلي للمثقف، هل يمكن تحديد بعض المخاطر على الثقافة جراء هذا الانخراط، وبشكل آخر، هل الظهور التلفزي والإذاعي والصحافي للثقافة يجعل منها مادة دعائية ونظامية، بالنظر إلى الأدوار المحافظة لوسائل الإعلام، وبالأخص في مجتمعنا المغربي الراهن؟ وهي نابعة من إشكالية قديمة: كيف يمكن للمثقف أن ينخرط في إعلام ما هو نفسه موضوع نقد ثقافي؟ أول المخاطر هو قياس أهمية المثقف بعدد مشاركاته التواصلية، حيث يصبح المرور إلى التلفزة أو الجريدة مِحكّا نقيس به أهمية الإبداع وقيمة الانخراط المجتمعي للمثقفين. وهنا يطرح السؤال: كيف نقيس مدى الانخراط المجتمعي للمثقف؟ هل بعدد خرجاته الإعلامية؟ أم بنوعية إسهاماته الثقافية ذات النفاذية والعمق؟ وحتى إذا ما جزمنا، جدلا، أن الدور الحيوي للمثقف هو تحسين نوعية التحليل المجتمعي وليس الثرثرة و»الزعيق» الإعلامي، فكيف للمجتمع والمواطن والنخب السياسية الوصول وولوج هذه النفاذية الثقافية التي تبقى، في غالبيتها، عصية على الإدراك والاستثمار السياسي. يتم تحويل إصدارات عبد الله العروي الجديدة، مثلا، إلى خرجات إعلامية، وهو ما يزيغ بقيمة تلك الأعمال الفكرية والثقافية الأصيلة إلى أحداث عابرة. والعروي شديد الإحساس بهذه المعضلة الإعلامية التي صاحبت كل خرجاته، فهو عندما يقرر الخروج من «الصمت» (وهو صمت ليس فكريا أبدا، ما دام الرجل، كما باقي كل مثقف، منخرطا فلسفيا وفكريا بشكل دائم) يتحول مضمون خرجته من مستواها المعرفي إلى الإعلامي، وهو ما يجعل المتن الثقافي معرَّضا لاستثمار سهل (simpliste) مع تسليط الضوء على السبق وعلى المثير والجديد والانفعالي، وهي أشياء ليست بالضرورة مواصفات للخطاب الثقافي (وبالأخص مضمون فكر العروي ومثيله). ثاني المخاطر هو الحيز التواصلي نفسه، الذي تتيحه المنابر الإعلامية لزمرة المثقفين المنخرطين اجتماعيا، فهو حيز مضبوط زمنيا -لإكراهات البث- وبسيط ثقافيا، لأن غاياته التبسيطية تتماشى مع غايات المشاهدة الكمية المعروضة للبيع، حيث إن الحيز التواصلي يهدف -دائما- إلى تحطيم أرقام المشاهدة والتتبع، وهو ما يفرض على المثقف المار من أثير البث أن يبسط أفكاره ويتناول أكبر عدد ممكن من قضايا الاهتمام الشعبي، من دون الحديث عن إكراه محاورة المؤسسات والسلطة بخطاب ثقافي تحدده السياسات التحريرية للمنابر الإعلامية التي تلعب وساطة ما بين المثقف والسلطة (وهي ما يعبر عنها بسلطة الوسيط (pouvoir du médiateur ). هذا الحيز يجعل من التناول الثقافي تناولا تبسيطيا يخرج عن إطار النقد وآليات الفكر الصارمة. ويكمن ثالث المخاطر في مجازفة الاحتراق (أو ما يطلق عليه الإعلاميون احتراق الأوجه، من جراء كثرة استهلاكها إعلاميا). فكثير من المثقفين خذلتهم سهولة الولوج إلى الإعلام، فتحولوا إلى أيقونات محروقة، بالرغم من الأهمية الفكرية لمشاريعهم الثقافية. وتكمن نتيجة الاحتراق الإعلامي في وصول المتتبعين إلى حالة إشباع تواصلي مما يدفعهم إلى تحويل الانتباه (Zapping). تضاف إلى هذه المجازفات الإعلامية، التي تصاحب الخروج الإعلامي للمثقف، متغيرات أخرى أكثر أهمية، على رأسها الرؤية النقدية الشاملة للمثقف حيال وسائل الإعلام، فقبل مناقشة أسباب الصمت الإعلامي للمثقف المغربي، وجب وضع هذا الإعلام نفسه موضع نقد ثقافي. فالمشهد الإعلامي المغربي (سواء أكان تلفزيا او إذاعيا أو صحفيا) -وعبر الدراسات التواصلية والدلالية لها وعلى قلتها- يتميز بمواصفات مؤسساتية وسياسية خاصة تجعل من المثقف في وضعية مقاومة (Résistance) أمام مختلف دعوات المشاركة الإعلامية. أول المواصفات هو الطابع الرسمي للإعلام المغربي (التلفزي والإذاعي). ولا نقول رسميا فقط من حيث إشراف الدولة على التدبير البشري والإداري، بل ودخول السياسة التحريرية (بالأخص للقناتين التلفزيتين وعروشهما) في الأجندات السياسية الحكومية (أو الفوق -حكومية، باعتبار الأداء الحكومي هو أيضا استجابة لتوجيه سياسي فوقي). تعقد الضرورات الإعلامية لمباركة الاختيارات الثقافية والسياسية والاقتصادية للبلاد (بشكل دعوي) المشاركة الثقافية وتلعب دور عقبة أمام ولوج المثقف (باعتباره يحمل قراءات نقدية وبدائل تحليلية) لأخذ الكلمة داخل وسائل الإعلام. تنضاف إلى ذلك عقبة البرمجة الثقافية داخل إطار البرمجة التلفزية، حيث تتجنب هذه القنوات -خلال أوقات ذروتها- إلى التطرق لكل ما هو ثقافي، وبالتالي يجد المثقف الراغب فعلا في التعبير عن مشاريعه أمام المشاهدين عرضة ل«التهميش المفتعل»، بالرغم من وحي الفرصة المتاحة له بمصداقية انفتاح الإعلام للثقافة. ثاني المواصفات التي بدأت تتصف بها على الخصوص بعض المنابر الصحافية والإذاعية «الحرة» هو تمطيط السخط الاجتماعي واحتواؤه من خلال نهج سياسات تحريرية هي في الظاهر انتقادية معارضة لكنها، في العمق، لا تلعب سوى تكريس الأوضاع الراهنة لأنها تعتمد فقط على آليات وصف الواقع من دون القدرة على المرور إلى عمق تحليله ثقافيا. ويرى المثقف أن المجازفة في التناول السطحي للإشكاليات المجتمعية من شأنه أن يبعد المسافة الزمنية بيننا وبين الفهم، بل وأخطر من ذلك، يقلص من القيمة الفكرية والأهمية الإبستمولوجية للثقافة. تتمحور خلاصات هذا المحور المتعلق بتمفصلات الثقافة، إعلاميا، حول فكرتين أساسيتين، أولاهما عدم ميل المثقف الأصيل الحامل لمشروع ثقافي نهضوي حداثي إلى الانبهار بالانفتاح الإعلامي المزيف. وبالمقابل، عدم استعداد الإعلام بل عدم قدرته على احتواء المثقف. فقد رأينا، مثلا، كيف مر المرحوم محمد أركون في أحد حلقات برنامج «مباشرة معكم»: لم يستوعبه حيّز البرنامج ولم يخضع للمحاور المبرمجة ولم يستطع أحد أن يحاوره، ليس لأنه غامض، بل بالعكس كان يذهب إلى «المسكوت عنه»، دون مواربة.
غياب الفرص المواتية من الصعب الحديث عن آليات إنتاج المثقف. ومن الخطير وضع الإنتاجات الثقافية ضمن أنساق اجتماعية نعرفها ونتحكم في إنتاجها ونتنبأ بحدوثها أو أفولها. لكن الأنظمة السياسية الشمولية، التي وضعت لها كأجندة تحديد أدوار الثقافة والنقد، كانت تختار عادة العمل على مؤسسات إنتاج الفكر أو بالأحرى مؤسسات إنتاج الوعي النقدي (l'esprit critique) وعلى رأسها المؤسسات التعليمية ومؤسسات البحث ومنتديات المناظرة ( Espaces de dialogue )، التي تضم الجامعة والصحافة والحزب. الضرب على الثقافة المغربية، اليوم، وإجبارها على دفع صكوك الغياب والصمت والتخلف ربما حكم متسرع إذا لم نؤطر -تاريخيا وسياسيا- لإستراتيجية تهميش الثقافة والمثقف. وبالرجوع إلى تاريخ الممارسة السياسية للثقافة (Pratique politique de la culture) وهي نوع من الثقافة وليس كل الثقافة (لكي لا نسقط ضحايا التنميط)، فإننا سنرى أن السلطة السياسية المركزية -وخصوصا في الفترات الصاخبة والخطيرة- كانت دوما تدفن وتطفئ كل الشعلات الثقافية (بالنظر إلى خطورتها على استقرار النظام الذي لم ير فيها أبدا فرص استقراره وقوته): كل المنابر التعبيرية تم إضعافها ابتداء من أنفاس -لام ألف –أبحاث -الثقافة الجديدة... ومرورا بالنوادي السينمائية والجمعيات الشبابية داخل دور الشباب... وكلنا يتذكر العدد الكبير من المثقفين الذين تم اعتقالهم والكثيرين الذين اختاروا المنفى الاختياري والكم الهائل من الإصدارات التي لم يُكتَب لها النشر (من طرف دور النشر التابعة، بشكل غير مباشر، للدولة). كما نتذكر شعبة الفلسفة وأساتذتها الذين تم وضعهم تحت رقابة وحصار جامعي وأكاديمي فظيع... من دون الإسراف في الحديث عن تفريغ الجامعة من أدوارها التنويرية ورفض أن تعطاها وضعية مستقلة عن الوزارات الوصية وإغراقها بعناصر الشرطة الجامعية (نهاية الثمانينيات وإبان أحداث فاس سنة 1990). لكنْ، لا يمكن البتة أن نقيس غياب الثقافة بكل هذه العوامل التاريخية والسياسية، ولو أنها كانت قاتلة. أظن أنه قبل الحكم على «صمت المثقف»، لا بد أن نطرح أسئلة -سبق التمهيد لها آنفا- وهي هل نحن في مسافة مناسبة لجس نبض الحراك الثقافي والفكري؟ وهل لنا من المؤسسات الإعلامية والأكاديمية ما يكفي لاحتواء الإبداع وتحريكه؟ لأننا، ربما، نقع ضحايا إسقاط مشاكل اتحاد كتاب المغرب التي يتخبط فيها وتعميمها لوصف الساحة الثقافية، ككل، بالهزالة والخور. وهناك شبه إجماع -من لدن متتبعي الشأن العام- على أنه كان حريا بالمثقفين المغاربة أن يتحركوا لمؤازرة المغرب في معركته السيادية الحالية ودعمه لتقوية خطاباته السياسية والدبلوماسية من أجل تقوية موقعه الإقليمي وتحصين وحدته الترابية. نعم فالدعوة محمودة لكنْ... نحن هنا إزاء وظائف سياسية وليست ثقافية، وحتى العارضة الجماعية التي وجهتها قائمة من المثقفين والمفكرين لنظرائهم الإسبان لم تكن موفقة إلا في اتجاه واحد: هو استعداد أكثر من 100 مثقف إسباني لفتح مناظرات مع نظرائهم المغاربة والجزائريين حول مواضيع لها صبغة ثقافية وليست سياسية (كالحديث عن المقومات الثقافية المشتركة والدعوة إلى ترشيد مبادرات السلم والحرية وحرية التعبير والرأي داخل هذه البلدان)... لكنْ، زيادة على عقبات اللغة ما بين المثقفين في هذه الدول، هناك عقبات التموقع الثقافي (les positionnements) للمثقفين (كل في بلده) وعقبات الأرضية الفكرية وعقبات الأحكام المسبقة. وكم كان رد المثقفين الإسبان مُحرِجا بالنسبة إلى المثقفين المغاربة الموقعين على الرسالة المشتركة، حيث أجاب المثقفون الإسبان بأنهم ليسوا معنيين لا بالصحراء ولا بسبتة ولا بمليية (حيث إنها قضايا يتم تناولها بآليات قانونية ودبلوماسية مختلفة)، بل معنيون أكثر بقيمة الحرية وضمان ظروف تحقيقها فكريا، أولا، وسياسيا، ثانيا. فحتى عندما تحرك المثقف المغربي -في أول محك سياسي وحدوي- صدمته القراءات الثقافية في الضفة الأخرى بصرامة التشبث بقيم «نحن ما زلنا نناضل على إرسائها»...