في الوقت الذي تشتد في هذه الحملة المسعورة ضد الإسلام ونبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، ينبغي علينا كمسلمين أن نتحلى بالحكمة والرزانة وأن لا ننخرط في سيل السباب والشتم وتغذية أسباب الكراهية والبغضاء، فكما قال عبد المطلب جدّ الرسول الكريم:" للبيت ربّ يحميه" فإننا نقول :" للرسول ربّ يحميه ".والرسول نفسه تعرض في حياته لشتى صنوف الاعتداءات من طرف كفار قريش، لكنه كان يتعالى عن أن يكون مثلهم، بل كان يدعو لهم بالهداية وحينما أمكنه الله منهم عاد إلى مكة وفتحها، وبدل أن ينتقم منهم قدّم أروع صورة للصفح في التاريخ حينما سامحهم وعفا عنهم قائلا لهم :" اذهبوا فأنتم الطلقاء…". لقد دلت الوقائع السابقة على أنه كلّما رفع بعض أدعياء الكراهية من الغرب عقيرته بسب النبي وشتمه أو نشر رسوم مسيئة له، كلما ازداد ديننا توهجا وانتسب اليه الكثير من النصارى أنفسهم، وهذا دليل على نصرة الله لدينه ولنبيّه الكريم.وبالرجوع إلى كتاب الله العزيز نجد هذه اللمعة النورانية التي ينبغي أن نعض عيها بالنواجذ، حيث يقول ربنّا الكريم:" آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"( البقرة :285).ونحن إذ يأمرنا ديننا الحنيف بعدم التفرقة بين الرسل،فإننا نحبّهم ونجلهم ونتأسى بهم جميعا، ولا يضيرنا والحالة هاته أن نعمل بالتوجيه الأخلاقي الوارد في قول المسيح عيسى عليه السلام:" سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ " ( إنجيل متى الإصحاح 5 : 39). إن قيم التسامح والسلم والمسالمة هاته جاء الإسلام ليعلي من شأنها ويرسخها في عقيدتنا وسلوكنا ولا بأس من الوقوف على بعض أوجه هذه القيم في ثنايا هذا المقال: لقد انبنى المجتمع الإسلامي على عقيدة السلم والسلام ، التي انتظمت كل شؤون الحياة فيه، ومن ثمة تأسست العلاقة بين المسلمين فيما بينهم ، وبينهم وبين غيرهم من الأمم على أسس وطيدة من التسامح والعدالة والبر والرحمة، وهي أسس لم تعرفها البشرية قبل الإسلام، ولا تزال حتى بعد انصرام قرون عديدة بعد ظهور الإسلام مطمح العديد من المجتمعات الحديثة، التي فشلت في الوصول إليها بسبب طغيان الهوى والطمع والكراهية والعصبية، وضيق الأفق والأنانية، وعدم القبول بالآخر وهو ما تسبب في حدوث صراعات وحروب مريرة نتيجة هذه المجابهات المستعرة بسبب الخلاف في الدين، أو المذهب، أو الجنس، أو اللون، يقول تعالى في محكم كتابه العزيز:" لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " (الممتحنة: 8، 9)؛ تلخص هذه الآية الكريمة أساسيات العلاقة بين المسلمين وغيرهم من الأمم الأخرى، وهي علاقة قائمة على البر والقسط اتجاه الناس جميعًا بلا تمييز، ولو كانوا كفارًا بالإسلام، ما لم يقفوا في وجه المسلمين أو يحاربوا دعاته، أو يضطهدوا أهله. ومن صورالتسامح التي أبداها الإسلام وقررها إزاء أهل الكتاب عدم مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى، حتى لا توغر الصدور بنار العصبية ولا تملئ القلوب بالضغينة، يقول تعالى :" وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت: 46)، كما أن الإسلام أباح مؤاكلة أهل الكتاب، والأكل من ذبائحهم، وكذا مصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات العفيفات، على أساس من المودة والرحمة، وهذا مظهر آخر من مظاهر التسامح الذي انماز به الإسلام ؛ حيث أباح للمسلمِ أن تكون زوجته وشريكة حياته وأم أولاده غير مسلمة، وأن يكون أخوال أولاده وخالاتهم من غير المسلمين؛ قال – تعالى: " وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " (المائدة: 5).وعلاوة على ذلك نصّ الإسلام على معاملة أهل الذمة معاملة حسنة لا ظلم فيها ولا عدوان، إذ حذر المسلمين أن يمدوا أيديَهم أو ألسنتهم إليهم بأذى أو عدوان، فالله سبحانه حرم الظلم على نفسه وجعله محرما على المسلمين ، فهو لا يحب الظالمين ولا يهديهم، بل يستعجل لهم العذاب في الدنيا، أو يؤخر لهم العقاب مضاعفًا في الآخرة،كما أن الأحاديث النبوية الشريفة حذرت هي الأخرى من ظلم غير المسلمين من أهل العهد والذمة، ومنها:قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَن ظلم معاهَدًا، أو انتقصه حقًّا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أحذ منه شيئًا بغير طِيب نفسٍ منه؛ فأنا حجيجه يوم القيامة). وقد نصّ النبي صلى الله عليه وسلم في عهده لأهل نجران على أنه: (لا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر). وسيرا على نفس الهدي استمرت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين بدفع الظلم عن أهل الذمة، وكف الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبلهم، فهذا عمر رضي الله عنه كان يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد مسّهم بأذى، فضلا عن أنه أكد بالقول في وصيته للخليفة بعده: "وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرًا، أن يوفى لهم بعهدهم، ويحاط من ورائهم". وعلى نفس الشاكلة يقول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -:" إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا ". كما أن فقهاء المذاهب الأربعة صرَّحوا وأكدوا بأن على المسلمين دفع الظلم عن أهل الذمة، والمحافظة عليهم؛ لأن إعطاء الذمة يتضمن حكما الالتزام بدفع الظلم عنهم، وهم بذلك صاروا به من أهل دار الإسلام، بل إن بعض هؤلاء الفقهاء ذهب إلى حد التصريح بأن ظلم الذمي أشدُّ من ظلم المسلم إثمًا. و في نفس الإطار يندرج حق الحماية الذي ضمنه الإسلام لأهل الذمة ويشمل حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم، كما يتضمن حماية أموالهم وأعراضهم، فدماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَن قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)، وينضاف إلى ذلك حماية أبدانهم من الضرب والتعذيب؛ فلا يجوز إلحاق الأذى بأجسامهم ولو تأخروا أو امتنعوا عن أداء الواجبات المالية المقررة عليهم؛ كالجزية والخراج. ويشدد الفقيه المالكي "شهاب الدين القرافي" على وجوب حقوق الذميين في قوله: "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا "حمايتنا" وذمتا، وذمة الله – تعالى – وذمة رسول الله – عليه الصلاة والسلام – ودين الإسلام، فمَن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غِيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وذمة دين الإسلام.( كتاب الفروق). وتجدر الاشارة إلى أن الإسلام توّج هذه الحقوق التي أفردها لأهل الذمة بتنصيصه وتوكيده على ضمان حرية التدين لهم بما يعني حرية الاعتقاد والتعبد، يقول سبحانه وتعالى : " أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " (يونس: 99)، فلكل إنسان مطلق الحرية في اختيار دينه ومذهبه، لا يجبر على تركه إلى غيره، ولا تمارس عليه أية ضغوط كيفما كانت ليتحول منه إلى الإسلام، ومستند هذا الحق يكمن في قوله تعالى:" لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: 256).وفي هذا السياق صان الإسلام لغير المسلمين معابدَهم: كنائس وبيعا، ورعى حرمة شعائرهم،وقد تضمن عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لأهل نجران على أن لهم جوار الله وذمة رسوله (ص) على أموالهم وملتهم وبِيَعِهم. واهتداء بالمصطفى عليه السلام تعهد الفاروق عمر بن الخطاب في عهده لأهل "ايلياء" بضمان حريتهم الدينية، وحماية معابدهم وشعائرهم ومما جاء فيه: "هذا ما أعطى عبد الله "عمر بن الخطاب" أمير المؤمنين، أهل "إيلياء" من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم،وكنائسهم، وصلبانهم، وسائر ملتهم، لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم". استرشادا بهذا التوجيه النبوي الشريف عمل الصوفيون من جانبهم على إبراز العمق الإنساني للقيم الإسلامية نظرا وسلوكا، من خلال تبنيهم لمسلكيات خلقية منبنية على قواعد التضحية والتسامح وتقديم المساعدة والعون دون تمييز عرقي أو تعصب ديني، وتحفل في هذا الصدد المرويات الصوفية بالعديد من نماذج وأمثلة الخلق الصوفي في صفائه وجماله وسماحته،من ذلك تمثيلا لا حصرا حكاية أبي يزيد البسطامي مع الصبي المجوسي والتي جاء فيها: "بكى صبي مجوسي في جواره ليلة من الليالي،ولم يكن لهم سراج فوضع أبو يزيد السراج في كوخهم حتى سكت صبيهم بضوء السراج برا وشفقة، فقالت أم الصبي لأبيه لما حضر وكان غائبا حين بكائه : ألا ترى إلى شفقة ابن عيسى بن سروشان قد فعل مثل هذا فعجب من شفقته عليهم ودعت بركة شفقته أن أسلموا عن آخرهم". ومن حكايات هذا الصوفي التي تعكس روح الأخوة في أنبل معانيها وأسمى مقاصدها ما نصه : " كان في جوار أبي يزيد فقيه يحسده على ما كان يجري الله على يديه فتقدم إلى أبي يزيد رجل وقال له: إذا تبصر بنا هذا الفقيه يقول لنا: لا تشتغلوا بما لا يعنيكم، ألا تتعلمون ما ينفعكم ؟ ما هذا الذي يحملكم على خدمة هذا المهووس الذي لا يحسن أن يتطهر فقال أبو يزيد قولوا له: عليك بنفسك فالزم دينك أن ترك عليك فاني لا آمن عليك أن تموت حين تموت مسلما،فأخبر الفقيه بذلك فأغاضه ذلك ، فقضي أن الفقيه مرض فأوصى أن لا يدفن في مقابر المسلمين فإنه على دين النصارى،فلما مات اختلفوا فيه فحمل إلى مقابر النصارى. وكان أبو يزيد بعد ذلك يقول:"ما شيء بأعون على أحدكم من تعظيمه لأخيه المسلم وحفظ حرمته، ولا شيء أضربكم من تهاونكم بإخوانكم وتضييع حقوقهم، وقال: أقرب الناس من الله أكثرهم شفقة على خلقه" ما يستفاد من الحكايتين هو إبداء الصوفي لروح التعايش والتآخي والتسامح والشفقة إزاء الآخر سواء أكان مسلما أو كتابيا أو حتى مجوسيا، مما يعني تمثله ( أي الصوفي) لأسمى معاني الرحمة والتقيد بها في معاملاته وسلوكه،وذلك نتيجة إيمانه الراسخ بأن المحبة باب مشرع على الإنسانية وفسحة رحيمة في اتجاه الآخر طافحة بالتعاطف والتحابب والعطف والبذل والحدب. لا شك أن الجذر الروحي والروحاني الكامن في كل الأديان السماوية هو ما يعزز النزعة الإنسانية الكونية التي شدد عليها الصوفية من خلال رؤاهم الطامحة إلى تشييد عوالم ساطعة شفيفة وممتلئة بالمعنى،يجهد فيها الإنسان نفسه للاتصاف بصفات الله وأخلاقه من خلال سعيه الدؤوب للفناء فيه، وهو ما يدل عليه تعريف الجنيد للمحبة حين اعتبرها " دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب". في الختام أعود وأؤكد أن هذه الحملة المشينة للمس برسولنا الكريم، لن تزيدنا إلا حبّا له وتمسكا بديننا الحنيف الذي منه استقينا روح الخلق الكريم وتشبعنا بقيم التسامح والسلم. فما أبعد الثرى عن الثريا، ورحم الله جدّتي التي كانت تردّد دوما:" ما أبعد القمر عن نباح الكلاب ".