تأمل أولا: -يخلط كلامه طول يومه بكلمات وجمل فرنسية؛ -يكتب رسائله الإلكترونية لأصدقائه وأقاربه بالفرنسية، أو بالعربية المخلوطة بها؛ -يستمع للأخبار بالفرنسية، ويشاهد الأفلام بالفرنسية؛ -لا يهمه تعلم العربية، ولا يعد ذلك نقصا، ولا يستحيي أن يجهل قواعدها الابتدائية، بل لا يتذكر العربية إلا في يومها العالمي، فيتبرع بمنشور أو منشورين عن أطول كلمة فيها وأقصر كلمة والأبيات التي تقرأ من جهتين، وما أشبه هذه "الفلكلوريات اللغوية"!؛ -لا يبذل جهدا حتى في تعلم لغة أخرى، ينعتق بها من أسر الفرنسية، خاصة لغة العصر "الانجليزية"؛ -يحرص على إدخال أولاده إلى المدارس التي توفر تعليما جيدا في اللغة الفرنسية، ويكون أول ما يسأل عنه "كيف تعليم الفرنسية عندكم؟"؛ -يكلم أولاده في البيت بالفرنسية، ويقرأ لهم قصصا بالفرنسية، ويجلسهم لمشاهدة "رسوم متحركة" بالفرنسية؛ -إذا أنشأ شركة أو محلا تجاريا جعل اسمه وشعاره وقانونه الداخلي والإشهار له بالفرنسية؛ -لغة جهاز هاتفه: الفرنسية، ومعرّفه على مواقع التواصل بحروف "فرنسية"؛ … -ثم بعد هذا كله: إذا سمع من يقول له "لا بد من مقاطعة ثقافية ولغوية"، قال: "هذا في يد الدولة، ولا أملك منه شيئا!". وبعد أن تتأمل، حان لك أن تذكر: -أن الثقافة هي المفتاح والمنطلق لكل شيء؛ -وأن أسلافنا زمن الاستعمار (الحركة الوطنية بالمغرب، جمعية علماء المسلمين بالجزائر..) فهموا أن من أعظم وسائل مقاومة المستعمر: تعليم العربية لمقاومة الفرنسية؛ -وأن الأطفال الذين يرتضعون اليوم حب الفرنسية منذ نعومة أظافرهم، هم الذين سيقررون غدا في مصائر أمتنا، بما يوافق مصالح فرنسا. وفي الأخير.. -المقاطعة الاقتصادية خير وصلاح، وهي عمل آني سريع، نرجو أن يكون له أثر حسن، إن لم يكن من الناحية المادية، فعلى الأقل على النفوس والقلوب، التي تحييها هذه الحملات، وتضخ فيها دماء جديدة. لكنني هنا أحدثك عن شيء أعمق في الأثر، وأطول في الأمد. واعتبرْ إن شئت بهذه التجربة الشخصية التي أشرتُ لها من قبل في مقال "الفقه في الدين وضرورته للحياة" (المطبوع ضمن كتاب "الحياة – دليل إرشادي")، وسأحكيها لك الآن: في أجواء حرب الخليج الثانية، كان لي نقاش لا أزال أذكر تفاصيله، مع صهري رشيد النزهري -رحمه الله-، قرّعني فيه واشتد في الإنكار علي، بسبب ضعف تفاعلي مع قضية الأمة حينئذ، وعدم تفطني لما يحاك لها. وقد خرجت من النقاش متأثرا، فوضعت لنفسي مجموعة من القرارات الشخصية، كتبتها في ورقة، وجعلت لها عنوانا هو: "قرارات أضعف الإيمان.."! وكان من ضمن أهم هذه القرارات – وكان عمري يفوق الثامنة عشرة بقليل – النقص من تفاعلي مع الثقافة الفرنسية، "ثأرا" لأمتي ودفاعا عن قضاياها. وأنا أعد هذه المرحلة، نقطة تحول محورية في حياتي الفكرية كلها، كان لها ما بعدها مما يطول تفصيله. ثم ختاما.. أقول لمن يظن هذا كله انكفاء على الذات، وبغضا للتفتح على تعلم اللغات: أنا -والحمد لله- أتقن الفرنسية إتقانا تاما (كما أتقن غيرها، وأحرص على تعلم المزيد من اللغات)، ولا أزال أقرأ بها، وأحبها من حيث كونها لغة أدبية ودعوية هي اللغة الأم لخلق من المسلمين، لكنني أبغضها من حيث كونها لغة المستعمر الخبيث، القديم والحديث، ولغة الخضوع والاستلاب الفكري! والله الهادي إلى سواء السبيل.