«سُلْطانِيَّة» تذكر المعاجم اللغوية أنها عبارة عن وعاء واسع عميق، نصف كرويّ، مصنوع من الخزف يؤكل فيه الطعام، ذات يومٍ خرج ذلك الإعلامي المصري الشهير على الفضائيات، يستخدم هذه الكلمة في إخراج مشهد تهكُّميّ وهو يتلو قول الله تعالى (ما أغنى عني ماليَهْ هلك عني سلطانِيَهْ) فجعل يشير بيده إلى رأسه وهو يقول « سُلْطانِيَّة، سُلْطانِيَّة» في إشارة إلى ذلك الوعاء المعروف. منذ هذا المشهد الذي راعَني، بدأ اهتمامي بمتابعة الكاتب إبراهيم عيسى، الذي لا يدّخر جهدًا ولا يدع مناسبة إلا وتطاول فيها على ثوابت الدين، وأمعن في الهجوم على حَمَلَتِه، فتارة يُنكر ما صحَّ من السنّة النبوية، اتكاءً على مزاعم عدم توافقها مع عقله القاصر، وتارة يُشكك في «صحيح البخاري» الذي أجمعت على صحته الأمة وتلقته بالقبول، وتارة يهاجم الرعيل الأول ويتطاول على الصحابة الكرام، ويتهمهم بالتحرش الجنسي، كل ذلك تحت مظلة التنوير وتجديد الفكر الإسلامي. الكاتب المصري إبراهيم عيسى يعمل على نزع القداسة عن المنهج الإسلامي، بحجة عدم تسليم العقل للنص والغيبيات والأشخاص، لتفريغ الدين من محتواه، وليصبح عبارة عن مجموعة من القيم الروحية التي تنسجم مع التعايش الإنساني. الذي يظهر، أن الرجل بعيد عن طائلة قانون ازدراء الأديان، وله مساحة واسعة على الفضائيات يناقش فيها المنهج الإسلامي، ويُخضع النصوص الشرعية والتراث الإسلامي للمحاكمة التي لا سند له فيها سوى مُخرجات عقله وأيديولوجيته الناقمة على تقديس الدين، والاستناد إلى روايات تاريخية يجمعها كحاطبِ ليلٍ، من دون اللجوء إلى العلماء والدارسين، الذين يميزون صحيحها من سقيمها، مع أنه لو حدثه أحدهم عن العمل الإعلامي، من دون دراسة لاتهمه بالجهل، لكنه يبيح لنفسه احتكار الفهم الصحيح للنصوص الدينية، من دون أن يكون من أهل العلم بالشريعة. إبراهيم عيسى الذي يريد تجديد الفكر الإسلامي ونشر الفكر المستنير، وفق مفهومه، لم يكتف بكتابة المقالات والحديث على الفضائيات، فهو يريد أن تكون أفكاره الشاذة شعبية، تصل إلى كافة أفراد المجتمع المصري والعربي، فبحث عن موطئ قدم في الدراما، التي لا شك في وصولها إلى كل بيت في الأمة، وتؤثر في اتجاهات تفكير الجماهير وصياغة أفكارها، بل هويتها الثقافية، فمن ثم اتجه للكتابة إلى السينما. من خلال متابعتي له، كانت البداية روايته المعروفة «مولانا» تحولت إلى فيلم سينمائي بالاسم نفسه، وفيها طرح إبراهيم عيسى نموذجا للداعية الثائر، الذي يحاكم النصوص الشرعية ويحمّلها مسؤولية التطرف، ويهاجم الرعيل الأول، ويعتبر أن الدين منذ وفاة النبي تحول إلى سياسة ومصالح. راقت له التجربة في ما يبدو، فكتب قصة وسيناريو فيلم «الضيف» العام الماضي، ومارس من خلاله عادته المحببة في الهجوم على الحجاب، وتحميل ابن تيمية وغيره من علماء الأمة المسؤولية عن الأفكار المتطرفة، والربط بين التدين والإرهاب. من وجهة نظري، كل ما سبق من الهجوم على الثوابت، والحرب الشعواء التي شنها الرجل على التاريخ الإسلامي وشخصياته البارزة، وتراث هذه الأمة، كان تمهيدا لطرح النموذج الإسلامي الذي يريده إبراهيم عيسى، والذي قدمه من خلال فيلم «صاحب المقام» المعروض مؤخرا. تدور أحداث الفيلم حول رجل أعمال غارق في المادية، يعترض أحدَ مشروعاته ضريحٌ لأحد الأولياء، فيضطر إلى إزالته من الأرض، فيتعرض لسخط صاحب المقام، ويواجه تعثرات مالية وأسرية شديدة في حياته، وتتعرض زوجته لحادثة، فتظهر سيدة تُدعى «روح» ترشده إلى أن طريق الخلاص هو التصالح مع الأولياء، فطفق يقصد زيارة الأضرحة ويقف مع المستجيرين بها، الذين يطلبون قضاء الحوائج من أصحابها المقبورين، حتى وقف على عادة قديمة للمصريين لا يزالون يعتقدون بها، وهي إرسال رسائل إلى قبر الإمام الشافعي، تعرض عليه المشكلة أو الأزمة، وترجوه أن يقوم بحلها وقضاء حاجات السائلين، فأخذ هذه الرسائل واعتبر نفسه رسولا من قِبل الشافعي يقضي حاجة الناس، وفي كل حالة كان صاحب الخطاب يزداد إيمانا بأنها بركات الشافعي صاحب الضريح، فعاش بطل الفيلم حالة من السمو الروحي وصلح أمر دنياه. والغريب أن كل الأحياء المرتبطين بالأضرحة في هذا العمل الفني كانوا ذوي كرامات، وأبرزهم السيدة روح، التي قامت بتجسيد شخصيتها الفنانة يسرا، فكانت تظهر له في مواطن لا يتوقعها ثم تختفي، وكأنها تقوم بعمل المرشد الروحي بالنسبة له، وحرص إبراهيم عيسى على أن تكون سيدة ناشرة شعرها تضع المساحيق، للتأكيد على فكرة انعزال السلوك عن الجوهر. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: إبراهيم عيسى التنويري العلماني المتحضر، الذي يحاكم النص الإسلامي وتاريخ الأمة وتراثها، لماذا يقوم بإحياء وتعزيز الخرافة الدينية التي ينسفها الشرع والعقل معًا؟ لماذا يروج لقدرة الأموات على تفريج هموم الأحياء وقضاء حاجاتهم؟ لماذا يريد إغراق الناس في الأوهام الدينية، والمعتقدات التي لا ينهض لها دليل شرعي، أو عقلي؟ لماذا قام ببعث عادة إرسال رسائل إلى الأضرحة، التي كادت تندثر بين المصريين؟ إبراهيم عيسى لديه هوس بمحاربة ما يعرف بالأصولية الإسلامية، وهي التيارات التي تعتبر أن المنهج الإسلامي دين ودولة، عقيدة وشريعة وأخلاق وعمل، وصبغة عامة لجميع مناحي الحياة، وهذا قطعا يتعارض مع توجهات إبراهيم عيسى، الذي يريد، كما أسلفنا، أن يكون الإسلام علاقة روحية بين العبد وربه لا شأن له بمناحي الحياة، بينما يسير المسلم في ركب العولمة وفق النموذج الغربي في ما يتعلق بالهوية الثقافية. ومن أجل ذلك يطرح نموذج الإسلام الصوفي لمناجزة هذه التيارات التي تعمل على تنقية المنهج من البدع والخرافات والتصورات المغلوطة، وبينهما تاريخ طويل من المعارك الفكرية والعلمية، فالمسألة لدى هذا الكاتب لا تنبعث من إيمانه بهذه الخرافات، بل هو استخدام لذلك الاتجاه في معاركه الخاصة مع من يعرفون بالأصوليين. وليست هذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها أدعياء التنوير مع التصوف، فقد سبق للمنظومة الليبرالية استحضار أقطاب الصوفية المتهمين بالغلو والشطط، أمثال ابن عربي والحلاج، وإبرازهم كنماذج تمثل قمة النضج في الفكر الإسلامي، وهو أمر غريب على هذا الاتجاه العقلاني، الذي يناضل من أجل الانتصار للتجربة، والهدف واضح، كما صرح أحدهم وهو نصر أبو زيد، أن استدعاء ابن عربي يمثل طلبا ملحا بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي. ولا يمكن في هذا السياق إغفال انسجام هذا النموذج الانسحابي القائم على الخرافة الدينية، الذي يريده إبراهيم عيسى، مع متطلبات التجديد، الذي يقوم عليه عبد الفتاح السيسي، الذي لا يعني سوى تطويع الدين لأن يكون مقبولا وفاعلا في مشروع الشرق الأوسط الجديد، وهو الأمر الذي للإمارات السبق فيه، ومن ثم أنشأت شبكة للتصوف السياسي لهذا الغرض. لذلك لم تصبني الدهشة وأنا أطالع على موقع «سي أن أن» بالعربية، تعقيبا لمفتي السيسي حول فيلم «صاحب المقام» حث دافع عن فكرة الاستغاثة والاستعانة بأصحاب القبور مع مصادمتها الصريحة لنصوص الوحيين، لم تصبني الدهشة، لأن هذا المفتي هو أحد أبرز الأذرع الدينية لتبرير توجهات النظام، يستخدمه في كل معاركة السياسية، كان آخرها هجوم ذلك المفتي على أردوغان بسبب إعادة الصلاة في مسجد آيا صوفيا. كما يلتقي إبراهيم عيسى في هذا مع التوجهات الأمريكية التي تسعى لفرض النموذج الصوفي، والتي عبرت عنه تقارير المراكز البحثية الأمريكية التي تخدم صانع القرار، حيث أوصت بتبني ورعاية التصوف، والسبب واضح كما يقول الكاتب فهمي هويدي في سياق تعليقه على توصيات تقارير مؤسسة راند برعاية هذا النموذج، حيث عقب قائلا: «التقرير لا يخفي دعوة صريحة إلى تشجيع التصوف، وهو يعد نوعا من الدعوة إلى التعلق بما يمكن أن نسميه ب(الإسلام الانسحابي) الذي يقلص التدين في دائرة روحية لا يتجاوز حدودها». وبناء على ذلك لا يتعاطى هذا النموذج مع مشكلات الأمة والعدوان على أرضها، ولا بشأن تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، وهو قرة عين أمريكا وحلفائها وأشياعها. ولا يفهم من كلامي أنني أهاجم التصوف، بل كما أؤكد دائما أنني ضد التصوف المغالي، الذي يحتوي على الخرافات ويلغي العمل بظاهر الشريعة، ويدعو إلى التقوقع وترك الأخذ بأسباب القوة والحضارة. مثل هذه الأفكار والتوجهات لدى إبراهيم عيسى، إنما هي أكبر داعم للتطرف والإرهاب، فالتطرف لا يُواجه بأفكار متطرفة تستفز الآخرين عندما يرون هذا النأي عن المنهج الوسطي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. كاتبة أردنية