عند نجاحه في انتخابات بلدية اسطنبول لأول مرة مع حزب الرفاه سنة 1994م، وكان حينها في بدايات نجوميته السياسية، وفي استجواب(*) له أجرته معه مجلة المجتمع عقب فوزه، صرح رجب الطيب أردوغان بكل ما يعتزم القيام به مستقبلا، دون لف ولا دوران، تحدث عن مشروعه في إلغاء القرار الذي جعل من آيا صوفيا متحفا، ووعد بإرجاعه مسجدا كما كان منذ اشتراه السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى من ماله الخاص، وأوقفه للمسلمين على الصلاة فيه. وارتباطا بموضوع الملف نورد الاستجوابكاملا، معتبرين ذلك بمثابة نشر ل"وثيقة تاريخية" ينبغي أن تُضم إلى ملف آيا صوفيا، فهي تثبت أن قرار إعادة فتح هذه المعلمة في وجه المصلين ليس مجرد حدث عابر بل هو مطلب سياسي وحقوقي وعمل جاد استغرق عقودا مديدة: وهذا نص الاستجواب مع مقدمته. مقدمة الاستجواب: منذ إعلان حزب الرفاه الإسلامي عن ترشيح رجب الطيب أردوغان لرئاسة بلدية اسطنبول الكبرى والجدل لم ينقطع حول شخصية هذا الرجل، وكيف يقامر الرفاه على هذا المنصب الهام، الذي هو في الحقيقة رئيس لوزراء اسطنبول أضخم الولايات التركية، ولم يرشح شخصيات أخرى أكثر خبرة وأوفر مالا وألمع سمعة. الإجابة كانت لدى نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه، منذ لحظات التساؤل الأولى حيث قال قبل الترشيح أنه سيقوم باستفتاء قواعد حزبه في كل مكان عن أفضل المرشحين، وما ستشير إليه النتائج سيرشحه، وذلك في بادرة ديمقراطية لم تفعلها الأحزاب العلمانية المتشدقة بالديمقراطية ليل نهار. وكانت إجابة قاعدة الرفاه في إسطنبول تأييدا ل"رجب الطيب أردوغان" ذلك الشاب فارعُ القامة بشوش الوجه وأكثر المتحدثين لباقة، وأكثر الخطباء تأثيرا. ومنذ لحظة إعلان المرشحين المختلفين لباقي الأحزاب كان رجب الطيب أردوغان هو الأكثر تأثيرا رغم صراعه مع ألمع الأسماء والشخصيات، وعندما قمنا في جمعية المراسلين الأجانب بتوجيه الدعوة للمرشحين، كلا على حدة للاستماع إليه ومناقشته، وافقوا جميعا على المجيء إلى الجمعية ما عدا رجب الطيب أردوغان، الذي لم يكن لديه الوقت لمناقشة الإعلام الأجنبي، فله مهام أهم، فعدد سكان اسطنبول 10 ملايين نسمة وهم الأهم؛ عند ذلك توقعنا جميعا نجاحه لأنه يعتمد على الاتصال المباشر للشعب لإيصال صوته وفكره بعيدا عن وسائل الإعلام ، التي كثيرا ما تحجب الكثير من الحقائق لصالح مَن تؤيدهم. وفي شهر فبراير (1994م) أجمعت الاستطلاعات على فوزه، إلا أنها تراجعت في مارس لتضعه في المرتبة الرابعة، في محاولة للتأثير على الرأي العام، خاصة وأن وسائل الإعلام شنت ضده حربا قذرة واتهمته بالاستيلاء على أراضي الدولة، وأبرزت أحكاما بالسجن ضد الرجل البريء الذي نجح في إظهار براءته أمام الرأي العام، وتم قبول أوراق ترشيحه رغم أنف الجميع. فمَن هو رجب الطيب أردوغان رئيس بلدية إسطنبول الذي ما زال يثير الفضول، ومَن هذه القيادة الجديدة التي أخرجتها "الرفاه" في إطار تقديمه لقيادات شابة جديدة، تعمل مع "الحرس القديم" للاستفادة من خبرته، قبل أن يلقي بالمسؤولية كاملة على الجيل الجديد؟ ومِن هنا تنبع أهمية هذا الحوار الذي أجرته " المجتمع مع رئيس بلدية عاصمة الخلافة الإسلامية اسطنبول، على مرتين، الأولى في أنقرة ثم تم استكماله في اسطنبول:
المجتمع: في البداية نرجو معرفة خطواتك الأولى في مجال العمل السياسي، وصلتك بالتوجه الإسلامي؟ أردوغان: إذا كان عمري حاليا أربعين سنة حيث إنني من مواليد 1954م؛ وأنحدر من أسرة محافظة جاءت من "رزة" إلى إسطنبول، فإنني درست في مدارس الأئمة والخطباء الدينية (تعليم المتوسط) عن خيار وقناعة، ثم التحقت بكلية العلوم الإدارية والاقتصادية بجامعة مرمرة، حيث حصلت على درجة البكالوريوس، وارتبطت بحزب "السلامة"، وقبله "النظام" منذ البداية، وذلك قبل تأسيس "الرفاه"، فكنت رئيس فرع الشباب بقضاء "باي أوغلي" عام 1975م بحزب السلامة، وفي عام 1976م أصبحت رئيسا لفرع الشباب في اسطنبول، وعند تأسيس الرفاه عام 1984م أصبحت رئيسا لقضاء "باي أوغلي" لحزب الرفاه، وفي عام 1986م أصبحت عضو مجلس إدارة حزب الرفاه. وبالتالي فمنذ طفولتي وشبابي، وأنا داخل الدائرة الإسلامية، أنهل منها، وأتربى على نهجها، مما أصقل خبرتي العملية، سواء أثناء انقطاعي الخاص الذي عملت فيه، وهذا ينفي أنني جئت من المجهول أو الظل، حيث كنت موجودا داخل فعاليات حزب الرفاه، التي تذوب فيها الفردية لصالح الجماعة، وهو ما تعلمناه وتربينا عليه في الرفاه، تلك المدرسة السياسية، التي استفادت من جميع تجارب التوجهات المماثلة في البلاد الإسلامية المختلفة. المجتمع: كيف ستكون تجربة الرفاه في رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى مختلفة عن الرئاسات السابقة؟ وما هي خططك العاجلة والآجلة؟ أردوغان: أولا نعِد الشعب بإدارة نظيفة تحارب الرشوة وتقدم الخدمة وتفيد الشعب؛ سنجعل اسطنبول إن شاء الله، أنظف وأجمل مدن العالم، لتكون مركزا لجذب انتباه العالم. سنجعل اسطنبول بدون مشكلات مياه، أو مرور أو تلوث؛ سنعيد الخضرة إلى وجهها من جديد، وسنعيد لميراث اسطنبول التاريخي رونقه، لتعود كما كانت في السابق كمركز ثقافي وتجاري وحضاري؛ أي أننا سنعيد لها مكانتها التاريخية. ولدينا خطة عاجلة للمائة يوم الأولى لإصلاح الأخطاء التي تراكمت؛ ستكون علاقتنا بالجماهير مباشرة، سأتلقى الشكاوى على الكومبيوتر، شكلنا مجلسا للخبراء، يستعد لحل مشكلات المياه، وكذلك المواصلات، سنعيد وجه اسطنبول الإسلامي، ليعرف الجميع الفرق بينه وبين الوجوه الأخرى؛ وسندعو كافة المؤتمرات الإسلامية الدولية لتعقد اجتماعاتها في اسطنبول. المجتمع: كيف يمكن إعادة وجه اسطنبول الإسلامي في ظل القوانين المكبلة؟ أردوغان: أكثر من 95 في المائة من سكان اسطنبول من المسلمين، ولذلك لن يكون من الصعب، إقناعهم بخططنا، التي ستتخذ الطابع الدعوي أولا، مع محاولة إظهار عظمة آثارنا الإسلامية، كما أن كافة إجراءاتنا لن تتعارض مع عقيدتنا، مما سيساعد على إظهار شخصيتنا الإسلامية، سوف نعمل رغم ذلك في إطار القانون الحالي، لأنه لا يمكننا تغييره، فمثلا تملك البلدية مطاعم كثيرة، سنمنع فيها تقديم الخمور أو تقديم ما يسيء إلى مبادئ الإسلام، وإذا ذهبتُ إلى مكان وقدم أصحابه لي خمرا، لا أستطيع أن أقول لهم لماذا تقدمون لي خمرا، أما عندما يأتوا إلينا، لا يستطيعون القول لنا لماذا لا تقدمون لنا الخمور؟ وللبلدية الكثير من البيوت التي تمارس فيها الدعارة ومن سلطتنا إغلاق تلك البيوت، وسندعو المجتمع للابتعاد عن البيوت الأخرى التي ليست تحت سيطرتنا، سنقوم بعمل استطلاعات للرأي العام حول كل ذلك. سنستفتي الشعب الذي نثق في خياره، والذي تميز في حسن اختياره لحزب الرفاه الإسلامي، الذي يدعو إلى النظام العادل المنبثق من الإسلام، وإلى مبادئ الأخلاق الحميدة. إنني أعتبر بيوت الدعارة جريمة إنسانية، لأنه ليس هناك، فرق في أن تبيع الناس في سوق الرق، أو تبيع أعراض النساء في تلك البيوت، إن ذلك امتهان لشخصية المرأة، ولا أظن أن أحدا يستطيع تحمل رؤية زوجته أو ابنته أو أخته تعمل في تلك الأماكن، سندعو الجميع من خلال القول اللين والموعظة الحسنة للإقلاع عن ذلك؛ ونعتقد جازمين أن معظم العاملات في هذا الإطار تردن الهروب من هذا المستنقع، إلا أنه بسبب المافيا لا يستطعن خشية القتل، ودليلي على ذلك: أن نسبة 49 بالمائة من هؤلاء أعطين أصواتهن، للرفاه الذي سيمُد لهن يد العون، للابتعاد عن هذا الطريق وذلك طبقا لما نشرته، الصحف التركية نفسها المعارضة لنا. المجتمع: هل تعتبر قضية الدعارة ومواجهتها من أولوياتك رغم القضايا الأكثر إلحاحا؟ أردوغان: القضية الأخلاقية هي الأهم، فبسببها كان هلاك عاد وثمود، كما أنها تسببت في انهيار أمم سابقة، وأظن أنها أحد أسباب انهيار الشيوعية، وإن كانت الصحف لم تذكر ذلك؛ كما أن ديننا اهتم كثيرا بالنواحي الأخلاقية، وبذلك إذا لم يهتم بمقاومتها الرفاه، فإن المشكلة ستتضخم أكثر؛ خاصة في ظل معرفة أن العدد الرسمي للداعرات المسجلة للعمل في هذا المجال في اسطنبول، يصل إلى 300 ألف داعرة؛ وبالطبع فإن الرقم غير الرسمي أكثر من 100 ألف داعرة أخرى، علاوة على الداعرات التي تأتي من أوروبا الشرقية وروسيا؛ حيث أعتقد أن من وسائل إخضاع تركيا وإبقائها في حالة من التمزق والاضطراب الحالية، استخدام الدعارة لإفساد أخلاق المجتمع؛ ولذلك سنقوم بإغلاق كافة البيوت التي تملكها البلدية، وتمارَس فيها هذه الأعمال؛ ونساعد مَن تريد التوبة، حيث قالت بعضهن أنها ستعطي صوتها للرفاه، رغم أنه سيغلق بيوت الدعارة؛ وأكدن أنهن خدعن وعمِلن في هذا المجال رغم أنوفهن؛ ولو حاولن الفرار لتم قتلهن؛ ولذلك فإنه من واجبنا نصحهن، وتقديم البدائل لهن، وبالتالي يمكننا مواجهة المشكلة خاصة وأن القوانين تعرقلنا لاتباع ما نريد؛ فسنعل جهدنا وفق المتاح. المجتمع: هل هناك نية لتحويل اسطنبول إلى عاصمة مرة أخرى؟ وكيف يمكن منع تحويل مسجد آيا صوفيا الذي أصبح متحفا حاليا، إلى كنيسة؟ أردوغان: تحويل اسطنبول إلى عاصمة من حق البرلمان، وبالتالي هو أمر لا نملكه حاليا، وبالطبع وإن كان بعض النواب من الرفاه ومن غيره اقترحوا ذلك لقَطْع الطريق على الأطماع اليونانية في استعادة اسطنبول، أما بالنسبة لمشكلة آيا صوفيا فبالطبع لن يمكن تحويلها إلى كنيسة مهما كلف الأمر؛ فهذا محض خيال صليبي مريض، وآيا صوفيا وقف للمسلمين لا بد أن يظل في هدفه، وكما نعرف فإن السلطان محمد الفاتح لم يستول على كنيسة آيا صوفيا عندما فتح اسطنبول، إنما اشتراها من ماله الخاص، وحولها مسجدا وأوقفه للأمة قائلا: "إذا استخدم في غير غرضه، فلعنة الله ورسوله على من يفعل ذلك". كما أن زعيم الرفاه نجم الدين أربكان أعلن للجميع أنه سيعيد فتح آيا صوفيا للعبادة من جديد، فهذا وعد ودَين في عنق الرفاه سوف يقوم بالوفاء به عندما يتمكن من ذلك. المجتمع: ولكن هذه التصريحات أخافت بعض الأقليات التي تعيش في اسطنبول، خاصة وأنها تعتبر فوز الرفاه مهددا لمصالحها، فما تعليقك على هذه المخاوف؟ أردوغان: إننا نقتفي طريق رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام في ذلك، حيث عاشت الأقليات عصورها الذهبية أثناء الحكم الإسلامي، ولذلك قررنا بعد الفوز تمثيل كافة الأقليات الموجودة في اسطنبول، مثل الأرمن والروم الأرثوذكس واليهود في مجلس البلدية حيث سيتم اختيار ممثل عن كل أقلية تقوم هي باختياره، ليكون مستشارا في مجلس البلدية للشؤون الخاصة بأقليته، والبلدية لن تختار، ولكن ستوكل الأمر إلى الجمعيات الخاصة بتلك الأقليات.. وهو تقليد لم يفعله أحد قبل الرفاه، فلماذا المخاوف إذن؟ المجتمع: لماذا تثار كل تلك الضجة حول إعلانكم عن إقامة مسجد في ميدان "تقسيم" رغم أن اسطنبول تضم آلاف المساجد سواء القديمة أو الجديدة؟ أردوغان: سيقام المسجد بإذن الله لعدم وجود مسجد جامع بالمنطقة، حيث إن مسجد آغا هو الأقرب، وتحتاج المنطقة لمسجد، ولكن الضجة مثارة لمكانه، حيث إن تقسيم يضم المجمعات الثقافية الكمالية، وكذلك أماكن اللهو وبيوت الدعارة، ويعتبر البصمة الغربية الأكثر وضوحا في تركيا، لذلك أثار القرار الذي اتخذناه لإقامة المسجد هلع المتغربين، رغم أننا وعدنا الجماهير في المنطقة بذلك، وقد فزنا برئاسة بلدية "باي أوغلي" التي يتبعها الميدان أولا، وكذلك بالرئاسة العامة لإسطنبول. المجتمع: أثيرت أقاويل كثيرة حول الممول الرئيسي لحملتكم الانتخابية فما هي حقيقة هذه الأقوال التي نعتقد أنها كاذبة؟ أردوغان: اتهمونا بتلقي أموال من بعض الدول العربية، وهو ما لم تستطع أية جهة إثباته، لعدم وجود التمويل أصلا، حيث أن تمويلنا الرئيسي جاء من ذهب النساء التركيات الملتزمات، نعم بعض الذهب الذي قدموه للحزب راضيات لدعم الحملة الانتخابية التي كانت الأكبر في تركيا، وما زلت أحتفظ بسوار لطفلة صغيرة تسمى عائشة نور، أحضرته أمها مع مصوغاتها للتبرع به، وعندما أعدت لها سوار الطفلة، قالت إن عائشة نور خلعته من يدها بنفسها، وقالت لها إنني أتبرع به لعمي رجب الطيب، فنساء تركيا كنّ الممول الحقيقي لحملة الرفاه، كما أن معظم أعضاء الحزب المليون تبرعوا جميعا بوقتهم وسياراتهم للاشتراك في الحملة دون مقابل مادي، وهو ما لم تنجح الأحزاب الأخرى في فعله، وهذا هو الفرق بين أعضاء الرفاه وغيرهم. المجتمع: هل توافق إذن على تعليق زوجتك بأنك فزت بأصوات ومجهود النساء؟ أردوغان: نعم صدَقَت في قولها، فلا يمكن إنكاردور المرأة التركية المسلمة في دعمي ودعم حزب الرفاه، حيث تؤمن النساء بأنه الحل لكل مشاكل البلاد والعباد، وسيحفظ لها زوجها من المؤامرات الأخلاقية؛ وأنصح كافة الأحزاب المماثلة للرفاه بالاهتمام بدور المرأة. اه. (*) الاستجواب نشرته مجلة المجتمع في عدد 1102 المؤرخ في 28 ذي الحجة 1414ه/07 يونيو 1994م.