هوية بريس – متابعة بعد شد وجذب داخلي وخارجي وتحذيرات أوروبية وإصرار تركي، أصدر مجلس الدولة التركي أخيراً، وهو أحد المحاكم العليا، اليوم الجمعة 10 يوليو/تموز 2020قراره التاريخي بخصوص إعادة تحويل "آيا صوفيا" مجدداً لمسجد يستقبل المصلين وتُتلى فيه آيات القرآن ويُرفع منها الأذان، بعد أكثر من 8 عقود على اعتماده متحفاً، على يد مؤسس الدولة الحديثة مصطفى كمال أتاتورك. ماذا حدث؟ كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد اقترح إعادة تحويل المعلم التاريخي إلى مسجد، وذلك في تصريح له في مارس/آذار 2019، قال فيه إن بلاده "تُخطط لإعادة آيا صوفيا إلى أصله وتسميته مسجداً"، كما كان عليه وضع البناء لمئات السنين. والنشاط الإسلامي داخل متحف آيا صوفيا كان قد تزايد في إسطنبول في السنوات الأخيرة، في عهد أردوغان، بحيث تتم داخله تلاوة القرآن في بعض المناسبات، وفي 31 مايو/أيار 2014، نظمت جمعية تسمى "شباب الأناضول" فعالية لصلاة الفجر في ساحة المسجد تحت شعار "أحضر سجادتك وتعالَ"، وذلك في إطار حملة داعية إلى إعادة متحف آيا صوفيا إلى مسجد. وبعد قرابة ال85 عاماً من الانقطاع، عاد الأذان مجدداً من داخل متحف آيا صوفيا في إسطنبول في فجر ليلة القدر، خلال برنامج استثنائي نظمته رئاسة الشؤون الدينية التركية في عام 2016، كما أقدمت السلطات على السماح برفع الأذان من مآذن المتحف في بعض المناسبات الخاصة، خلال السنوات الأربع الأخيرة، إلا أن ذلك كان يتم من غرفة خاصة للمؤذن في ساحة المتحف. وبعد أخذ ورد، ها هي المحكمة التركية تعلن رفض قانونية تحويل المبنى إلى متحف في عام 1934 في السنوات الأولى لقيام الدولة العلمانية التركية الحديثة التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك، وفي ذلك العام تم تحويل البناء إلى متحف بعد أن كان مسجداً. ما قصة آيا صوفيا التاريخية؟ يُعد متحف "آيا صوفيا" من مواقع التراث العالمي لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، كما أنه ارتبط بالإمبراطورية البيزنطية المسيحية والإمبراطورية العثمانية الإسلامية، وهو اليوم أحد أكثر المعالم الأثرية التي يقبل الناس على زيارتها في تركيا. بنيت كنيسة آيا صوفيا في القرن السادس في عهد الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، وكانت مقراً لبطريركية القسطنطينية، الاسم السابق لإسطنبول. وعندما فتحت القوات العثمانية المدينة في 1453 أمر السلطان محمد الفاتح بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، وبنيت المآذن الإسلامية حول قبتها البيزنطية. وبقيت آيا صوفيا مسجداً إلى ما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وفي منتصف الثلاثينيات أمرت السلطات التركية الجديدة في عهد مؤسسها العلماني أتاتورك بتحويل المسجد إلى متحف مفتوح للجميع. ويعتبر مبنى آيا صوفيا صرحاً فنياً ومعمارياً فريداً من نوعه، وهو موجود في إسطنبول منطقة السلطان أحمد بالقرب من جامع السلطان أحمد. ومسجد آيا صوفيا كان من قبل كنيسة ضخمة بناها جستنيان الأول البيزنطي سنة 537، وقد سقطت قبتها عدة مرات، وآخر مرة أعيد بناؤها سنة 1346، وقد أجريت عدة تقويات وترميمات للمبنى في العهد العثماني. وكان مبنى آيا صوفيا في إسطنبول على مدار 916 عاماً كاتدرائية، ولمدة 481 عاماً مسجداً، ومنذ عام 1935 أصبح متحفاً، وهو من أهم التحف المعمارية في تاريخ الشرق الأوسط. وقد غيَّر السلطان محمد الفاتح المبنى ليكون مسجداً، وأضاف إليه منارة، ثم أضيفت إليه منارة أخرى زمن السلطان بايزيد الثاني، إلى أن قام بتحويله كمال أتاتورك مؤسس تركيا العلمانية إلى متحف سنة 1934. كيف تحولت قضية آيا صوفيا لمعركة سياسية داخلية؟ في العام 2008، كانت جمعية خدمة الأوقاف والآثار التاريخية والبيئة التركية، قد رفعت دعوى أمام مجلس الدولة ضد قرار مجلس الوزراء عام 1934، الذي قضى بتحويل "آيا صوفيا" من مسجد إلى متحف، لتفتح جدالاً محلياً ودولياً حول وظيفة الصرح الديني. وبعدما رُفضت الدعوى، قدمت الجمعية التماساً من جديد إلى المحكمة الدستورية عام 2015، أشارت فيه إلى أنَّ رفض إعادة "آيا صوفيا" للعبادة يعد انتهاكاً لحرية الأديان. ولقي الحديث عن بدء اتخاذ إجراءات عودة الحياة لآيا صوفيا دعماً كبيراً من جانب الرأي العام التركي، خصوصاً الإسلاميين الذين عملوا طويلاً لأجل كسب هذه القضية، في حين كشفت قضية آيا صوفيا عن تباين بمواقف الأحزاب التركية، إذ دعم كل من أحزاب: "السعادة"، و"الرفاه الجديد"، و"الاتحاد الكبير" تلك الخطوة من جانب حزب "العدالة والتنمية" الحاكم وحليفه "الحركة القومية"، الذي أكد رئيسه دولت بهشلي أن "صوت الأذان هو الذي سيرتفع في آيا صوفيا وليس صوت الأجراس"، في رده على الاعتراضات الأوروبية تجاه تلك الخطوة. في حين رأت أحزاب، "الشعب الجمهوري" و"الجيد" و"المستقبل" في ذلك مناورة غير محسوبة العواقب من جانب العدالة والتنمية لتعويض ما خسره في الانتخابات البلدية من أصوات، محذرين من "خطورة التلاعب بمشاعر المواطنين وتوظيف الدين في السياسة". الجدل الدولي حول الخطوة التركية على الصعيد الخارجي، أثارت قضية آيا صوفيا جدلاً دولياً، حيث حذرت اليونان وأمريكا وروسيا وبريطانيا من إعادة أيا صوفيا لمسجد، فيما كانت أثينا قد اعترضت سابقاً على بث برنامج تلفزيوني ينقل تلاوات للقرآن من داخل المسجد، معبرة عن استيائها وقلقها من البرنامج، خاصة أنه يخضع لإشراف رئاسة الشؤون الدينية التركية. فيما حث مسؤولون روس والكنيسة الأرثوذكسية الروسية تركيا على توخي الحذر حيال خطوتها بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، باعتبار أن له "قيمة مقدسة" لدى الروس. ومؤخراً، دعت الخارجية الأمريكية، تركيا إلى الحفاظ على وضع "آيا صوفيا" كمتحف في إسطنبول. وقال وزير خارجيتها مايك بومبيو، في بيان الأسبوع الماضي، إن تركيا تدير "آيا صوفيا" كمتحف منذ نحو قرن من الزمان. وأضاف: "كمثال على احترام التقاليد الدينية للجمهورية التركية وللعصور المختلفة، ندعو حكومة تركيا إلى مواصلة الحفاظ على آيا صوفيا كمتحف، وضمان بقاء المكان متاحاً للجميع". فيما أعربت الخارجية التركية عن "استغرابها حيال بيان نظيرتها الأمريكية حول آيا صوفيا، وأكدت أنه لا يحق لأحد أن يتحدث عن تركيا بأسلوب التحذير والإملاءات". وأكد الناطق باسم الخارجية التركية، حامي أقصوي، الأربعاء أن بلاده اتخذت خطوات "ثورية صامتة" لحماية حرية الدين والمعتقد التي يكفلها الدستور والقوانين لجميع المواطنين في تركيا دون تمييز. مشيراً إلى أنه "انطلاقاً من تقاليد التسامح النابعة من ثقافة وتاريخ تركيا، فإن جميع الصروح الثقافية في البلاد بما فيها آيا صوفيا تتم حمايتها بشكل حريص ودقيق. مؤكداً: "نحافظ بحرص على القيمة التاريخية والثقافية والمعنوية لآيا صوفيا منذ أن دخلت في ملكية دولتنا بعد فتحها". ولفت إلى أن آيا صوفيا مثل جميع الصروح الثقافية هي ملك لتركيا، موضحاً أن "كافة حقوق التصرف عليها شأن يخص وزارة الداخلية في إطار الحقوق السيادة لتركيا، ومن حق الجميع أن يعربوا عن أفكارهم بكل حرية". هل تفتح إعادة تحويل آيا صوفيا لخطوات أخرى؟ وفي نظر أنقرة، فإن استعادة آيا صوفيا لهويته كمسجد مرة أخرى ترتكز على نتائج استطلاعات رأي عام عدة حول القضية، إلى جانب قرار مجلس الدولة الصادر عام 2019 الخاص بإعادة مسجد "كاريا" للعبادة مرة أخرى، وهو المسجد الذي يطابق وضعه جامع آيا صوفيا تماماً، إذ تم تحويله إلى متحف بقرار وزاري عام 1945م، بعد أن كان مسجداً منذ عام 1511م، وجاء في حيثيات الحكم أنه "لا يمكن تحويل دور العبادة إلى أغراض أخرى". وربما تمهد هذه الخطوة التركية، لاستعادة الكثير من المساجد والجوامع في مختلف أنحاء تركيا لهويتها، وهي التي تم تحويلها إلى متاحف أو مخازن بتعليمات من كل من مؤسس الدولة أتاتورك وخليفته عصمت إينونو، اللذين يتهمان بقيادة حملة واسعة لطمس كل ما يتعلق بهوية تركيا الإسلامية، ومن بعدهما حزب الشعب الجمهوري، الذي شن حملة استهدف فيها المساجد والجوامع تحت عنوان "مشكلة الجوامع في تركيا"، حيث أصدر قانوناً عام 1928 تم بموجبه إزالة آلاف المساجد في المدن والقرى التركية، وبيع الأراضي التي كانت مقامة عليها، كما تم تحويل الكثير منها إلى متاحف أو إسطبلات للخيول ومخازن وسجون وغيرها. إلى جانب ذلك، تركز معظم التصريحات الرسمية التركية على أن ملف آيا صوفيا أمر يتعلق بشكل مباشر بالسيادة الوطنية للدولة، وأن إعادة تحويلها إلى مسجد تأكيد على قوة تركيا وسيادتها على أرضها وقراراها وتعزيز لمكانتها الإقليمية والدولية وخصيصاً أمام الأوروبيين الذين يرفضون الخطوة التركية ويعتبرونها أمراً خطيراً. والآن وبعد إنجاز هذه الخطوة التاريخية، ينتظر آلاف الأتراك والسائحين المسلمين الصلاة في آيا صوفيا بعد عودتها كمسجد، وتقول صحيفة صباح التركية إن هناك توجها لإقامة أول صلاة بآيا صوفيا في الخامس عشر من تموز، أي بالتزامن مع إحياء الذكرى الرابعة لمحاولة الانقلاب في تركيا، وهو ما يحمل بكل تأكيد رسائل سياسية عديدة، للداخل والخارج.