هوية بريس – الجمعة 24 يوليوز 2015 يقول علماء المنطق: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، إذ لا يمكن الحكم على المجهول، كما لا يمكن الحكم على شيء مختلف في تحديد ماهيته، وتصوير حقيقته: أي شيء هو؟ لهذا كان علينا بادئ ذي بدء أن نكشف عن معنى "التطرف" وحقيقته وأبرز علاماته. والتطرف في اللغة معناه: الوقوف في الطرف، بعيداً عن الوسط، وأصله في الحسيات، كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي، ثم انتقل إلى المعنويات، كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك. ومن لوازم التطرف: أنه أقرب إلى المهلكة والخطر، وأبعد عن الحماية والأمان، وفي هذا قال الشاعر كانت هي الوسط المحمى فاكتنفت بها الحوادث، حتى أصبحت طرفاً. ففي "العقلانية" -مثلاً- غلو إفراط، هو الذي يؤلّه العقل، وينكر أن يكون الوحي والنقل علمًا أو مصدرًا من مصادر العلم، ويرفع شعار التنوير الوضعي الغربي العلماني: "لا سلطان على العقل إلا العقل وحده" مؤلّهًا العقل، وناقلاً لقدراته من "النسبي" إلى "المطلق". بينما حد الوسطية الإسلامية في هذه العقلانية، هو الموازنة بين العقل والنقل، وجمع عناصر الحق والعدل منهما معًا، وذلك بالتأليف بين النقل الصحيح والعقل الصريح على النحو الذي يكوِّن منهاج النظر "بالعقلانية المؤمنة" التي تقرأ النقل بالعقل، وتحكم العقل بالنقل، نافية تناقض النقل والعقل؛ لأن نقيض العقل ليس النقل وإنما هو الجنون. وعن هذه الوسطية الجامعة، والرافضة لغلوي الإفراط والتفريط في علاقة العقل بالنقل (الشرع)، تحدّث حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (1058-1111م) فقال "إن أهل السنة قد اطلعوا على طريق الجمع بين مقتضيات الشرائع وموجبات العقول، وتحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، فمثال العقل البصر السليم من الآفات والآذاء، ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء، فأخلَق بأن يكون طالب الاهتداء، المستغني إذا استغنى بأحدهما عن الآخر؛ في غمار الأغبياء. فالمعرض عن العقل مكتفيًا بنور القرآن، مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضًا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور". أما التطرف الديني فيعتبر الظلام الأسود الذي يسود العالم اليوم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، والتطرف الديني موجود في كل الديانات، لكن بالذات في الديانات السماوية، وبالخصوص في المسيحية والإسلام. التطرف الديني أو التعصب، هو تعصب شخص أو جماعة لدين مُعَيَّنٍ أو حتى لمذهب في دين معين. وإذا كانت الوسطية الجامعة -التي هي خصيصة إسلامية- قد جعلت المنهاج الإسلامي شاملاً للدين والدولة، والفرد والأمة، والفرائض الفردية والفرائض الاجتماعية، والتشريع والتنفيذ، والمبادئ المرجعية والنظم والمؤسسات والآليات… فإن مخاصمة "السياسة" وإهمالها، هو لون من غلو التفريط في الاهتمام بأمور الناس، وإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما أن اختزال الإسلام في السياسة والسيف والقفز على الدولة هو لون من غلو الإفراط، بينما حد الوسطية الجامعة هو الذي يجعل المنهاج الإسلامي شاملاً -في توازن يراعي الأوزان والأولويات- لكل مناحي الحياة ولما بعد هذه الحياة: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163)؛ فالدين لله، وأيضًا الوطن -الذي هو للجميع- هو والجميع لله.