– د.الحسن العلمي / أستاذ الحديث والفكر الإسلامي بجامعة ابن طفيل شاع بين كثير من الناس اليوم إحداث أصناف من القربات والتواصي بها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بدعوى الاجتهاد في العبادة والتواصي بفعل الخيرات، دون نظر أو بحث في مشروعية هذه المحدثات، اكتفاء بمشروعية الأصل. مع أن الأصل في العبادات المنع والتوقف حتى يرد دليل بمشروعيتها، وأن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يرد دليل بتحريمها. فكل تقرب إلى الله بما لم يشرعه، فهو بدعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»(1) فلا يصح التعبد سوى بما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وعمل به واستمر عليه، قال الإمام النووي : «وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فإنَّه صريح في ردِّ كل البدع والمخترعات»(2) وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوا بها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالا فاتقوا الله يا معشر القُرَّاء، خذوا طريق من كان قبلكم»(3). القراءة المجزءة للقرآن وما يسمى بالختم الجماعي قراءة القرآن من باب العبادات والتقرب إلى الله، وينبغي أن يُقرأ على الصفة التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، فلم يثبت عن السلف هذه القراءة المجزءة والاعتقاد بأنها ختمة، وإنما هذا مما أحدثه الناس من البدع، في زمن انحطاط الهمم، والتعلق بالأوهام. ولا يصح التعلق بأن أصل قراءة القرآن مشروع، وأن الزيادة إنما هي في الكيفية، فإن الزيادة على أصل الشرع بدعة إضافية كما بين الإمام الشاطبي. فالذكر مشروع في الأصل، لكن الاجتماع عليه وتحديد الأوراد والأعداد فيه بدعة لم يفعلها السلف. فقد بلغ ابن مسعود رضي الله عنه «أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُولُ: كَبِّرُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا وَسَبِّحُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا وَاحْمَدُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا .. فَأَتَاهُمْ، وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ لَهُ فَجَلَسَ فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدًا فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا أَوْ لَقَدْ فُقْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِلْمًا فَقَالَ: أَحَدُهُمْ مُعْتَذِرًا وَاَللَّهِ مَا جِئْنَا بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا وَلَا فُقْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِلْمًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ فَالْزَمُوهُ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَتَضِلُّونَ ضَلَالًا بَعِيدًا»(4). وفي رواية عمرو بن بحيى بن سلمة: «فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حصًا نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْل، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ "، قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: " وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِصلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ" ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ"»(5). فالذكر مشروع بنص القرآن والسنة لكن اتفاق هؤلاء المتعبدين واجتماعهم عليه في المسجد ولزوم أعداد وأوراد مخصوصة يمليها عليهم مقدم الحلقة كما يفعله الصوفية يُعد بدعة إضافية أنكرها سلف الصحابة. وكذلك ما شاع من اعتقاد بعض الناس أن الاتفاق على تقسيم أحزاب القرآن يُعد ختمة جماعية، فهذا لم يفعله السلف، ولايمكن عده ختما للقرآن يجري لكل فرد، لأن الأصل ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾. وإنما يُشرع التواصي والتنافس في قراءة القرآن دون إلزام أو إحداث صفة أو هيئة لم يعرفها السلف، والله يأجر المتواصين على فعل الخير عموما دون دخول فيما هو من علم الله أنه يكتب لكل واحد أجر ختمة!! لأن هذا افتئات وتشريع لما لم يأذن به الله. والخير كل الخير في لزوم هدي الصحابة وترك ما تركوه لأنهم أعلم من كل من أتى بعدهم بدلائل الشرع، وأقعد وأحكم بفقه السنة وهدي النبوة . وقد ادعى بعض أهل البدع أن المشتركين في الختمة القرآنية فاعلون للخير، وهم كالمشتركين في الأضحية، والاشتراك فيها جائز عند الشافعية والحنفية. فهذا من مآخذ أهل الاهواء، فالأضحية ثبت فيها الاشتراك بالنص فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ»(6) فإين وجد هؤلاء الاشتراك في ختم القرآن، وهذا لايصح إثباته بالقياس لأن القياس لايجري في المسائل التعبدية، لأنها غير معللة، وإلا لجاز تشريع الأذان لغير صلاة الجماعة لأنه دعوة للصلاة وكما جاز في الجماعة يجوز قياسا في العيدين والاستسقاء ولجاز تقبيل أعتاب المساجد قياسا على تقبيل الحجر الأسود، ولا نفتح هذا الباب لكل صاحب هوى وبدعة يشرع فيه كيف يشاء. حكم ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي له وانتفاء الموانع إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعلا مع وجود المقتضي له وانتفاء الموانع، فإن تركه يكون سنة، وفعله يكون بدعة، كالتلفظ بالنية عند بدء الصلاة، والأذان للعيدين، وصلاة ركعتين عقب السعي بين الصفا والمروة، والاجتماع على الذكر بأوراد خاصة، ونحو ذلك مما يراه الناس بدعا حسنة . أما ما تركه صلى الله عليه وسلم لمانع زال بعد وفاته، كصلاة التراويح التي تركها خشية أن تُفرض على الأمة، فإن فعلها سنة لزوال المانع، وكذلك ما تركه لعدم وجود المقتضي له، كتركه جمع القرآن وقتال مانعي الزكاة، فإنه لم يوجد ما يدعو لذلك في زمانه، حتى وقع زمن الصحابة ففعلوا ذلك. وكذلك كل عبادة ترك السلف فعلها مع وجود المقتضي، وزوال المانع، ففعلها بدعة، كصلاة الرغائب في الأيام والليالي، وتخصيص ليلة الإسراء والمعراج، والنصف من شعبان بعبادة خاصة. وكذا كل تقرب بفعل شيء لم يشرعه الله ورسوله فهو بدعة. مثل التقرب إلى الله بالصمت الدائم .. أو القيام في الشمس.. أو اتخاذ لبس الصوف والمرقعات.. أو حرمان النفس من الطيبات. قال الإمام الشاطبي : «فالفعل منه صلى الله عليه وسلم دليل على مطلق الإذن فيه، ما لم يدل دليل على غيره؛ من قول، أو قرينة حال، أو غيرهما ... وأما الترك فمحله في الأصل غير المأذون فيه، وهو المكروه والممنوع؛ فتركه عليه الصلاة والسلام دال على مرجوحية الفعل وهو إما مطلقًا وإما في حال، فالمتروك مطلقًا ظاهر، والمتروك في حال كتركه الشهادة لمن نحل بعض ولده دون بعض، فإنه قال: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا. قال: فأشهد غيري؛ فإني لا أشهد على جور"، وهذا ظاهر. وقد يقع الترك لوجوه غير ما تقدم منها الكراهية طبعًا؛ كما قال في الضب وقد امتنع من أكله: "إنه لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافه" فهذا ترك للمباح بحكم الجبلة، ولا حرج فيه. ومنها: الترك لحق الغير، كما في تركه أكل الثوم والبصل لحق الملائكة، وهو ترك مباح لمعارضة حق الغير. ومنها: الترك خوف الافتراض، لأنه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، كما ترك القيام في المسجد في رمضان، وقال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"، وقال لما أعتم بالعشاء حتى رقد النساء والصبيان: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة"» (7) فلا يسوغ أن يتولج الناس باب ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ثم يتحذلقون في الابتداع والاختراع بدعوى أن هذا من الأفعال المستحسنة في الشرع، وأن السلف لم يسعفهم الزمان لفعل كل الأفعال المستحسنة في الشرع،كما ادعى ذلك بعض أهل البدع. ممن يرومون استدراكصنوف من بدع العبادات والسلوك على هدي النبوة باسم «الإجتهاد في دائرة المسكوت عنه في الشريعة»لتجد رواجا عند الناس، حيث قال : «إن الأفعال المستحسنة في الشرع لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، لأنه كان منشغلا بالجهاد والسياسة وإقامة الدولة، وهذه الأعمال المستحسنة في الشرع لا تنتهي إلى يوم القيامة»(8) . وهذا غاية في الجرأة على مقام التشريع بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان منشغلا عن أمور من العبادات ولم يتفرغ لها، فلا باس أن يأتي المتزيدون اليوم ليتمموا له ما كان منشغلا عنه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه» (9). قال ابن تيمية «والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب سنة، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض، أو فوات شرط، أو وجود مانع، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ، كجمع القرآن في الصحف، وجمع الناس على إمام واحد في التراويح، وأسماء النقلة للعلم، وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين، وبحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لفوات شرط أو وجود مانع، فأما ما تركه من جنس العبادات، مع أنه لو كان مشروعا لفعله،أو أذن فيه وفعله الخلفاء بعده والصحابة، فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة»(10). وقال في موضع آخر : «فأما ما كان المقتضي لفعله موجودا لو كان مصلحة، وهو مع هذا لم يشرعه، فوضعه تغيير لدين الله، وإنما دخل فيه من نسب إلى تغيير الدين، من الملوك والعلماء والعباد، أو من زل منهم باجتهاد ..»(11). ولذلك فإن الخير في اتباع من سلف، والشر في تنكب طريق السلف، بمحض الظن والتخرص والهوى بدعوى حب الخير، فقد أثر عن ابن الماجشون أنه قال سمعت مالكاً يقول: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول {اليوم أكملت لكم دينكم} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً.»(12) 1- أخرجه: البخاري (2697)، ومسلم (1718)، واللفظ له. 2- شرح النووي على صحيح مسلم : 12/ 16.. 3- الأمر بالاتباع للسيوطي : 62، الاعتصام للشاطبي، 2/630 4- أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 381) وعبد الرازاق في المصنف 3\222، وقد صححه الألباني في الصحيحة (2005) 5- أخرجه الدارمي في السنن : حديث 210، وبحشل في تاريخ واسط" (198) الطبراني في "الكبير"من طريق آخر (8636) إسناده جيد رجاله ثقات. 6- أخرجه مسلم : (1318) 7- الموافقات للشاطبي: 4\ 221 . 8- جريدة الشعبية الصادرة بالمغرب، مقال »سيرة داعية« بتاريخ مارس 1995 . 9- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى : 7\76والبغوي في شرح السنة 4110 10- مجموع فتاوى ابن تيمية : 26\172 11- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: 2\102-103 12- الاعتصام للشاطبي:1\28