الحمد لله العليم الحكيم اللطيف لما يشاء، رب البلاء والسَّقَم وأنواع الوباء، خالق الدواء والعافية وصنوف الشفاء، والصلاة والسلام على سيدنا أحمد أولانا بأنفسنا وأشفقنا عليها حين تُغير المحن والعُطوب، وأبصرنا بفقه البلوى ونوازل الخطوب، وعلى عترته الأطيبين وصحابته الأنجبين، والمستمسكين بهديه العاصم المبين. وبعد، فإن من تأمل ما أحدثه وباء كورونا من طوفان الفوضى الجارف للعالم كله، أبصر وراء ذلك نظام أوبة إلى الله تعالى ماضية في هدوء، تسوقها سننه الجارية بإحكام وانتظام لا يتحولان، وأن لهذه الأوبة العالمية ريحا يجدها من يجدها، ورَكوبا أشبه بسفينة مقبلة على الناس يدعوهم داعيها: (وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ)، فاركبوا لتتوبوا إلى ربكم وتؤوبوا وتنيبوا. وأنها أوبة لا تستثني – فِي ندائها على الناس بالإقبال – من الخلق أحدا، فقد لا يكون المنيب من أهلها ملة ولا ديانة فيستجيب وينيب، وقد يكون من المعدودين ظاهرا منهم فيفتن عياذا بالله ويستريب، ثم ينشغل عن نداء الأوبة الأعظم بنداءات أخرى تذهله عن لب هذا الشأن؛ يحسبها أحق وأليق، فلا يزال ذاهلا حتى يفوته وقت الركوب. ومن أنسب ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى الدقيق ما رواه سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما – عند أبي داود والترمذي بسند صحيح – قال: "مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أُطَيِّنُ حائطا لي أنا وأمي، فقال: (مَا هذا يا عبد الله؟). فقلت: يا رسول الله وَهَى فنحن نصلحه. فقال: (الأمر أسرع من ذلك)". فهذا الذي يجري مما ينادي علينا داعيه بالأوبة والإنابة إلى الله تعالى أشبه بالأجل تشتد إحاطته بالعبد، وهنالك أملُه ما فتئ ذاهلا به عن أجله، فبينما هو كذلك إذ فجئه الأقرب. ومن أجل الأحاديث قدرا – مما له صلة بسياق حديثنا، عند الحاكم بسند صحيح – مشهد جلل يقصه سيدنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: "نزلنا من المدائن على فرسخ، فلما جاءت الجمعة حضر أبي وحضرت معه، فخطبنا حذيفة، فقال: (إن الله عز وجل يقول: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ»، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار، وغدا السباق). فقلت لأبي: (أيستبق الناس غدا؟). فقال: (يا بني إنك لجاهل، إنما يعني العملَ اليوم، والجزاءَ غدا). فلما جاءت الجمعة الأخرى حضرنا، فخطبَنا حذيفة، فقال: (إن الله يقول: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ»، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمارُ، وغدا السباقُ، ألا وإن الغاية النارُ، والسابق من سبق إلى الجنة)". فكم ممن قد يقول: "أَيَسْتَبِقُ الناس غدا" ذاهلا بلوائح التحول الأدنى عن آية التحول الأكبر؛ يحتاج إلى من يقول له مذكرا: إنما يعني من ينادي اليوم على الناس بالإنابة: العملَ اليوم، والجزاء غدا. وسيدنا أبو حذيفة رضي الله عنه إنما استدل بما لا يراه الناس من اقتراب الساعة وانشقاق القمر، أو يحسبونه إذا عرفوه غير ذي صلة ولا أثر؛ ما داموا منهمكين في ذهولهم عن إبصاره والاستعداد له. فكم مر على هذا الاستدلال – بما لا نزال نتلوه أو نسمعه من هذه الآية – من الزمن الحري بالاعتبار والذكرى؟؟.. ومَن الأحرى بالذكرى والاعتبار وقد صار اقتراب الساعة منا نحن أشد؟؟.. وكم نحتاج من مزيد وقت لندرك ما بينه رضي الله عنه في الخطبة الثانية – وهو لدينا مما نعلمه بالضرورة -: "العمل اليوم، والجزاء غدا"، " ألا وإن اليوم المضمارُ، وغدا السباقُ، ألا وإن الغاية النارُ، والسابق من سبق إلى الجنة"…؟؟. أفلا تكون آية كورونا إنذارا عالميا واخزا للعقول والأفئدة، وقد بلغ الطغيان المتمادي مبلغا لا يطيق كفه أحد، أن الفطن مَنْ أجاب داعي الأوبة والإنابة: (وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ)؟… بلى والله. والله أعلم وأحكم، وهو الموفق للحق لا هادي سواه. أستاذ بجامعة القاضي عياض كلية الآداب – قسم الدراسات الإسلامية/مراكش – المغرب