من جديد، تتنافس القوى العالمية الكبرى على الموارد الطبيعية الغنية وإمكانات الأسواق وفرص النفوذ التي تقدمها القارة الإفريقية. ويعد التنافس المحتدم الذي شهدته القارة إبان فترة "التدافع على إفريقيا"، بين عامي 1881و1914، والتي شهدت أوج تنافس القوى الاستعمارية على فرض النفوذ في القارة السمراء والاستفادة من مواردها، أحد أهم أسباب الحرب العالمية الأولى. واقعيا، بدأت تجارة الرقيق وتشكلت شبكات نقل الموارد الطبيعية والبشرية من جميع أنحاء القارة، قبل أن تخضع المناطق الإفريقية رسميا لسيطرة الدول الاستعمارية بعدة قرون. وكان على إفريقيا وقتها إمداد أوروبا والولاياتالمتحدة بالمنتجات الزراعية، والعمالة الرخيصة من خلال تجارة الرقيق، خصوصا في المجالات التي تتطلب كثافة في الأيدي العاملة خلال مرحلة التحول الصناعي التي كانت تمر بها القوى الاستعمارية. وقد تفرقت ثروات إفريقيا المتمثلة في الموارد الطبيعية والطرق التجارية، بين القوى البريطانية والفرنسية والألمانية والإيطالية والبلجيكية، بينما دُمرت شبكات التجارة التقليدية وأنظمتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ومواردهم الحياتية. واشتكت القارة من الاستغلال حد الإعياء من التجار والجنود والبعثات التي كانت تعرف ب "رسالة الرجل الأبيض"، وظلت تعاني حروبا لا متناهية وسفكا للدماء وفقرا وفوضى سياسية وضغوطا دولية على مدى القرنين الماضيين. ** فخ التمويل الدولي وجدت الدول الإفريقية التي نالت استقلالها خلال ستينيات القرن العشرين نفسها مضطرة للتعامل مع تركة ثقيلة خلَّفها الاستعمار ما حال دون تطورها واستقلالها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا. ووقعت دول القارة في "شراك" الديون من الهيئات الدولية بعد موجة الانفتاح الاقتصادي في ثمانينيات القرن العشرين، إذ اقترضت هذه الدول أكثر مما تقدر على الوفاء به من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وبعض البنوك التجارية الغربية. كما أنها وجدت نفسها غير قادرة على توفير الخدمات لشعوبها مثل التعليم والأمن والرعاية الصحية والبنية التحتية، حتى تستطيع الوفاء بخدمات الديون (المبالغ التي يتم سدادها مقابل الحصول علي القرض، مثل الفوائد والعمولات وغيرها). ونتيجة لهذا النهب الجماعي، تستمر معاناة إفريقيا من الجوع والفقر والأوبئة، بينما يصل نصيب الفرد سنوياً من إجمالي الناتج المحلي إلى 850 دولار فقط. كما يبلغ متوسط عمر الفرد (55 عاما)، بينما يبلغ متوسط عمر الفرد في اليابان مثلا (85 عاما)، كما يفتقدون إلى الكهرباء ومياه الشرب، وتعد كل هذه المشكلات التي تعانيها القارة، نتيجة لتراكمات تاريخية خلفها الاستعمار. التركة الاستعمارية الثقيلة التي أوصلت إفريقيا إلى هذه المؤشرات التنموية المتدنية، دخلت في مرحلة جديدة منذ العام 2000 حيث بدأت موجة ثانية من التدافع نحو القارة السمراء. وتتركز معالم موجة التدافع الجديدة في السيطرة على الموانئ الاستراتيجية والممرات المائية، والموارد الطبيعية الاستراتيجية مثل البترول والغاز الطبيعي والذهب والألماس واليورانيوم. بينما تستهلك الولاياتالمتحدة ربع إنتاج العالم من النفط فإنها تمتلك 3 بالمائة فقط من احتياطات الخام العالمي، وتفوق وارداتها من النفط من الدول الإفريقية مثل نيجيريا وأنغولا وتشاد والكونجو والغابون، ما تحصل عليه من الدول العربية الشرق أوسطية، وفي هذا دليل قاطع على أهمية الدول الإفريقية كمورد للموارد الخام لواشنطن. وتحاول الصين "مصنع العالم"، التي تضاعف استهلاكها للنفط خلال العقد الأخير أن تفرض سيطرتها على حقول النفط التي لم تكتشف بعد من أجل ضمان الحصول على موارد للطاقة تمكنها من استمرار نموها الاقتصادي. وتستفيد الحكومة الصينية من النظام الاقتصادي الرأسمالي عبر إدارة مشاريع ملموسة في إفريقيا من خلال شركات حكومية وشبه حكومية مثل مؤسسة البترول الوطنية الصينية، التي تسيطر على مجالات مثل الطاقة، والتعدين، والبتروكيماويات، والإعمار، والمواصلات، والخدمات المالية، مما يثير مخاوف العديد من الدول. ** تراجع السيطرة الأمريكية على القارة واستطاعت الصين الحصول على امتيازات تمكنها من السيطرة على الموانئ والمطارات والسكك الحديدية في دول إفريقيا المنتجة للنفط مثل السودان، ونيجيريا وأنجولا، بسبب عروضها منخفضة الفائدة للمشاريع وعروضها لمشاريع البنية التحتية مقابل الموارد الطبيعية، ونظرا لتبنيها خطابا مضادا للإمبريالية، ولعدم وجود تاريخ استعماري لها في القارة. كما استطاعت الصين الحصول على صفقات تعدين لاستخراج الذهب، والألماس، واليورانيوم، والبلاديوم، في دول مثل زامبيا، وناميبيا، وجنوب إفريقيا، والنيجر. ولهذه الأسباب أصبحت بكين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتمارس أدوارها كشريك التطوير الأول في الدول الإفريقية، وهو ما يعد بلا أدنى شك، جزءا من خطة استعمارية جديدة طويلة الأمد. ومما سهل على الصين دورها أيضا، محاولات الولاياتالمتحدة تأمين سياساتها الخارجية ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، مما أدى لابتعادها عن الدول الإفريقية. وساهم تركيز الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، على الشرق الأوسط في سياساته الخارجية، وخطاب الرئيس الحالي دونالد ترامب، السياسي العنصري وتركيزه على الحرب الاقتصادية مع الصين، في إفقاد الولاياتالمتحدة أرضا كبيرة في إفريقيا. وبينما تتعدد مجالات استثمارات الصين في الصناعة والزراعة الحديثة والمواصلات والاتصالات والطاقة والتعليم والصحة وتقليص الفقر، وعقدها لفعالية دبلوماسية فاقت فعاليات الأممالمتحدة حول التعاون الصيني الإفريقي، تنحصر اهتمامات الولاياتالمتحدة في القارة السمراء في مجالي الحرب على الإرهاب والبترول. إلا أن الولاياتالمتحدة حاولت التصدي للنفوذ الصيني المتنامي في دول شرق إفريقيا مثل إثيوبيا والسودان والتي هي عادة منفتحة على سياسات واشنطن نظرا لقربها من الشرق الأوسط، من خلال ردود فعل دبلوماسية وسياسية. فمثلا دعمت واشنطنجنوب السودان الغني بالبترول دوليا للانفصال عن السودان، وساهمت في خلع الرئيس السوداني السابق عمر البشير، في إطار محاولاتها للتقليص من نفوذ الصين المقلق. جدير بالذكر أيضا أن الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، كان قد أوكل إدارة حقول بترولية مهمة إلى الشركة الصينية القومية للبترول، وهو ما كان مزعجا للعديد من الإدارات الحكومية الغربية. ** روسيا تسعى نحو مكاسب إفريقية قوة عالمية أخرى تسعى نحو مكاسب إفريقية هي روسيا، والتي أصبحت قوة عظمى مؤخرا، تتدخل بشكل مباشر وغير مباشر في مشكلات الشرق الأوسط. فبعد أن كانت روسيا محل عقوبات من العالم الغربي، تسارعت خطواتها نحو إفريقيا، وسيرا على خطى الصين، نظم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قمة إفريقية روسية في العام الماضي. كما لم يعد خافيا على أحد، زيارات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، المتكررة للبلاد الإفريقية الغنية بالمعادن ومساعيه لعقد صفقات لبيع السلاح الروسي إلى دول جنوب شرق إفريقيا، لتصبح روسيا، المورد الأول للسلاح في القارة. وتحاول روسيا تحقيق مكاسب سياسية عبر إرسال خبراء عسكريين إلى مناطق النزاعات الاستعمارية الطويلة مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية الخاضعة للنفوذ الفرنسي. ومع أخذ المساعي اليابانية في الحصول على نفوذ في إفريقيا جنبا إلى جنب مع القوى الصاعدة مثل الهند والبرازيل وتركيا، فستنجلي أبعاد أكثر للتدافع نحو القارة السمراء. ومن زاوية أخرى، شهدت القارة حيوية دبلوماسية غير مشهودة، في السنوات الأخيرة، إذ تم افتتاح أكثر من 300 سفارة وقنصلية في بلدانها منذ العام 2010. وتميزت تركيا بباع كبير في هذا الإطار إذ فتحت 42 سفارة وقنصلية في عدة دول إفريقية، كما ساهمت الزيارات المتكررة للرئيس رجب طيب أردوغان، في تسريع التبادل بين أنقرة ودول القارة في المجالات الاقتصادية والسياسية. إلا أن هناك شوطا طويلا ينبغي أن يقطع للتقدم في في هذا السباق، حيث أن رؤساء كل القوى العالمية الكبيرة باستثناء ترامب الذي لم تطأ قدماه أرض إفريقيا بعد، وضعوا القارة السمراء أولوية نظرا لأهمية مواردها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي بالقرب من دول الخليج وأسواقها المستعدة للنمو. وحتى لا تتكرر مأساة استعمار القرن التاسع عشر، يجب أن تتضافر الجهود الدولية من أجل تنمية العنصر البشري في إفريقيا، وأن تأخد دول مثل تركيا ذات الخلفية الأخلاقية والتي ترجح مبدأ المكاسب المشتركة دورها بين مصاف الدول الكبرى ذات التأثير في القارة. المصدر: وكالة الأناضول.