إن كل أمة من الناس في القديم والحديث: تسعى جاهدة من أجل الحفاظ على تاريخها وتدوين ما جرى فيه من أحداث في سالف أزمانها، كي ترويه للأبناء والأحفاد، بل توجب عليهم حفظه، وتشجعهم على روايته، والتحدث به بكل فخر واعتزاز، وذلك إدراكا منهم لأهميته ورمزيته وآثره ونتائجه. فالتاريخ ليس مجرد أحداث وقعت في الماضي وماتت بموت أصحابها، بل هو سلسلة فكرية، وسلوكاتُ عملية: ممتدة في الماضي إلى آدم عليه السلام وستبقى مشدودة إلى المستقبل ما بقي الإنسان في الدنيا {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] أي وانظروا أيضا كيف كانت عاقبة الصالحين والمصدقين؟ {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. إن التاريخ هو مرآة: التغيير، وبوابة: مواصلة السير، وشموع النهار: الكاشفة عن الحقيقة: في التصرقات والأفكار. ولولا التاريخ وتركامته، وتصرفات السابقين وأعمالهم، ولولا استفادة اللاحق من السابق لما تحركت الأمم ولما تغيرت الأحوال ولبقي الإنسان يدور في فراغ، ويكرر نفس البداية ونفس النهاية، ولأجل هذه المزية الكبرى للحدث التاريخي: أولاه القرآن الكريم عناية عظيمة: قال تعالى {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]. وإن من حقائق التاريخ أنه: يحمل المسرات والأفراح، والأحزان والأتراح، والبطولة والانتصار، والهزيمة والاندحار، ونهاية العدل وروعته، وغاية الظلم وجبروته، ففيه المحمود والمذموم، والحسن والقبيح، وأمام هذه الثنائية وضع القرآن الكريم ثناية: في التعامل مع تنوع الأحداث فقال ربنا جل في علاه {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5] فالشكر يكون على تكرار الحسن من التاريخ، والصبر: منهج مواجهة السيء منه. وإن هذا البلد -المغرب- له تاريخ فيه الحسن الجيد ينبغي أن يُروى كي نستفيد منه في نهضة الأمة، وله أحداث في التاريخ سئية أيضا: ينبغي دراستها حتى لا نقع فرائس فيها ونكرر نفس أخطائها. وإن من أحسنها وأجملها ما سوف تشاركم فيه هذه الورقة وهو: ذكرى 11 يناير وهي ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال والتي قد مر عليها ستة وسبعين سنة. فالزمان قد استدار كدورته يوم خرج المغاربة وسكانُ هذا البلد: مطالبين برفع الظلم والحيف عنهم ففي الحادي عشر من يناير 1944: كان المغربة قد أجمعوا قواهم الفكرية والبدنية واتحدت كلمتهم على ضرورة رد الاعتبار، وعلى رد ما تم اغتصابه منهم من قبل سُلطات الاحتلال: التي حاولت جاهدة: بسط سيطرتها على هذا البلد ونهب خيراته وتجويع أهله، وإفقارهم علما وعملا، وجعلهم مقاطعة استهلاكية ، ينهبون خيراته من هاهنا ويبعون له مصنوعاتهم، يستغلوننا سياسيا وعسكريا وثقافيا ووجدانيا، ويبسطون علينا ايديهم كيف ومتى أردوا، ولو بحث عن تعبير لوصف سلوكاتهم الشيطانية اتجاه أبناء هذا البلد فلن تجد مثل قوله تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] وكذا قوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]. فأمام هذا الوضع كان لابد من الانعتاق، وذلك أن الإسلام يريد من معتنقيه: أن يعيشوا أحرارا طلقاء لا يحكمهم من لا يرضونه، ولا يسلط عليهم الظلم ولا يقبلونه، كل ذلك: انطلاقا من مبدأ: نحن أمة لا نظلم ولا نرضى بالظلم، قال الله تعالىM {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:57] وقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم «الظلم ظلمات يوم القيامة» [البخاري ومسلم]. فكان هذا الدافع ألإيماني الراسخ في قلوب المؤمنين المغاربة ألا يرضوا بالظلم الذي مورس عليهم ابتداء من توقيع ما أسموه ظلما وزورا معاهدة الحماية والتي وقعت قهرا من طرف السلطان عبد الحفيظ في 30 مارس 1912: وهو ظلم الاحتلال ونهب الخيرات واستغلال صاحب البلد في بلده وظلم صاحب الدار وقد اسقبلك ضيفا… فتحركت مشاعر الإيمان التي لا تزحزحها قوة الرياح ولا شدة الأمواج: ثبات الجبال الرواسي: بالصبر و الثبات، والعزيمة والعمل، فتحرك المغاربة جميعا تحت قيادة ملكهم محمد الخامس رحم الله الجميع للعمل على جلب الحرية وإزاحة الظلم، وقد اتخذ هذا التحرك طريقتين: الطريقة الأولى: العمل المسلح لأجل زعزعة هذا المحتل الذي استحلى المقام، فقدم المغاربة أرواحهم لأجل: العيش في حرية وسلام. الطريقة الثانية: وهي العمل السياسي والذي تبلور في المطالبة باستقلال هذا البلد أمام المجتمع الدولي وتقرير مصيره، وهذا هو الذي تمخضت عنه وثيقة المطالبة بالاستقلال والتي وقعها ستة وستون شخصية مغربية منهم العلماء ورجال السياسة من أبناء هذا الوطن. إن هذه الوثيقة التي قدمت للمحتل وإلى القنصلينة البريطانية والولايات المتحدة وإلى سفير الاتحاد السوفيتي بالجزائر. هذا الحدث والذي بدأ اليوم يسير نحو طي النسيان حتى إنك تسأل الواحد عن سبب عطلة الحادي عشر من يناير فتجده لا يدري لماذا؟ المهم أنها عطلة، وهو لا يدري أنها: شرارة الانعتاق. وحتى تدركوا قيمة هذه الوثيقة فإنها مباشرة بعد تقديمها شعر المستعمر بخطورة الأمر، ليدشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف الموقعين على الوثيقة الأمر الذي أشعل نار الاستقلال حتى تحقق بإذن الكريم المتعال قال الله تعالى {إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140]. إن هذا الحدث التاريخي في صورته المختصرة التي قدمت أمامكم توقفنا على قضايا كبرى في الاجتماع البشري وما على الإنسان إلا حسن التعامل معها: أولها: التعرض للظلم أمر وارد، والانتصار عليه ضرورة وجودية إذا صحبها الجد والمجاهدة والكفاح والعمل: قال الله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:128،129]. ثانيا: أن النصر على الاعداء لا يتحقق ما لم نكن يدا واحدة حكاما ومحكومين تجمع بيننا المودة و الرحمة {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] أما إذا كان الحال على الفرقة والشتات والنزاع والتخاصم فإن المصير في مهب الرياح {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. ثالثا: الرضي بالواقع المرير والاستسلام للذل والهوان سلوك لا تقبله الطبيعة البشرية ولا ترضاه النفوس الأبية، وهذا ما حرك نفوس المغاربة انذاك نحو مواجهة الظلم والطغيان. رابعا: إذا لم نخطط لأنفسنا، ونغير أحوالنا من التخلف إلى التقدم، ومن الجهل إلى العلم، ومن التقليد إلى التجديد، ومن التستر إلى الظهور… فإن الغير سوف يتسلم مكانا ويخطط لنا ويوجهنا كيف شاء. خامسا: قوة الأمة في فكرها وسلاحها وأن أمة الإسلام على جهة الخصوص تؤمن بأمرين اثنين لا ينفصلان ولا يرتفعان الأول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5]، والثاني: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] فالعلم والقوة: هما من أشد أسس البناء الحضاري في التوجه الإسلامي. الحدث قد مضى وانقضى، وأهله ماتوا وساروا إلى الثرى، لكن العبرة حية ولن تموت حتى ينقضي الوجود البشري في هذه الدنيا {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111].