إن الإجابة عن هذا السؤال يسمح لنا أن نقارب هذا الموضوع المهم من زاوية اجتماعية كذلك، فعادة لا يقوم بهذا النوع من الزواج إلا ثلاثة أصناف من الناس: 1 صنف يكون متزوجا ويرغب في إضافة زوجة أخرى، لكنه لا يستطع إقناع نظر القاضي بتوفره على الشروط التي يفرضها القضاء، والتي هي في معظمها شروط جائرة، فيها محاربة لمبدأ التعدد الزوجات المأذون به شرعا، فيسلك الراغب في التعدد الزواجَ غير الموثق كحل وحق له. وإن كان يبدو أن هذا الصنف من الناس هو صاحب حق لأنه منع من ممارسة الحلال بشروط جائرة، إلا أن استيفاء الحقوق لا يجوز أن يكون إلا بالوسائل الشرعية الممكنة، أو بما لا يترتب عنه وقوع مفاسد كبيرة أعظم من الحق المطلوب، أو بما لا يسفر عنه وقوع ظلم على جهة بريئة والتي هنا الزوجة الثانية. والزواج وإن كان في أصله أنه مندوب أو مباح فإنه يأخذ الأحكام الخمسة باعتبار مآله وما سيترتب عنه. وللفقهاء المالكية تحقيق محكم في ذلك راعوا فيه مآلات الأفعال ومقاصد الشريعة؛ فإن الزواج إذا كان سيفضي إلى فساد أو ظلم فإنهم يقولون بمنعه وتحريمه، وهذا نظر في المآل، وقد بينا أن الزواج بغير توثيق مَحَلّ شر عريض وفساد كبير، فلا يجوز الإقدام عليه ولو أن هذا الصنف صاحب حق قد حُرم منه. 2 صنف ثان مزواج ذوّاق مطلاق، يجد في الزواج الشرعي!!؟ غير الموثق حلا مناسبا يحقق فيه نزواته بأقل تكلفة، فمتى شاء أن يطلق الزوجة الضحية أوقع ذلك دون أي مراعاة نفسية لها أو تبعات مادية لصالحها، وليس للزوجة القدرة على مطالبته بحقوقها الشرعية من جهة قضائية، فينتقل من واحدة إلى أخرى، وقد يضيف إلى هذا الفعل الشنيع نية مسبقة للطلاق، أو ما يعرف عند الفقهاء بالزواج بنية الطلاق، وقد ذهب جمهور العلماء إلى جوازه، ومنهم من حكى الاتفاق عليه كالقاضي عياض، ومن المعاصرين كالشيخ ابن باز قيده بحال الاغتراب؛ أي حين يكون الرجل بعيدا عن أهله وسيقيم سنوات في بلاد الغربة. ولكن القول الأقرب إلى الصواب فيه هو من قال بتحريمه كما ذهب إليه الإمام الأوزاعي، وهو المشهور عن الإمام أحمد وأصحابه المتأخرين، ومن المعاصرين الشيخ ابن العثيمين، وقد استندوا هؤلاء العلماء إلى روح الشريعة ومقاصدها، فإن الزواج بنية الطلاق غش وخديعة للمرأة وأسرتها؛ إذ تشعر بالمكر والظلم اللذان لحقها جرّاء ارتباط بزوج بَيّت نية الطلاق قبل أن يمسها، وخصوصا في وقتنا المعاصر، ومن منا يرضى بذلك لكريمته أختا أو بنتا، ومن صحيح الإيمان أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك. ولا يخفى مستند جمهور الفقهاء الذين قالوا بجواز الزواج بنية الطلاق، فإن له وجاهته، بحيث أنه تحققت فيه جميع أركان الزواج وشروطه، فظاهره الصحة مما لا يخفى، والمتزوج بنية الطلاق نيته مضمرة لا يعلمها إلا الله، وقد تتغير نيته ويحتفظ بزوجته، ولم يكن في زمان الفقهاء المتقدمين مسوغات شرعية كافية تدفعهم إلى القول بالمنع، فإن المرأة المطلقة في زمانهم كانت مطلوبة للزواج، ومن نظر إلى تراجم السير وأحوال الناس والمجتمع في كتب التاريخ، علم أن المرأة كانت تعرف في حياتها الزوجية أكثر من زوج؛ تتزوج بهذا فيطلقها أو يموت، فتتزوج بآخر، ثم كذلك يقع له، ثم تتزوج ثالثا، وهكذا مرات ومرات، فَسُوق الزواج رائج والعنوسة نادرة، وليس هناك أثر سيء له بال على المرأة التي تزوجت بزوج يضمر لها نية الطلاق بعد حين، فكأن الجمهور لم تتحقق لديهم مفسدة في الزواج بنية الطلاق في زمانهم تَرْجَح عن عقد ظاهره الصحة الذي توفرت فيه أركانه وشروطه. ولكن في وقتنا المعاصر أصبح الأمر مختلفا، وعاد الطلاق مصيبة حقيقية تقع على المرأة وأسرتها، تكبدها نفقات مادية وأعباء معنوية وضغوط نفسية، وقد لا تظفر المطلقة بزواج من جديد، ونسبة العنوسة مرتفعة في صفوف الأبكار فضلا عن الثيبات. ولهذا، لا يليق بفقيه النفس أن يتمسك بقول الجمهور القائلين بالجواز، والواقع تغير والمفسدة ظاهرة في الزواج بنية الطلاق غير خفية، فالقول بتحريمه يتأكد أكثر فأكثر ويحرم الإقدام عليه، فإذا أضيف إلى الزواج بنية الطلاق عدم توثيقه، فلا أظن أن عاقلا سيستمر بالقول بإباحته فضلا عن عالم أو فقيه رغم وجود تلك المفاسد المركبة. 3 صنف أخير، ألجأته ظروف إدارية إلى الزواج غير الموثق؛ كأن تكون المرأة المرادة تزوجها قاصرا باعتبار السن القانوني، أو هناك تأخير في إنهاء إجراءات إدارية تتعلق بطلاق لزواج سابق، فيقدم الراغبان في الزواج إلى عقد زواج بغير توثيق انتظارا أن ترتفع الظروف التي منعتهما من توثيق زواجهما. وحكم الزواج دون توثيق في هذه الحالة أو في هذا الصنف لا يخرج عما قررناه من قبلُ أنه لا يجوز لغلبة المفاسد المترتبة على الإقدام عليه، فما عليهما إلا أن يصبرا وينتظرا ارتفاع تلك الظروف التي منعتهما من توثيق الزواج، فإن ذلك أسلم لهما دينا ودنيا، ومن يتق الله يجعل له مخرجا.