"الزواج الشرعي" مصطلح يروج بين فئة من الناس في المجتمع المغربي، يغلب عليهم التدين من حيث المظهر، ويراد بهذا المصطلح الزواجُ الذي استكمل أركانه وشروطه، غير أنه لم يوثق عند السلطة القضائية. وتسمية هذا الزواج بالزواج الشرعي مع عدم توثيقه يدل على قصور في فهم الشرع الذي نُعت به هذا الزواج وأصبح عَلَماً عليه؛ لأن توثيق الزواج اليوم في هذا الواقع الذي قلّت فيه الديانة وضعف فيه الوفاء بالعهود هو من صميم الشرع ومقاصده ، فكان حريا بأن يسمى الزواج الموثق المستكمل الأركان والشروط هو الزواج الشرعي، وما لم يكن كذلك فهو أبعد عن الشرع. ومدى بعده عنه يتوقف على درجة الخلل الناجم عنه، فإن من ثمرة عقد الزواج الصحيح الذي جاء به الإسلام أن يترتب أثره عليه، وفي القيام بتوثيق عقد الزواج تَثَبّت من وجود أركانه، وتحقق من توفر شروطه، وسعي في ترتب أثاره، وهذا مطلب شرعي، وفي عدم توثيقه إخلال ببعض ما ذُكر. وكذلك في القيام بتوثيق عقد الزواج الحفاظ على حقوق الزوجين ومصالحهما من الضياع، والتي هي من المصالح الضرورية مثل حفظ الأعراض وحفظ الأموال. ذلك: 1 أن من أركان الزواج الصحيح أن تكون المرأة المعقود عليها خالية من الموانع، والتي منها أن لا تكون زوجة الغير، أو في عدة وفاة زوجها أو عدة الطلاق، ومن شروط توثيق الزواج إثبات شواهد إدارية تؤكد خلو المرأة من هذه الموانع، وفي الإقدام على الزواج دون توثيق استهتار بهذه الموانع الشرعية مع انتشار الكذب في غالبية الناس، والذين أصبحوا لا يردعهم إلا قوة السلطان، فصدق فيهم إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؛ 2 إذا لم يكن هناك توثيق لعقد الزواج، وترك الزوج زوجته دون أن يطلقها، فستبقى المرأة كالمعلقة، لا تستطيع أن ترفع أمرها إلى القاضي ليبث في حالها ويتم تطليقها شرعا لعدم وجود ما يستند عليه قانونا. نعم، هناك مسطرة قانونية طويلة قد يستند عليها القاضي، ولكن في بعض الأحيان يصعب تحصيل هذه المسطرة وتبقى المرأة بهذا الوضع كالمعلقة، فلا تستطيع ديانة أن تعقد زواجا آخر، وإن أقدمت على الزواج رغم أنها لا تزال في عصمة زوجها الأول ديانة فزواجها الثاني باطل وما أقدمت عليه هو في حكم الزنا؛ 3 إذا طلق الرجل زوجته وليس بينهما عقد زواج موثق لا تستطيع المرأة أن تستخلص حقوقها المادية التي أوجبها لها الشرع، وكذلك في حالة وفاة الزوج أو الزوجة تضيع الحقوق لأصحابها، فإن الوثائق القانونية هي التي يعترف بها المجتمع ويتحاكم إليها الناس والقضاء؛ 4 يُعرّض من أقدم على الزواج دون توثيق إلى الاستهانة بعرضه، والشرع أمر بصون الأعراض، والقانون يعاقب الرجل والمرأة إذا كانت بينهما علاقة جنسية خارج إطار الزواج الموثق، ويتصرف معهما كما يتصرف مع الزناة، كما أنه أحيانا يصعب نفي هذه التهمة المشينة فتهان الأعراض، وفي الواقع أمثلة كثيرة تشهد لصحة هذا الأمر؛ 5 إذا قبلت المرأة الزواج بغير توثيق ثم طُلقت، وأرادت أن تتزوج من جديد بآخر، فإنه إما أن تُقدم نفسها لهذا الراغب فيها على أنه سبق لها الزواج أو لم يسبق لها الزواج، فإن قدمت نفسها له على أنه قد سبق لها الزواج فلابد لها من وثيقة رسمية التي تشهد لها بصدق ما تقول، وأنى لها ذلك. وإن قدمت نفسها أنها لم تتزوج من قبلُ فإنه سيكشف أمرها وهي ثيب. وإن أخبرته بحقيقة ما جرى لها فإن ذلك مدعى للشك في دينها وخلقها وعدم تصديقها، أو اعتقاد أنها امرأة سهلة يسهل وصول الرجال إليها ولها تجارب كثيرة من هذا النوع، وينصرف عنها من كان قد رغب فيها، فتضيع نفسها بنفسها؛ 6 إذا تزوج الرجل دون توثيق عقد الزواج وابتلي بزوجة تخونه مثلا، فإنه يستحيل أن يأخذ حقه منها ولا أن يردعها بشيء، لأنه لا يستطيع أن يلتجأ إلى القضاء لعدم وجود ما يثبت أنها زوجته قانونا، فليس أمامه إلا أن يطلقها أو يحتفظ بها مع هذا الذل والمنكر الكبار، أو أن يتركب حماقة تفضي بحياة زوجته إلى الخطر وحياته إلى الضياع. فهذه جملة من الحالات التي تترتب عن الزواج غير الموثق، وقد وقفت بنفسي على بعضها، وهي مفاسد لا يمكن إنكارها معاينة وواقعا، كما لا يمكن الاختلاف على تقدير الفساد الناشئ عنها شرعا، وليس هي من المفاسد المخلة بالتحسينيات فحسب، بل خللها يصل إلى المصالح الحاجية أو الضرورية. وبناء عليه، كيف يتساهل بعض الفقهاء المعاصرين بالقول بجواز الزواج دون توثيقه بناء على أنه توفرت فيه الأركان والشروط، وأن التوثيق أمر طارئ على أصل الشرع، فهذا قصور منهم كبير في فهم الشرع واستحضار مقاصده، وقد تقرر في قواعد الشرع أنه تحدث للناس أقضية بما أحدثوا من فجور، والناس اليوم غلب عليهم الفجور إلا من رحم الله؛ فاستسهلوا الكذب وركبوا البهتان وأمعنوا في مخالفة الوعود وجحد العهود، والواقع له تأثير على الأحكام. ولنا في عمل الصحابة خير شاهد على هذا الأمر؛ فإنهم قاموا بتضمين الصناع لما غلب على الصناع التهور والتفريط في أمانات الناس، وكان الأصل خلاف التضمين، ولكن عليا رضي الله عنه قال لا يصلح الناس إلا ذاك وأجمع الصحابة على التضمين، وتعرضوا كذلك لضوال الإبل بالبيع في خلافة عثمان رضي الله عنه خلافا للأصل، وحافظوا على المال لصاحبه لما أصبح الناس تمتد أيديهم إلى الضوال، وشدد الخليفة عمر رضي الله عنه على الناس لما استرسلوا في الاستهتار بألفاظ الطلاق؛ يطلقون ثلاثا أو أكثر في مجلس واحد، فأمضاهم عليه عقابا لهم وتأديبا، والأصل خلافه، وغيرها من الأمثلة التي تشهد لصحة هذا النظر. وقد درج العلماء كذلك في عصور متلاحقة على هذا النظر، وعلموا أن للواقع أو فساد الناس علاقة باختيار الحكم الشرعي المناسب لهم، فيتم الإفتاء بما يرجى به صلاح أحوال الناس والمجتمع، فمن المناسب للواقع الذي نعيش فيه ولأهله هو التشدد في هذا الجانب وإلزام الناس شرعا بتوثيق العقود ومنها عقود الزواج فلا يصلح الناس إلا ذاك. والوسائل لها أحكام المقاصد، وتوثيق عقد الزواج يخدم مصالح حاجية أو ضرورية، وعدم توثيقه يهدم تلك المصالح، والمحافظة على تلك المصالح واجبة، ووجوب المحافظة عليها قطعي، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولهذا فإن حكم توثيق عقد الزواج هو الوجوب، ومن لم يوثق عقد الزواج فقد خالف واجبا من الواجبات الشرعية. ولا نقول إن الزواج الذي عقده بغير توثيق فاسد أو باطل والمعاشرة فيه بين الزوجين لها حكم الزنا، لا نقول بهذا، ولكننا نقول إنه أخل بواجب من الواجبات الشرعية المهمة، فإن الواجبات الشرعية تعظم لشرفها وتعظم كذلك للمصالح المترتبة على الإتيان بها أو المفاسد المترتبة عن الإخلال بها، وبحسب درجة الفساد المترتب عن عدم توثيق الزواج يكون الإثم، نسأل الله العفو والسلامة.