من الكلمات الحكيمة التي كثيرا ما تجري على لسان علمائنا قولهم: "من كثر علمه قل اعتراضه". وتنطبق هذه الكلمة على كل من يحشر نفسه فيما لا إلمام له به من مسائل العلم واللغة والأدب، فيسيئ إلى نفسه وإلى الناس بما يظهر من جهله وخطله، وما يثيره من بلبلة في الرأي وخطأ في الحكم. ومن هذا القبيل: الحملة التي يشنها بعضهم على اللغة العربية باتهامها بالقصور عن مجاراة التطور العصري الحاصل في العلوم والفنون؛ حتى أصبحت في عداد اللغات الميتة كاللاتينية واليونانية القديمة. والمعتدل من هؤلاء من يقول أنها لغة أدبية لا تصلح للعلم؛ فعلى العرب أن يصطنعوا إحدى هذه اللغات الأجنبية التي برزت في مجال التقنية والحضارة الحديثة كي يسايروا ركب الأمم المتقدمة وإلا بقيت بلادهم بمعزل عن التطور والرقي المنشود. وأثّرت هذه الدعاية في كثير من قادة الفكر ورجال العلم عندنا؛ فادعوا أن تلقين العلوم بالعربية غير ممكن وأصروا على بقاء الجامعات في العالم العربي وخاصة الكليات العلمية منها جامعات أجنبية اللغة إلا ما ندر منها: والذين لم يتجرؤوا على اتهام اللغة العربية ذاتها بالقصور سلكوا طريقا آخر للهدم والتشكيك في قدرتها على أداء رسالة كل لغة حية؛ فقالوا: أن حرفها بعيد كل البعد عن الاستجابة لهذه الرسالة، فهو غير مشكول وبسبب ذلك يقع القارئ العربي في كثير من اللبس ولا يفهم المعنى المراد بسهولة، وأن عليه أن يفهم قبل أن يقرأ قراءة صحيحة فصار الحرف غاية بعد أن كان وسيلة، ومن ثم فما على العرب إلا أن يستبدلوا بحرفهم، هذا الحرف اللاتيني المضبوط الذي لا يجد القارئ صعوبة في قراءته لأن الحركات التي تشكله هي من صميم كتابته وتخطيطه. ولعل هؤلاء – ولا أتهم أحدا – إنما يقومون بدور الطليعة للآخرين في هذه المعركة الحاسمة التي يريدون أن يقضوا بها على اللغة العربية القضاء المبرم. ومن غير أن أقول جديدا؛ فإن دعوى قصور اللغة العربية عن مواكبة التقدم العلمي والحضاري في العصر الحديث، جدير بها أن لا تسمع؛ لمخالفتها للواقع ولأن ماضي هذه اللغة يكذبها: فالواقع أنه منذ انبثاق عهد النهضة بوطننا العربي في مطلع هذا القرن، والعربية تؤدي وظيفتها على أكمل وجه في الميدان العلمي والأدبي على السواء، فقد نقلت إليها روائع الفكر والفن من الأدب الأوروبي على اختلاف لغاته من فرنسية وألمانية وإنجليزية وروسية وإسبانية وإيطالية وغيرها، ولم تضق ذرعا بشيء منها. واطلع القارئ من خلال الترجمة على الأعمال الأدبية لنبغاء الكتاب والشعراء الغربيين، وكذا على الكتب الرائدة في الفلسفة والاجتماع والتاريخ لأعلام الفكر المعاصر، ومن قبلهم من عصر النهضة الأوروبية إلى الآن. ولم يكن حظ العلم والمعرفة الصحيحة بأقل من حظ الفلسفة والأدب؛ فبعض جامعاتنا تدرس العلوم باللغة العربية، والمتمكنون من علمائنا وضعوا مئات الكتب إن لم أقل آلافها في فروع العلم المتنوعة باللغة العربية، وهذا إلى عشرات المعاجم المختصة بالطب وفنونه والطبيعة وأسرارها، بحيث يصح القول أن لغتنا الضادية تسير مع نهضتنا جنبا لجنب وأننا لا نتقدم خطوة في سبيل التطور الفكري والعلمي إلا وتكون اللغة أمامنا آخذة بزمامنا لا نفتقدها في مرحلة ولا مجال. ولغة هذا شأنها لا تكون ميتة، والعربية لن تموت أبدا حتى يموت العرب كلهم، لا قدر الله. ولذلك فإن تشبيهها باللاتينية أو اليونانية هو من باب المغالطة؛ ذلك أن هاتين اللغتين غير ميتتين، والدليل على ذلك أن اللغات الأوروبية الكبيرة ما تزال تستمد منهما وترجع إليهما تلتمس عندهما أسباب النمو والحياة، فإن أريد بموتهما أنهما أصبحتا غير مستعملتين في التخاطب والكتابة؛ فإن ذلك صحيح والسبب بسيط وهو تخلي أهلها عنهما. فكيف يقال أن العربية لغة ميتة وأهلها لا يبغون بها بديلا؟ وهم يبذلون في سبيل نموها وازدهارها النفس والنفيس؛ وقد حققوا من ذلك أغراضا بعيدة ما يزالون يعملون على إحلالها المحل اللائق بهم بصفتهم أصحاب رسالة وبناة حضارة وخير أمة أخرجت للناس. نعم؛ إن ما يهدف إليه أولئك الخصوم هو جعلها فعلا مثل اللاتينية واليونانية بحمل أهلها على نبذها واصطناع لغة أجنبية عنهم كالإنجليزية في الشرق والفرنسية في المغرب؛ بأمل التطور والتقدم. وذلك إن أرادوا أن يسلكوا الطريق القاصد والسبيل اللاحب. على أن دعوة أخرى مدسوسة كثيرا ما يروجها الخصم بينهم، وهي ترمي إلى الغاية نفسها، ومن المؤسف أن يتبناها بعض أبناء العرب وينساقوا في حبلها جاهلين أو عارفين بما تؤدي إليه من تقسيم الأمة العربية وفصم هذه العروة الوثيقة التي تجمع بينهم؛ وأعني بها الدعوة إلى إحلال العامية محل الفصحى، وذلك هو ما حصل للغة اللاتينية بالضبط، حين تحولت لهجات الشعوب المتكلمة بها إلى لغات فماتت هذه اللغة موتا معنويا، وحلت تلك اللهجات محلها فصارت الأمة الواحدة أمما متعددة وما يفرق بينها أكثر مما يجمع؛ وأخصه اللغة. ويشهد ماضي اللغة العربية الزاخر بالفتوحات العلمية والفلسفية والأدبية؛ أنها لغة حية متطورة باستطاعتها أن تحتوي جميع أنماط الفكر الإنساني وتستوعب كل قضايا المعرفة الكونية من علوم رياضية وطبيعية تجريبية وتطبيقية. وقد تفتّحت عل ثقافات الأمم والشعوب التي سبقتها وحضارتها؛ فأخذت منها كل صالح نافع وأضافت إليها ما ابتكرته وأبرت به على تراث العالم القديم فما قصرت ولا عجزت عن مطلب أو مرام. بل كانت اللغة الأولى في العالم، وكانت الأمم والشعوب المعاصرة لها تقتبس منها وتستنير بها وتعتبر أدبها هو الأدب وتفكيرها هو التفكير، حتى ارتفعت الشكوى في بعض بلاد الغرب من إقبال شبابها على اللغة العربية وهجر لغتهم القومية. هذا على حين أن الانتقال إذ ذاك كان من عربية قاصرة على بعض أغراض الحياة التي تقتضيها ظروف العزلة المفروضة على جزيرة العرب قبل الإسلام؛ فكيف الآن والعربية تجر وراءها هذا التاريخ الحافل بالمجد العلمي والأدبي، وأبناؤها يعملون ويكدون ليل نهار في خدمتها ودفع الضيم عنها ... وإذا تبين أن دعوى قصور اللغة العربية في المجال العلمي لا نصيب لها من الصحة؛ فإن دعوى أنها لغة أدبية غير علمية كذلك لا تصح، ضرورة أن اللغة إذا كانت ناجحة أدبيا فلابد أن تنجح علميا، لأن المادة العضوية للغة هي الأدب فهو الذي ينميها ويمدها بنسمة الحياة، وليست هناك لغة علمية لا أدب لها، ويكفي العربية دليلا على رسوخها في مجال العلم أن مفرداتها ومصطلحاتها العلمية تشيع في لغات أكثر الأمم تفوقا في حلبة العلم والتكنولوجيا. وهي مما اقتبسته منها في عصر النهضة الأوروبية، ولم تجد عنها غناء حتى الآن. بل إن بعض العلوم إنما يعرف باسمه العربي في جميع اللغات وهو علم الجبر ومن الغريب أن يدعي هؤلاء على اللغة العربية ما ادعوا وعندنا من يقول أن من المشكلات التي تواجهها العربية تعدد المصطلحات العلمية التي نشأت من اختلاف المجامع اللغوية وأساتذة الجامعات فيما يضعونه من أسماء متعددة للمصطلح العلمي. وهذا على ما فيه أعظم حجة لخصب اللغة العربية وعطائها الجزيل. وقلتُ على ما فيه؛ لأني أرى في هذا القول مبالغة كبيرة، فالتعدد المزعوم لا يزيد على 5 إلى 10 في المائة من المصطلحات الموضوعة؛ وهو علامة صحة أكثر منه ضعف؛ فإن بعض المصطلحات التي يقع فيها خلاف تحتاج إلى فترة من الزمن تخضع فيها للتجربة والاختيار، وعندها يفرض المصطلح المختار نفسه. وعلى أي حال فواقع اللغة العربية ليس كما يتقول الخصوم ، بل هو في ازدهار مستمر بفضل الجهود المبذولة من أبنائها المتفانين في خدمتها، حتى أن بعض المصطلحات العلمية الجديدة تتعدد وتتكرر لاختلاف نظر واضعيها، وهو أمر شبيه بما وقع لأوائلنا في عهد الترجمة الأسبق؛ فإن منهم من كان يجنح للتعريب ولو في الكلمات الواضحة الدلالة بالعربية فيقولون (أرتماطيقي) في الحساب و(فيزيقي) في الطبيعة وما أشبه ذلك ولكن البقاء دائما إنما هو للأصلح. ونخلص للكلام على الحرف العربي الذي اتهم بما اتهم به، فإنه بحسب نظر الفنانين الأجانب من الرسامين والمتخصصين في أعمال الزخرفة بعد من أجمل الخطوط أو أجملها على الإطلاق، حتى أنهم من فرط الإعجاب بأوضاعه وأشكاله المنسجمة مع المعمار العربي الرائع يحلونه محل التصوير الذي لم يعن به العرب لتحريم الإسلام له، ويجعلون إبداعهم في النقش والكتابة مقابل ما فاتهم من الإبداع في التصوير والتمثيل. هذا من حيث الشكل، وأما من حيث الفائدة فلا ننسى إشادة المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون بالحرف العربي وتوصيته العرب بتمسكهم بحرفهم الذي لا يعدله حرف آخر. وهي الحقيقة التي لا مرية فيها؛ فإن كثيرا من الحروف العربية لا يوجد لها نظير في الحرف اللاتيني الذي يراد استبداله بالحرف العربي؛ ومنها الحاء والضاد والظاء والعين والغين والقاف. ومهما عدل هذا الحرف أو ذاك ليصبح دالا على المراد منه؛ فإنه يبقى بعيدا عن النطق الحقيقي لمنوبه العربي. ناهيك بأن عدد الحروف اللاتينية أقل من الحروف العربية. وأما أن القارئ العربي يلزمه أن يفهم الكلام قبل أن يقرأه قراءه صحيحة، فإن هذه سفسطة مردودة على أصحابها. وأي كلام لا يحتاج إلى الفهم ليقرأ قراءة صحيحة؟ فالإنسان في حالة الشرود الذهني يمر بسطور عديدة بل بصفحات من غير أن يعرف كيف قرأها لأنه لم يفهمها، وليس كل كلام يفهم بمجرد قراءته ولو كانت القراءة صحيحة. فالواقع أن الحملة على العربية سخيفة بقدر ما هي دنيئة؛ ولذلك فإنها وأن أحدثت بعض البلبلة في بعض الأفكار لم تنل من العربية الشامخة إلا كما يناله قرن الوعل من الصخرة الصماء. ولست في حاجة إلى بيان ما في الحرف اللاتيني من نقص واشتباه كثيرا ما يفضي إلى الارتباك والخطأ في كتابته وقراءته، فالكاف مثلا في الفرنسية له ثلاثة أحرف أحدهما مركب من حرفين. والسين كذلك له حرفان أحدهما هو إحدى صور الكاف ثم تارة هو سين وتارة زاي وتارة مضعف ولكن يقرأ سينا مع عدم التضعيف. وقل مثل ذلك في حرف الهاء الذي يركب مع الباء فيصير فا، وبذلك يصبح للفاء حرفان، ويركب مع الحرف الذي يستعمل كافا وسينا فيصير شينا. ولا صورة للشين إلا هذان الحرفان. ثم تارة يكون زائدا لا نطق له وتارة رافدا للحركة وهلم جرا. والياء وإن كان لها حرف مخصوص إلا أنه يستعمل حركة أيضا، ويعبر عنها تارة مع لامين وتارة بحرف الجيم والنون؛ وهو من أغرب ما يرى. ولا أستمر في ذكر هذه العجائب لأنكم تعرفونها، ولكن المتهجمين على الكتابة العربية يتجاهلونها ويكونون كالجمل الذي لا ينظر حدبته من حدبة أخيه ... أضف إلى هذا أن الكتابة اللاتينية عبارة عن ثلاثة خطوط لا بد للقارئ من أن يتقنها جميعا؛ وهي أولا خط اليد وثانيا حروف المطبعة وثالثا حرف التاج في خط اليد وفي المطبعة؛ وبين هذه الخطوط فروق كثيرة لا تعرف إلا بالممارسة وطول المعاناة. وإذن فإن ما يؤخذ على الحرف العربي إنما هو قل من كثر مما يؤخذ على الحرف اللاتيني الذي يراد استبداله به سواء في صورته أم في إفادته. وما دام المدار على التمرين وكثرة التعهد والتلقين؛ فإن ما ينقصنا نحن العرب هو الرجوع إلى الخط الذي سار عليه أسلافنا في تعليم اللغة لأبنائهم ولأبناء الشعوب التي دانت لهم من غير العرب؛ أنهم لم يكونوا يعلمونهم النحو ابتداء كما نفعل اليوم، فالنحو هو ضابط اللغة، وإذا لم تكن عند المرء حصيلة من اللغة فأي شيء يضبط؟ كان القرآن أول ما يحفظه الناشئ كلا أو بعضا، وكانت النصوص الأدبية الأخرى مثل المعلقات وخطب بلغاء العرب وأشعار الفحول من شعراء العصر الأموي والعباسي هي الزاد الذي يدخره الناشئ للإنفاق منه طول حياته في مجال التعبير؛ وإنما الكلام من الكلام. ويأتي النحو بعد ذلك مع بقية العلوم، وهذه الطريقة هي المتبعة في تلقين اللغات عند غيرنا ولا سيما منها ما كان اعتماده على النطق أكثر من اعتماده على القواعد. ومع أن الشكل قد يعصم من اللحن ولكن اللسان إنما يجري على ما سبق له النطق به: ولذلك يبقى الشكل في بعض المراحل من التعليم وفي بعض المفردات والجمل فقط، مما يستعان به وليس هو العمدة. فلنكثر من القراءة ولنكثف من النحو بما تقضي به الضرورة علما بأن القواعد تنسى ولكن استقامة اللسان على النطق لا تعتريها آفة. ولنا في الذين أخذوا بهذه الطريقة خير مثال ونذكر منهم الأستاذين مكرم عبيد في مصر وفارس الخوري في سوريا وهما غير مسلمين ولكنهما كادا يكونان من حفاظ القرآن لكثرة قراءتهما له وتعهدهما لتلاوته فأصبحا بذلك من أبلغ الخطباء العرب وأفصح الناطقين بالضاد، وغيرهما من المشايخ والأساتذة كثير ... وتحضرني هنا كلمة للإمام مالك قالها في غير ما نحن فيه ولكنها واردة علينا وهي قوله: (لا يصح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) أي المحافظة على أصالتها. فكل إصلاح لا يتوخى معنى الأصالة والانطلاق مما انطلق منه بناة كياننا الأولون، يجب أن نحذر منه ونعلم مسبقا أنه إنما يهدف إلى إضعاف مقوماتنا ومحو شخصيتنا ليسهل عليه استعبادنا فيما بعد. وإني أعتبر العمل الذي نقوم به في هذا المجمع والمجامع والموازية له هو السبيل الوحيد لكم الأفواه المتقولة وإبطال الدعاوى المتجنية. وكلما سرنا في هذا الطريق قربنا المسافة المبلغة إلى الغاية المطلوبة: فعلينا أن لا نلتفت إلى المشاغبين والمعوقين ولو بالرد عليهم، فإن أعظم رد هو هذه القوائم التي تقدمها مختلف لجان المجمع كل عام بمئات المصطلحات وعشرات المقررات. وإني لذلك لا أستحسن شغل الأساتذة الأعضاء بتناول الإشكالات والإيرادات التي يوجهها الخصوم إلى اللغة العربية، وجعلها الموضوع الأول للبحوث التي يقدمونها للمجمع: فكم من بحث لغوي أصيل يفوتنا باشتغالهم بهذه الموضوعات الممجوجة المملولة التي إنما يريد أصحابها بطرقها في كل مناسبة أن تتكرر من أجل أن تتقرر. ومن عادات السادات معادة المعادات. المصدر: عبد الله كنون؛ كتاب "أشذاء وأنداء"؛ ص 9 / 20؛ مطابع البوغاز؛ طنجة 1986. *ورقة ألقيت في مجمع اللغة العربية بالقاهرة الدورة 44 ربيع الثاني 1398 مارس 1978؛ بعنوان: "العربية أمس واليوم". نقلا عن منتدى إحياء للتنمية الأخلاقية والفكرية: http://ihyae.com/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%ad%d9%8a%d8%a9/