أرسل إلي عدد من الإخوة الأفاضل على اختلاف اهتماماتهم وأعمالهم؛ فمنهم الخطباء، ومنهم طلبة العلم والباحثون، ومنهم التجار، ومنهم أناس عاديون من النساء والرجال، قلت أرسلوا إلي شريطين مسجلين لإبداء رأيي فيهما، والشريطان هما لفضيلة الشيخ د. سعيد الكملي حفظه الله ونفع الله به، يتحدث فيهما عن حكم بيع حلي الذهب، وقد نقل حكم التحريم في بيع حلي الذهب بالتقسيط (المصارفة بالتعبير الدارجي المغربي)، وكذلك تحريم مبادلة حلي قديم بآخر جديد مع زيادة في المال، واستدل بنصوص شرعية عامة وذكر أن هذه الأحكام مجمع عليها. ولنا مع هذا الكلام وقفات علمية ومنهجية.. *الوقفة الأولى*: هل تحريم بيع حلي الذهب بالطريقة المذكورة مجمع عليه؟ اتفق الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله في المشهور عنهم على تحريم بيع حلي الذهب بآخر متفاضلا ومؤجلا، وعدّوا هذه المعاملة من قبيل الربا ، ونقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على ذلك، مثل حافظ المغرب ابن عبد البر والقاضي عياض والنووي وغيرهم. لكن في واقع الأمر أن هذا الإجماع المذكور على تحريم هذه المعاملة غير صحيح، فقد اختلف العلماء منذ عهد الصحابة في هذه المعالمة ، ووقع الخلاف بين العلماء المتقدمين، وكذلك من بعدهم من العلماء المتأخرين، وأيضا وقع الخلاف بين العلماء المعاصرين. وكنت أرجو أن يكون الشيخ الدكتور سعيد الكملي أكثر تحريرا ودقة حينما ينقل الإجماع المفيد للتحريم في هذه المسألة، لما لدليل الإجماع من سلطان وثقل من جهة، ومن جهة أخرى لما للقول بالتحريم من تداعيات على جمهور واسع من الناس وإدخال الضرر النفسي والمعنوي عليهم ، فما من بيت من بيوت المغاربة غالبا إلا وقد قام ببيع حلي الذهب ببعضه متفاضلا أو بالتقسيط، وكذلك إدخال الضرر المادي فضلا عن النفسي والمعنوي على تجار حلي الذهب والفضة والحرفيين، وهم بالكثرة التي يصعب حصرها في عدد معين ، فالوقوع في الحرام المجمع عليه ليس بالأمر الهين عند عامة المسلمين، فبله أن يكون في باب الربا الملعون صاحبه . ▪︎من قال بجواز بيع حلي الذهب متفاضلا أو مؤجلا: فمن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: معاوية بن أبي سفيان؛ فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ لمكان زيادة الصياغة. انظر الاستذكار لابن عبد البر (6/ 347)، و بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد (3/ 212)، والإقناع في مسائل الإجماع لابن قطان الفاسي (2/ 226) وغيرهم. طلحة بن عبيد الله، روي عنه أنه يرى جواز بيع الفضة بالذهب نسيئة، انظر مراتب الإجماع لابن حزم (ص: 84) عبد الله بن عباس؛ كان يرى جواز بيعه متفاضلا ولم ير به بأسا، وكان يأمر به. انظر المغني لابن قدامة (4/ 3)، وكذلك بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/ 211) . أسامة بن زيد، كان يرى جواز بيع الدرهم بالدرهمين حالا، أنظر معالم السنن (3/ 69) لأبي سليمان الخطابي . وقال الشوكاني في نيل الأوطار (5/ 227): "وروي مثل قولهما أي ابن عمر وابن عباس عن أسامة بن زيد، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، واستدلوا على جواز ربا الفضل بحديث أسامة عند الشيخين وغيرهما بلفظ: «إنما الربا في النسيئة»، زاد مسلم في رواية عن ابن عباس «لا ربا فيما كان يدا بيد» . ومن العلماء المتقدمين رحمة الله عليهم: الحسن البصري، وإبرهيم النخعي، والشعبي، وسفيان الثوري؛ فقد نقل عبد الرزاق في مصنفه (8/ 69)، وابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 285) أنهم كانوا لا يرون بأسا في ابتياع السيف فيه الحلية، والمنطقة، والخاتم، بأكثر أو أقل وزنه أو نسيئة . ومن العلماء المتأخرين رحمة الله عليهم: ابن تيمية؛ كان يرى جواز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة، سواء كان البيع حالاً أو مؤجلاً ما لم يقصد كونها ثمناً. انظر المستدرك على مجموع الفتاوى (4/ 17) والفتوى الكبرى الفتاوى (5/ 391) ابن قيم الجوزية؛ كان يرى أن المصوغ صياغة مباحة من الذهب والفضة من جنس عروض التجارة كالثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، فيجوز فيها التفاضل والتأجيل. انظر إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 108) وبعدها. ويعد ما كتبه ابن القيم من أنفس ما كتب في الموضوع. بعض الحنابلة؛ قال ابن قدامة: "قال أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين؛ أحدهما في مقابلة الخاتم، والثاني أجرة له". المغني (4/ 9). وقال المرداوي: "وعمَلُ النَّاسِ عليه" الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (12/ 19). ومن العلماء المعاصرين: ومن العلماء المعاصرين الذين ذهبوا إلى جواز بيع الذهب المصوغ متفاضلا الشيخ الدكتور سلمان العودة فك الله أسره، وله في ذلك بحث جيد، موجود على الشبكة العنكبوتية، ونسب القول بالجواز كذلك إلى الشيخ عبدالله بن منيع في ورقة قدمها للدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي. ومن العلماء الذين نقلوا الخلاف في المسألة: هذا، وممن نقل الخلاف في بيع حلي الذهب والفضة متفاضلا ونسيئة الإمام المحقق ابن العربي المعافري المالكي في كتابه القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، فقال رحمه الله: "فإن حكم الربا يتعلق بعين الذهب والفضة ولا خلاف فيه (عين الذهب والفضة وهو المضروب منهما أي الدينار والدرهم)، فإن كان حليًا فقد اختلف علماؤنا فيه هل تجري فيه أحكام الربا كلها كما تجري في الذهب والفضة أم لا؟" فنقل رحمه الله الخلاف في جريان أحكام الربا (وهي التفاضل والنسيئة) في حلي الذهب والفضة ونسبه إلى العلماء، وهل يريد بقوله: "علماؤنا" الخلاف العالي أم الخلاف داخل المذهب المالكي؟ الأظهر الأخير من جهة اللفظ، وكذلك يروى أن الإمام مالكا له رواية يقول فيها بجواز التفاضل في المضروب من الذهب والفضة إذا بيع بجنسه. وعلى كل حال فإن الشاهد من كلام ابن العربي محفوظ وهو وجود الخلاف بين الفقهاء في مسالة الباب. ☆خلاصة الوقفة الأولى: تحريم بيع حلي الذهب متفاضلا أو مؤجلا ليس فيه إجماع وإن ذكره بعض العلماء الكبار، فالمثبت للخلاف مقدم على النافي له، ومَن علِم حجة على من لم يعلم ، فقد وقع فيه خلاف قديما وحديثا، وهذا من أمارات الخلاف المعتبر؛ لأن استمراره في الأمة يفيد أن الأدلة التي تمسك بها كل فريق لم ترفع الخلاف لظنيتها وقوة المعارض. *الوقفة الثانية*: سبب الخلاف في بيع حلي الذهب والفضة لن يتردد باحث في أن سبب الخلاف في بيع حلي الذهب والفضة لا يعود إلى غياب النصوص الشرعية، فهي معلومة لدى العلماء جميعا مع الاتفاق على ثبوتها، وإنما سبب الخلاف في المسألة يعود إلى فهم المراد منها من حيث العموم أو الخصوص، وكذلك إلى تردد الحلي الذهب والفضة بين أصلين مختلفين، وأيضا إلى تعيين علة التحريم المستنبطة من الأحاديث النبوية المتعلقة ببيع الذهب والفضة، ذلك: 1 أن العلماء الذين قالوا بتعليل النهي الوارد في الأحاديث النبوية التي تتحدث عن بيع الذهب والفضة اختلفوا في علة التحريم أو علة الربا فيهما؛ فمنهم من قال بأن علة التحريم هو الوزن، وهو أضعف الأقوال؛ لأن القول به يلزم سريان الربا في الحديد والنحاس وفي كل موزون من المعادن. ومنهم من ذهب إلى أن علة التحريم هو غالبية الثمنية مع الجوهرية، فالعلة لدى أصحاب هذا القول مركبة من أمرين؛ من الذهب نفسه أو الفضة، إضافة أنهما أثمان تقوم بهما الأموال والسلع. ويلزم هذا القول أن لا تجري الربا في الفلوس المعدنية على قول، أو الأوراق المالية الحالية؛ لأنها وإن كانت أثمانا تقوم بها السلع والمتلفات فإنها ليست ذهبا ولا فضة، واعتماد هذا المذهب سيفضي بنا إلى القول بجواز بيع الأوراق المالية الحالية بجنسها بالزيادة وعدم اشتراط التقابض في المجلس، وهذا عين الربا الذي جاء الشرع بمنعه لما فيه من الظلم أو يفضي إليه. ومنهم من قال بأن علة التحريم هو مطلق الثمنية، فلم يعتبر معدن الذهب او الفضة بقدر ما اعتبر أنهما أثمان تقوم بها الأشياء والأموال، فهذا هو المعتبر لديه، والأخذ بهذا القول يقتضي سريان الربا في كل عملة تعارف عليها الناس وتبايعوا بها ولو كانت أوراقا مالية أو عملة الاكترونية كالبكتوين، فالحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، وهذا القول أعدل الأقوال والأنسب إلى روح الشريعة ومقاصدها، فتقع الربا فيما كان يقع في الدينار والدرهم تفاضلا ونسيئة. 2 أما عن تردد حلي الذهب والفضة بين أصلين مختلفين فهو أن الحلي يُقصد لذاته لأجل الزينة واللباس، وهو أصل مستقل بنفسه، بخلاف ما كان يُقصد لغيره لأجل أن تُقَوّم به السلع ويكون أثمانا لعروض التجارة كالدينار والدرهم والذي يمنع فيه التفاضل والنسيئة، وهذا أصل آخر مستقل بنفسه. فالحلي يتردد بين هذين الأصلين؛ باعتبار جوهره فهو من جنس الدينار أو الدرهم، وباعتبار القصد منه فهو عروض وسلع تقصد لذاتها . وقد لاحظ ابن رشد الحفيد تردد الحلي بين هذين الأصلين وصرح به في باب الزكاة، فقال في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/ 11): "والسبب في اختلافهم (أي في اختلاف وجوب الزكاة في الحلي والذي هو بين الجمهور والأحناف): تردد شَبَهِه (أي الحلي) بين العروض وبين التبر والفضة (أي المضروب )، اللتين المقصود منهما المعاملة في جميع الأشياء، فمن شبهه بالعروض التي المقصود منها المنافع أوّلا قال: ليس فيه زكاة، ومن شبهه بالتبر والفضة التي المقصود فيها المعاملة بها أوّلا قال: فيه الزكاة" اه. ولا شك أن تردد الحلي بين هذين الأصلين سيكون له كذلك أثر في أحكام بيعه في باب الصرف، وهو ما صرح به ابن العربي، فقال : "وهذا يستمد من بحر المقاصد؛ فإنه (أي الحلي) كان عيناً في أصله، فأخرجه القصد والصياغة إلى باب العروض، وعضد الشرع هذا الأصل عندنا وعند الشافعي بتعين حكم الشرع إيجاب الزكاة فيه فأسقطها في الحلي حين تغيرت هيئته وخرج عن الذهب والفضة في هيئتهما والمقصود بهما، وهذا الدليل لا غبار عليه"اه. فجعل ابن العربي للذهب والفضة هيئة بالأصل وقصدا، فأما هيئته هي التبر أو المضروب أي الدينار والدرهم، وأما القصد منهما أن تكونا أثمانا تراد لغيرها. والحلي بصياغته خرج عن هيئته الأصلية والتي هي التبر أو المضروب، وعن القصد من إيجاده والذي هو أن يكون رؤوسا للأثمان وقيما للمتلفات ، فإن الحلي يرغب فيه لذاته لأجل التزين والباس ولا يمكن أن يكون أبدا رؤوسا للأثمان وقيما للمتلفات . ومراد ابن العربي والله أعلم أنه لما أسقط الشرع وجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة وهو مذهب الجمهور لخروجها عن مقصود الأثمان فيقتضي القياس أن تستثنى الحلي من بعض الأحكام المتعلقة بالربا أو نستثنيها من باب الصرف باعتبار أن الحلي لما صيغ صياغة مباحة خرجت عن مقصود الأثمان، فهي تطلب لذاتها للتزين به بخلاف ما كان ثمنا للأشياء فإنما يطلب لغيره، وهذا القياس في معنى الأصل بنفي الفارق أو ما يسمى بالقياس الجلي كما قال ابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين. وبناء عليه، فالمناسبة التي أوجبت سقوط الزكاة في الحلي رغم وجود نصوص عامة توجب الزكاة في الذهب والفضة وهي خروجها عن مقصود الأثمان سيكون لها تأثير في أحكام بيع الحلي ولابد، وقد تفارق التبر أو الدينار والدرهم في أحكامه كلها أو بعضها. فكان من المناسب لمن ذهب إلى عدم وجوب الزكاة في الحلي وهو مذهب الجمهور أن يستثني الحلي من أحكام الصرف، وتأخذ الحلي أحكام عروض التجارة عند البيع ويجري عليها ما يجري على عروض التجارة من أحكام، فهذا هو الباب المناسب لها بعد تغير هيئتها الأصلية وتغير القصد منها، وهذا النظر كما قال ابن العربي رحمه الله لا غبار عليه، إلا إذا وجد معارض أقوى منه. 3 أما ما يعود إلى فهم المراد من الأحاديث النبوية المتعلقة ببيع الذهب والفضة من حيث العموم أو الخصوص فهي عند تأملها يمكن أن نصفها إلى صنفين باعتبار دلالتها: نصوص عامة؛ تشمل جميع أنواع الذهب والفضة من جهة العموم؛ التبر والمضروب والحلي ، وليس فيها نص محكم في الحلي بعينه، والعام هو ظني الدلالة كما هو مقرر في الأصول، وما ثبت من أحاديث تتعلق بالذهب المصوغ فله تأويل خاص بها في بابه، ونذكر من النصوص العامة حديثا واحدا ما نقرب به المراد: عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ … مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الآخِذُ وَالْمُعْطِى فِيهِ سَوَاءٌ». صحيح مسلم نصوص خاصة؛ ذكرت نوعا من أنواع الذهب والفضة، ومنها: حديث عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلاَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ»، صحيح مسلم . وكذلك حديث عبادة بن الصامت الذي أخرجه أبو داود والنسائي ، وجاء فيه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ – وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا – يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلاَ» فمن غلّب جانب العموم، حمل حديث عثمان بن عفان وحديث عبادة على أنه من باب ذكر أفراد الخاص ولا يراد به التخصيص، فيبقى حكم النهي في الذهب والفضة على عمومه في جميع أنواعه؛ عينه وتبره ومصوغه، والذي هو المشهور من مذاهب العلماء حتى نُقل الاتفاق عليه. ومن استثنى الحلي من عموم النهي حمل حديث أبي سعيد الخدري على أنه من العام الذي يراد به الخاص، فأطلق الشرع الذهب والفضة في بعض الأحاديث وهو يريد بهما العين ( الدينار والدرهم) كما في حديث عثمان أو العين والتبر كما في حديث عبادة بن الصامت فقط. قال ابن رجب في كتاب أحكام الخواتم (ص204 ): "وحُمل قوله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب والفضة بالفضة» على الدراهم دون المصاغ صياغة مباحة فإنه خرج عن دخوله في إطلاق الذهب والفضة وسار سلعة من السلع كالثياب ونحوها" اه. *الوقفة الثالثة*: الفقه الحقيقي رخصة من ثقة وتصحيح معاملة الناس إذا كان لها وجه معتبر مطلوب شرعا تسعى الوقفة الثالثة إلى الاقتراب من واقع الناس وحاجتهم، فإن ما احتاج إليه الناس وليس فيه ظلم على أحد لا يأتي الشرع بتحريمه، والفقه الحقيقي أو فقه النفس هو الرخصة من ثقة، وإلا فالتشديد كل يحسنه، ذلك؛ أن بيع حلي الذهب والفضة بالتقسيط جرى به معاملة الناس ، فلا تجد أسرة أو بيتا من البيوت المغاربة إلا وقد قام بهذه المعاملة إلا ما نذر ، وليست المسألة مقتصرة على أهل هذا الزمان، بل قد سبق النقل عن المرداوي (المتوفى: 885 ه) قوله في كتاب الإنصاف (12/ 19) : "وعمَلُ النَّاسِ عليه" ، فكانت تلك المعاملة منتشرة بين الناس في ذلك الزمان. ولكم أن تتساءلوا عن السبب الذي خالف فيه الناس حكما اتفق عليه جمهور العلماء، هل السبب هو مجرد الجهل بهذا الحكم أم شيء آخر؟ لا نجد ما بين أيدينا من تراث ما يدعم احتمال أن الجهل بحكم التحريم الذي قال به جمهور العلماء هو السبب، فهذا يبعد تصوره، والجواب الواقعي أن التطبيق العملي لمذهب الجمهور فيه من العسر أو التشديد على الناس دون مصلحة لهم تذكر ، بل فيه مضرة، وخصوصا نحن أمام معاملة مالية والتي الأصل فيها أنها معقولة المعنى، فهي ليست عبادة حيث لا يلتفت فيها إلى المعاني ، وما كان كذلك يصعب التزامه إذا لم يكن في تطبيقه جلب مصلحة ظاهرة أو دفع مفسدة ظاهرة ، ولهذا هجره الناس، وبيان ذلك: أنه على على مذهب الجمهور يلزم من احتاج إلى أن يشتري حليا من الذهب وليس لديه إلا عملة ذهبية كالدينار أن يبرم العقد بينه وبين صاحب الحلي وزنا بوزن؛ أي أن يكون وزن الحلي مساويا لوزن الدينار. ويقينا أن بائع الحلي لن يقبل بهذه الصفقة؛ لأن فيها غبنا له وضياعا لصنعته ومجهوده، فلا يبقى أمام الراغب في الحلي إلا أن يبيع عملته الذهبية بالفضة أو الدراهم إن وجد من يمده بذلك، وقد جرت العادة أن يتم الصرف بربح معين يضعف من القدرة الشرائية للعملة التي تم تحويلها بغيرها، ثم بعد ذلك يشتري بالدراهم التي قبضها مكان الدنانير الحلي الذي أراد، فإن لم يجد من يمده بدارهم فضية، فإما أن يتنازل عن حاجته من الحلي ويعود خائبا دون تحقيق رغبته المشروعة، وإما أن يلجأ إلى عقد الاستصناع، ويطلب من الصائغ أن يصيغ له حليا مثل الحلي الذي يراه أمامه مع زيادة وهي أجرة الصياغة، فآل الأمر إلى شراء حلي بأكثر من وزنه مع انتظار ومخاطرة معلومة في عقود الاستصناع دون مصلحة تذكر لا للبائع ولا للمشتري، مع أن الحلي الذي كان يريده هو متوفر وموجود يراه أمامه ولا داعي لاستصناعه، فلو أعطى ذهبا مع زيادة في الوزن لأجرة الصياغة والتي هي لابد منها لفرح المتعاقدان معاً وسلما من المخاطرة وزيادة في التكلفة. ومن الصور المعاصرة التي يظهر فيه تكلف مذهب الجمهور في مسألة الباب وتغليب جانب سد الذرائع، وأن التزامه يفضي بجعل الشريعة التي بهرت العقول حكمة وعدلا ومنزهة عن العبث إلى أن تكون رسما لا روح فيها وشكلا لا مضمون لها، هو ما يفتي به بعض علماء العصر الذين أخذوا بمذهب الجمهور أن من أراد أن يستبدل حليا جديدا بحلي آخر له قديم، فيأمرونه ببيع حليه أوّلا وقبض الثمن بالعُملة الورقية، ثم بعد ذلك يشتري ما يشاء من حلي، فيعيد الثمن الذي أخذه من التاجر لكي يسدد به ما عليه من ثمن للحلي الجديد، وكأنها لعبة بينهما، المهم هو المحافظة على الشكل دون مصلحة تذكر، ويمنعونه أن تتم الصفقة بخصم المبلغ مباشرة دون التزام هذا الشكل الذي لا فائدة منه، بل فيه مشقة ترفضها الفطر السليمة إذ يحرمون صاحب الحلي القديم من فرصة الاحتفاظ بحليه إذا وجد الحلي الجديد غير مناسب له في الثمن، أو لم يجد ما يعجبه، فإن الرجوع بالصفقة التي تمت لا يجوز عند من يقول بعدم خيار المجلس ومنهم المالكية. وهناك صور أخرى لا داعي للتفصيل فيها، ولكن على وجه الإجمال أن التزم مذهب الجمهور يفضي بالناس إما أن يقعوا في الحرج المنفي في الدين، أو أن يركبوا الحيل ليتجاوزوا بها رسم الشرع ويتحايلوا على ظاهره، وكلا الأمرين في الشرع مذموم . وأخيرا، لقد تقرر في الشريعة مبدأ سد الذرائع، إلا أن فتحها كذلك لَمن صميم الشرع ومقاصده كما قرره القرافي. والأمر إذا عمل به الناس وانتشر، فإن الفقيه بحق يجب عليه أن يفتح الذرائع ويجد له مسلكا شرعيا حتى يوافق الواقعُ الواجبَ، ولا يجعل الخصومة بينهما، يقول ابن سراج رحمه الله: "إذا جرى الناس على شيء وله مستند صحيح، وكان للإنسان مختار غيره ، فلا ينبغي له أن يحمل الناس على مختاره فيدخل عليهم شغبا في أنفسهم وحيرة في دينهم" اه أنظر فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (1/ 140)، وللقاضي عياض كلمة قريبة مما ذكر، فقد جاء في إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 289): "لا ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يحمل الناس على اجتهاده ومذهبه، وإنَّما يغيِّر منه ما اجتمع على إنكاره وإحداثه" اه، ومسألة بيع حلي الذهب أو الفضة متفاضلا أو نسيئة مما اختلف فيها العلماء قديما وحديثا، والأقرب إلى مقاصد الشرع جوازه، وقد أفتى بذلك علماء كبار، وجرى عليه عمل الناس، "فلأن نجعل لها مخرجا وتجري على نظام، وباسم الشريعة خير من تعصب لا فائدة منه سوى العزلة، وسقوط هيبة الإسلام، ونبذ أحكامه كليا". وقبل هذا كله وبعده، فالله تعالى أعلم بالصواب، فإن وُقفت إليه فالفضل لله وحده لا شريك له، وإن أخطأت فالله سبحانه ورسوله بريئان منه.