مُحال بل مستحيل أن نعتقد في من علّم المسلم أمر الخراءة وآداب التخلي عليه الصلاة والسلام، تركه للأعناق والأرزاق، والأعراض والأغراض الدنيوية بيد الأهواء وفي ملك النزوات تتجارى بها وفق نرجسية الأحلام ونعرات الأعلام وشعارات الأفمام وفسق الاستقسام بالأزلام… محال بل مستحيل أن نحجّر واسع هذا الدين، فنجعله أو نتماهى مع الطرح الذي يجعله أو يريد أن يجعله مفصولا عن الحياة، فيركنه كطقس كهنوتي بارد لا روح فيه، يحكمه قيد الزمان، وتتحكم فيه خصوصية المكان، ثم بعدهما وبعيد عنهما يكون مجرد عبث وحشو كلام، لتنطلق بعده النفوس المريضة والذوات الموبوءة مستأنسة بتيارات ونظريات وتدفقات معرفية وضعية يكر الخلق معهم من أجاج روافدها العكرة، ثم يتجشأ هذا الوالغ في مقام الاستدراك للحال بمقالة لأحد أئمتنا من المتأخرين مفادها قوله رحمه الله "من السياسة ترك السياسة". وإنما كان الترك حملا على مذهب الرجل وسيرته تركا آنيا لسياسة موغلة في الطمع والجشع مشبعة بالظلم واللصوصية والتلبس بما شهدت به الآية الكريمة تبرئة لمقام النبوة والمُلك السليماني العادل، وحصرا لموبقة الكفران في صف الجن وصنف طرائقهم من جنس الشيطان مصداقا لقوله تعالى: "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" في قياس وإسقاط يحيل على سمو الإسلام وترفعه وهيمنته على سائر الملل والأديان، كما هيمنة شريعته الغراء على حياة البشرية كلّها، في مقابل براءته التامة والمطلقة مما تلبس به صنف من السياسيين من الذين رفعوا أو ظلوا رافعين طيلة مسيرتهم النضالية نحو الكراسي السلطوية شعارات براقة كان ذروة سنامها جملة أو شعار: " الإسلام هو الحل"، فلما بلغوا ملتقى السعي إذا بهم صاروا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا هم ظلوا على عهدهم ورعين أتقياء، ولا هم صاروا في الوعد علمانيين خلصاء، وإنّما الذي علمناه ذوقا أن ذلك الشعار القديم انتقل فيه الإسلام من مقاربة الحل إلى نقيصة الذنب والمعرّة، وليس هذا من باب الرجم بالغيب، أو من قبيل الإلقاء الكلامي الصافق على عواهنه، وإنما هو ذوق واقتفاء مسير ووقفات على جنس زيف كذاب أشر. ولذلك لم نكن في هذه الوقفات الذوقية معشر مطففين، من الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ذلك أن ضوابط الجرح يجب أن تراعي القواعد الإنسانية التي يشوبها النقصان ولا تنفك تجربتها السلوكية على مناكب الأرض من صيغة المبالغة في إشارة لكثرة الخطأ عند الكل الخطّاء، فهذه أمور مرعية في غير منّ ولا تفضل متى ما رُوعي الإنصاف وترفعت الأنفس في تجرد وصلاح مقاصد وسلامة نيّات خدمة للحق ودفعا لشبهات الباطل والبهتان. وهذه حقيقة لا تحجب أخرى لها قواعدها ومسلماتها، فإن صغيرة الرجل الذي يُقتدى به كبيرة، وأن الاستواء منعدم في اطراد بين الذي يعلم والذي لا يعلم، وإنّما ملحظ التوجيه في هذه المتفاوتة هو تذييل يحيل على حقيقة أنهما متفاوتان كما في الدرجة في الدركة، فإن سجدة العالم أعظم في مقام الدرجة من سجدة العامي والمقلد، والأمر نفسه بالنظر إلى زلة العالم وزلة العامي المقلد فهما من جهة الدركة ليستا سيان، ولذلك كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار، وأن الإساءة إلى الخطّاء بلسان الحق محض إحسان إليه ونصح لا يخرج عن ضوابط الدعوة من حكمة وموعظة حسنة وجدال بالتي هي أحسن… ولذلك كنت وسأبقى في صف من رفعوا من عقيرة الاستنكار والملامة، وكادت خصومتهم أن تتحوّل إلى عداوة، وذلك بخصوص ما فعله على سبيل التمثيل لا الحصر النائب في حزب العدالة والتنمية، والعضو البارز في الجناح الدعوي "الإصلاح والتوحيد" السيد وزير التشغيل محمد يتيم، وإن كان هامش الاستنكار عندي يرجع عن نقطة انطلاق المستنكرين بخطوات، أي قبل نشر الصورة أو الخوض مع الخائضين في حقيقة أن الخطبة وعد بالزواج، وليست زواجا مكتمل الأركان تحل معه الخلوة ومعها السفر وما يلزم منهما من خواطر تهجم لتقودنا نحو التخمين أو التحقق القادح في سيرة الرجل الأسرية والاجتماعية والسياسية. نعم آثرت أن تكون نقطة الانطلاق عندي قبل الخوض في ما يترتب عن الفروق بين الخطبة والزواج، ذلك أن التأويل فرع عن التصحيح كما يقول الأصوليون، حيث ابتدأ مشوار الاستنكار لدي من الوقوف أولا مع السماح بعملية التدليك من طرف فتاة واستباحة أناملها لجسد رجل تربى في كنف الشبيبة الإسلامية، بل شابت دوائبه في الإصلاح والتوحيد -ونحن نحكم على الظاهر والله يتولى السرائر- وتشبع بحقائق شرعية كان منها المنع الجازم من مصافحة يد امرأة أجنبية، بله حقائق تحرم إرداف النظرة الأولى أختها الثانية، ولطالما حدثتنا خرجاتهم الدعوية التحذيرية حتى الأمس القريب عن كون جسد المرأة عورة لا يحل همسا ولمسا واستباحة نظر إلا لمحرم، كما حدثتنا عن أمور وأمور وعند ربها تلتقي الخصوم والشهود. هذا وإن كان من حقنا أن نستنكر مع المستنكرين، فإننا نقر أن الذي حرّكنا أو الذي يجب أن يحركنا هو شيء آخر أكيد أن له علاقة مع هذا التسفل الأخلاقي، غير أنه لم يستوعب كمية الضغط أو كل القوة النفسية التي دفعتنا إلى أن نركب موجة التسخط مع ثلة من مجموع المتسخطين، ذلك أن ثمة أمور على رأسها مدافعة الذين صادف هذا السلوك المشين في أنفسهم مزيجا من الهوى والشماتة ليس ضد الوزير يتيم فتلك قضية أخرى لها مطارح تصريف محيّنة الزمان ومكيّفة المكان، من الذين جعلوا الحادثة واهتبلوها فرصة لتصفية حساباتهم القديمة المتجددة مع الدين نفسه، سيما وقد كان القصف والجرح والتنكيل منصبا على الإسلام عينه، حيث عمد ويعمد الكثير من هؤلاء الرخويات في إطناب وفرط اتهام على توجيه أحكام الفشل الذريع وربط إفلاس التجربة الإسلامية زعما بقصور المرجعية الإسلامية وعوزها النصي، بل فراغ منظومتها التشريعية من نصوص ذات طبيعة قانونية وتنظيمية تضبط الإنسان المسلم في ميادين السياسة والاجتماع والتجارة والاقتصاد والتقاضي… وتلك تهمة قديمة متجددة، تحركها عين النوازع، بل تزيد من وقادة شبهتها أحداث وتجليات سلوكية يحسبون معها على الدين والمتدينين به كل صيحة، ولذلك كان من الفطنة تقييد التجربة الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، بقيد "الزعم" وذلك إيمانا منا بأن النسبة إلى هذا الدين هي نسبة توقيفية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، لها ضوابطها وشروطها ومئناتها، كما تجلياتها وتمظهراتها، بحيث متى ما تخلف شيء منها -أحدها أو جميعها- انخرم عقد النسبة وبطل الزعم والدعوى. ولعلنا نملك في مقام الدفاع والانتصار لحقيقة براءة الإسلام من تجربة هؤلاء أو أولئك، من الشواهد المحسوسة والملموسة ما نستطيع به سلب صفة الإسلامية عن هذه التجربة السياسية أو تلك، وقد لا يكون من هذه الشواهد ما له علاقة بما راكمه هؤلاء الإسلاميون في جانب حياتهم الخاصة والشخصية من موبقات وكبائر، فقد نضرب عنها صفحا لا تعففا، بالنظر إلى حجم المؤاخذات الثقيلة في درك الإخلال بكل شروط وضوابط تلك النسبة، من باب الشعائر أولا لا الشرائع. ففي عهد هذه التجربة المحسوبة تجوّزا عن الإسلام كمّمت أفمام الوعاظ والخطباء والعلماء، بل سرت أوامر التسريح والهدر في صفوفهم سريان النار في الهشيم، بالمقابل لاحظ الناس كيف أن الطقوس الشركية والسلوكات المنحرفة الشاذة قد انتشرت ونفخ في سلوكياتها الطابع الرسمي المرعي من الوزارة الوصية، حتى صارت لها مسمّيات محدثة كادت أن تلحق بالأركان الخمسة لإسلام الوحي فتحسب منه، مع أنها تعاديه في فصام نكد ولجوجة وحقد وكراهية… كل هذا وكثير مما لم يذكر ولو على سبيل الإجمال كنا بل ظللنا ننتظر في مدافعته حركة أو رد فعل إيجابي من على كرسي ناله أحدهم بحملة انتخابية كان قد رفع فيها بمعيّة شواكله وكوادر حزبه شعارا دينيا ووعدا أخلاقيا، انتظرنا حركة تمارس ولو ما قيل في حقه "وذلك أضعف الإيمان" في مقابل هذا النزيف العقدي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي والتجاري وحبل المعطوفات طويل الذيل عريض المنكبين، ولكننا كأيّها الناس لم نسمع للمقبورين في لجة السياسة والغارقين في مائها العكر قولا أو فعلا أو همسا أو ركزا… ولما كان الأمر كذلك شهدنا شهادة حق أن النسبة إلى الإسلام توقيفية، وهي شهادة مسكونة بهاجس الحرص على تنبيه الناس إلى بعض الأمور والدلالات، ثم ربطها بالغائيات النكدة التي تمتد بؤرتها من الماضي البعيد القريب راحلة إلى الحاضر مستشرفة الغلبة لأهلها من المترفين، وذلك في المستقبل الوشيك الوقوع زمنا لا فعلا أو حركة، ولذلك كانت شهادة لازمة ومن كتمها أو يكتمها فهو آثم قلبه. [email protected]