أثار اسمي المتواضع طالب من طلبتي الذين أعتز بهم، وذلك في سياق ما أثير مؤخرا حول الاقتراض لشراء أضحية العيد. وعلى كل حال لا أريد أن أعود إلى مسألة الاقتراض البنكي والاضطرار الشرعي لأنه سبق لي أن أوضحت وجهة نظري في هذا الموضوع الإشكالي منذ ما يزيد أو يقارب عقدا من الزمان، وذلك في كتابي الاقتراض البنكي والاضطرار الشرعي عام 2008م. كما لا أريد أن أنزل لأنازل من دعا المغاربة إلى شراء أضحية عيد الأضحى بناء على قرض حسن أو غير حسن. كما لا أريد أن أدلف إلى تقويم وتقييم المستوى العلمي والسلوك الأخلاقي الذي سار في ضوئه تلقي هذه الدعوة سواء في الموافقة والإقرار أو في المعاكسة والاستنكار. ما أريده هو أن أشير إلى أن هذه المسألة الإشكالية تحتاج من علمائنا مزيدا من الوضوح المنهجي المكلف. أعني إن موقف العالم الموضوعي فيها موقف ينبغي أن يتحلى فيه بمقادير معتبرة من الشجاعة الفكرية ومن الاستقامة الأخلاقية حتى يتمكن من تحمل التبعات العملية والعلمية للتناقض إما مع مجريات القوانين الجاري بها العمل، وإما مع ما استقر عند جمهور أو أغلبية فقهاء الوقت الراهن. قد يتناقض موقف العالم المسلم -الجدير بالانتساب إلى زمرة العلماء- مع المجريات القانونية الجاري بها العمل، بيان ذلك أنه لئن أبطل قانون العقود والالتزامات المغربي اشتراط الفائدة بين المسلمين في الفصل 870 فإنه في الفصول من 871 إلى 878 قبل مبدأ الفائدة مرة أخرى ونظمه فوضع له حدودا دنيا وأخرى قصوى. وقد يتناقض موقف هذا العالم مع رأي جمهور الفقهاء المعاصرين الذين يرون أن ما تقدمه البنوك المغربية من قروض هي قروض "ربوية" لأن فيها الزيادة على أصل الدين في مقابل الإمهال.. وإذا سلمنا بهذا الرأي الجمهوري فإن الأنسب أن يقال هو ارتفاع الإثم عن مرتكب هذه القروض بدليل عموم الخطاب الوارد في أمثال قوله تعالى: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه". لكن هل هناك "ضرورة شرعية" إلى الاقتراض البنكي أو غير البنكي من أجل شراء أضحية الأضحية؟ تلك مسألة أخرى نحتاج في تقديرها إلى تمهيد مقدمات وتأصيل أصول؟ يرى معظم فقهائنا رحمهم الله أن الضرورة هي خوف الضرر والهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل. إن من شأن الاستهداء بهذه الماهية أن يرشدنا بأنها بحسب تقديرهم غير منطبقة على المقترض من البنك العصري. فهو غير مضطر لأن المضطر هو من لا يجد ما يسد رمقه. والبنك لا يلبي طلب هذا المقترض إلا بعد تقديم الضمانات الكافية. ضمانات تفسر أن لدى المقترض ما يسد رمقه، ويفي بحاجته. ومن ثم فأين هي الضرورة؟ كما أن شروط الضرورة عند معظمهم ثلاثة: 1- أن يتحقق أو يغلب الظن بوجود خطر حقيقي على إحدى كليات النفس والمال والدين والعرض والعقل. 2- أن تكون الضرورة ملجئة بحيث يخاف هلاك نفسه أو قطع عضو من أعضائه. والمقترض من البنك لم يتعرض لشيء من ذلك. 3- ألا يجد المضطر طريقا إلى ذلك إلا المحظور. وهذا غير منطبق على المقترض من البنك. يقرر هؤلاء كل هذا، على الرغم من أن المتتبع لتاريخ الإفتاء الفقهي، القديم منه أو المعاصر، سرعان ما يلحظ استناد كثير من الفتاوى الفقهية على الضرورة التي كان مدى ونوع ومستوى مراعاة حضور هذه الشروط فيها في محل نظر وتأمل بل واعتراض. لا يسعنا إزاء هذه المفارقة إلا أن نذكر أنفسنا ونذكرهم في الوقت نفسه أن الخطاب الشرعي خطاب إلهي يتجه إلى نطاق الطاقة الجسدية، والوسع النفساني، والإمكان المالي، والاقتدار العقلي للكائن الإنساني لأن المسلمين بشر غير مكلفين بما يتعالى عن طاقاتهم الجسدية، وغير مخاطبين بما يتجاوز قدراتهم العقلية، وغير معنيين بما لا يتناغم مع قابليتهم النفسانية، وغير مساءلين بما لا يتسق مع إمكانياتهم المالية والاقتصادية. وعليه من المكابرة، بل ومن الظلم للإسلام نفسه، بعد الوعي الدقيق بحقيقة المقامات المقالية والحالية التي سيق فيها خطاب الاضطرار الشرعي كما في آيات الاضطرار حصر الاضطرار الإنساني والبشري في موضوع محدد دون غيره، ومن الضيق في الأفق حصر أسباب الاضطرار في سبب محدد هو فقط الذي نصت عليه آيات الاضطرار دون غيره. لا يخفى أن واقع ممارسة شعيرة أضحية العيد في المغرب الراهن واقع مركب يتشابك في بنيته ما هو ديني إسلامي محض بما هو اقتصادي محض، ويتداخل في إطاره ما هو نفساني محض بما هو اجتماعي أو سياسي. لقد تمكنت في ظل هذا الواقع جملة من التقالِيد، ومن فرط شدة ضغط واقعها المركب أن بعض الأفراد من مجتمعنا لم يستطع الانفكاك عن آثارها حتى اعتبر بعضنا ذبح الخروف "ضرورة" من ضرورات يوم عيد الأضحى، بل يكاد أن يكون أمرا متعذرا إقناع أبناء الأسرة بعدم لزُوم الأضحيَة لغير القادر على شرائها..، على الرغم من إدراك بعض أرباب الأسر المغربية لحكم هذه الشعيرة الدينية باعتبارها سنة مؤكدة عند جمهور فقهاء الإسلام بالنسبة للقادر على اقتنائها فإنه يعز على غير القادرين منهم حزن أطفالهم. ولهذا يسارع بعضهم إلى الاقتراض البنكي أو غير البنكي حتى يتمكنوا من الشراء، وبالتالي إدخال "فرحة الخروف" على قلوب هؤلاء الأطفال الصغار وغير الصغار على حد سواء. فهل إدخال السرور على نفوس هؤلاء ضرورة من الضرورات في الشريعة الإسلامية؟ وهل يعد حزن الأطفال على الأضحية وانشغال الكبار والمعوزين بها سببا من الأسباب المعتبرة في خطاب الاضطرار الشرعي؟ يبدو أن الأمر كذلك بالنسبة للبعض لأنه استسلم لواقع ما تعانيه بعض الأسر المغربية من ضيق ذات يدهم، وذلك ما يؤدي بأطفالهم إلى حزنهم على عدم شراء ربّ الأسرة أضحية العيد فرأى ما يمكن أن تتسرب إليهم من عقدة النقص…، وهذا ما قد يؤدي برب الأسرة إلى التفكير في نفسية عياله وزوجته. لذا لا يجب في نظر البعض "إغفال الجانب الاجتماعي المتعلق بفرح الأطفال بالكبش خصوصا إذا كان الجيران قد اشترى كل واحد منهم كبشا للأضحية، مما يؤثر على الأطفال وأمهم، وخصوصا إذا لم يجد الأب من يقرضه لشراء الأضحية، فهنا الضرورة تبيح المحظور ويجوز له (رب الأسرة) الاقتراض من البنك بقدر ما يشترى به الأضحية". والحق إن هذا التقدير في محل تأمل بل واعتراض لأننا يمكننا رده سواء فهمنا الضرورة بفهم حرفي أو فهمناها بفهم غير حرفي. إذا انطلقنا من فهم حرفي محدد للضرورة ممثلا في كونها حالة الهلاك والتلف التي تكون أسبابها المرض والجوع والإكراه الاعتقادي، فلا يمكن أن نعد ذلك ضرورة شرعية إسلامية تستدعي فعل الاقتراض البنكي أو غير البنكي. كما أننا إذا انطلقنا من فهم غير حرفي يجهد صاحبه في أن يكون منسجما مع ذاته وغير متناقض مع ما يقصده الشارع من خطاب الاضطرار في شريعته فلا يمكن أيضا أن نعتبر حزن الأطفال أو عدم حزنهم ضرورة شرعية إسلامية تقتضي الاقتراض البنكي أو غير البنكي. الضرورة الشرعية في هذا المقام تقتضي منا أن نحسن التصرف في ديننا وفي واقعنا وفي أن تكون لنا الجرأة المؤسسة فنخاطب أبناءنا وفلذات أكبادنا بالحقائق التي يكتنزها ديننا وشرعنا الإسلامي، الضرورة الشرعية تستلزم أيضا أن تكون لنا الجرأة المؤسسة فنعلمهم عمليا ونظريا كيف يعيشون واقعهم ويتطلعون في الوقت نفسه إلى واقع مأمول يتوقف الوصول إليه على العمل الراشد والمثابرة والجد والاجتهاد لأنه كما يقال ما ضاع حق وراءه مطالب. هذه هي الضرورة الشرعية التي ينبغي أن نربي أنفسنا عليها ونوجه أبناءنا وفلذات أكبادنا إليها. ليست الضرورة الشرعية أن نقفز على الحقائق الدينية الإسلامية، ومنها حقيقة عدم وجوب الأضحية وعدم سنيتها على غير القادر على اقتنائها. الضرورة الشرعية هي أن نبين لهم انطلاقا من واقع فقر أسرتهم أو غناها المادي وغير المادي سنن وقوانين النجاح والتغيير الهادف لأحوال واقعنا نحو الأفضل والمرجو. الضرورة الشرعية أن نشرك أولادنا في التدبير بطرق من الملاطفة السلمية وبأساليب من المحاورة الهادفة والهادئة في أمور تدبير دخولنا المدرسي والجامعي والمهني وما يتطلبه كل ذلك من مصاريف وأعباء. الضرورة الشرعية أن نعود أنفسنا وأسرنا على خلق الاستشارة. لقد سبق لإبراهيم عليه السلام أن استشار ولده إسماعيل في البلاء المبين ممثلا في ذبح ابنه إسماعيل وذلك في قوله تعالى: "فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم". ما كان من الأب والإبن إلا الاستسلام للأمر الإلهي، والاستسلام للأمر الإلهي لا يعني الاستسلام والرضوخ للواقع البشري، وإنما يعني أمرين أولهما قبوله من أجل فهم السنن التي ولدت معطياته، والثاني إعمال تلك السنن من أجل إيجاد معطيات واقع نرجوه ونستبشره في المستقبل. لماذا لا نعلم أولادنا -على سبيل المثال لا الحصر- الموازنة بين المندوبات والواجبات الدينية والاجتماعية فنقدم الواجب على المندوب عند عدم قدرتنا على الجمع بينهما؟ ولماذا لا نعلمهم ترتيب الأولويات فيقدمون الأوجب على الواجب ويقدمون الأهم على المهم؟ * أستاذ مقاصد الشريعة في جامعة القاضي عياض.