هوية بريس – فهد مولاطو بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله، أما بعد، فنزولا عند نصيحة بعض الأحبة، فقد قدمت هذا المقال قبل أن أكمل ما ابتدأته من سرد تاريخ جمع السنة، فهو جاهز و سأوفيكم إياه عن قريب إن شاء المولى. بعد العرض السريع الذي مر حول مراحل جمع السنة، سأحاول فيما يلي من الفقرات الرد على بعض الشبه التي يثيرها البعض حول السنة وما يتعلق بجمعها و تناقلها، مع الإشارة أن الشبه لا نهاية لها و لن تنقطع ما دام الدين قائما في هذه الدنيا. اعلم اولا ان كل هذه الشبه المثارة إن هي إلا بعض التشغيب المبني على: – قضايا عينية يتم تعميمها، كمن وجد أن في الرواة كذابين فقال إن كل الرواة كذلك او انا و لا يمكننا تمييز الكاذب من غيره، – تخرصات منبعها الهوى و وحي الشيطان، كمن قال أن هذه الأحاديث و الأسانيد مختلقة تأييدا للقوى السياسية التي كانت موجودة آنذاك من أمويين و عباسيين، و سياتيك الرد على هذا مستوفى إن شاء الله. فلنشرع في الردود، ▪ شبهة توقف بعض العلماء عن العمل ببعض الأحاديث توقف بعض العلماء عن العمل ببعض الأحاديث في مقابل حجج هي أقوى منها عندهم، كتف المالكية عن العمل بحديث خيار المجلس، أو الحنفية عن العمل بحديث المصراة، فيقول المشغب انا أوافق هولاء في هذا التوقف فيطعن في السنة كلها، رغم أن هؤلاء العلماء لم يتوقفوا عن العمل طعنا في السنن و إنما اتباعا للدليل الأقوى عندهم ان ترجح في تلك المسائل. ▪ شبهة أن السنة ليست من الدين فلا تشملها الكفالة الربانية بالحفظ إذا علمنا أن الله سبحانه أمرنا في كتابه بإطاعة نبيه و حذرنا من مخالفته، كما كلف سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبيين ما أنزل للناس و إنما كمل الدين بتبيينه عليه الصلاة و السلام، فإما أن بيانه بقي محفوظا أو أنه ضاع و نقص الدين و لم يصر محفوظا بل ناقصا، وأظن أن كل عاقل يدرك أن حفظ الذكر الذي تكفل به المولى عز و جل إنما الغاية منه العمل به و بما تبينا منه، و ليس حفظ ألفاظه فحسب، والسنة داخلة في الحفظ لفظا إن قلنا أنها من الذكر أو ضمنا إن قلنا أن بها تتحقق الغاية من حفظه و هو تبينه للعمل به، ثم من جهة أخرى كيف يأمرنا سبحانه باتباع الرسول و طاعته و أخذ ما آتى ثم لا يجعل لنا سبيلا إلى ذلك، و إنما كل السنن مشكوك فيها كما يزعم جل المستشرقين و أذنابهم، ألم يكن يعلم إذا و هو العليم الخبير أن السنن ستختلط بالكذب ثم لن يبقى هناك سبيل لتمييز الثابت منها و الساقط، كلا ما أمرنا سبحانه بالتحاكم إلى رسوله إلا و هو يعلم أنه سيهيئ لهذه الأمة ما يحفظ به عليها دينها و سنة نبيها، رجالا ضحوا بأعمارهم و أموالهم في سبيل حفظ السنة و جمعها و تمييز الثابت منها من غيره ابتغاء مرضاة الله و جهادا في سبيل نصرة دينه. ▪ شبهة أن في اتباع السنة اتباعا للظن يطعن البعض فيمن يتبع السنن بأنهم يتبعون الظن لأن الأحاديث تفيد الظن ما لم تكن متواترة، و قد نهينا في الكتاب عن اتباع الظن، و الجواب من وجوه، أولا: تعريف الظن بمعنى الاعتقاد الذي لم يبلغ درجة اليقين في مقابلة العلم تعريف حادث لا ينبغي حمل نصوص الكتاب و السنة عليه، فقد قال سبحانه في سورة الممتحنة "إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار"، فقد سمى سبحانه هذا الظن الراجح علما و أوجب اعتباره و العمل به رغم أنه ليس يقينيا بدليل قوله "الله أعلم بإيمانهن"، و كثير من الأحاديث بل جل ما ثبت منها يفيد درجة من العلم أقوى مما ثبت بهذا الامتحان فالعمل بموجبها أوكد و يمكن قلب هذه الشبهة على صاحبها بقول أن كل هذه الشبه التي يثيرها من يطعن في العمل بالسنة الثابتة، إن هي إلا حجج ظنية، فلا مجال لمعارضتها لما تواتر تواترا يقينيا جيلا بعد جيل من لدن رسول الله و صحابته إلى يوم الناس هذا، من توافق علماء الإسلام على العمل بالسنن القولية و الفعلية و التقريرية و تحكيمها في صغير الدين و كبيره ثانيا: أحاديث الآحاد تفيد الظن الراجح و قام الدليل بعمل رسول الله بها و كذا صحابته المنقول بالتواتر باعتبار هذا الظن الراجح و العمل بموجبه فوجب اتباعه ثالثا: الآيات جاءت بذم الظن المتبع في مقابلة الحق فقال تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا أي لا يقاومه و لا ينبغي أن يعارض الحق الثابت بناء على ظن غير متأكد، و ليس كل ظن مذموم ▪ شبهة الكذب خدمة للقوى السياسية المسيطرة زعم عديد من المستشرقين (على رأسهم شاخت) و من تبعهم من أذنابهم أن معظم الأحاديث النبوية إنما اختلقها الرواة اختلاقا إرضاء للحكام و تزلفا إليهم، و هذه شبهة لا تنطلي إلا على جاهل بسير المحدثين، و بتقواهم التي كانت تمنع أحدهم أن يبيع دينه بأموال الدنيا فضلا عن أن يبيعه بدنيا غيره. و إليك تفصيل ذلك مع كثير من الاقتضاب. أ. الكثير من الرواة ضعفوا بسبب التردد على الأمراء بله قبول العمل لهم أو المال منهم أو تولي القضاء لهم، و خذ أمثلة على ذلك، – عن ميمون بن مهران أن عبد الملك بن مروان قدم المدينة فبعث حاجبه إلى سعيد بن المسيب، فقال له: أجب أمير المؤمنين، قال: وما حاجته؟ قال: لتتحدث معه، فقال: لست من حُداثه، طبقات ابن سعد – وقال وهب بن منبه: "إن جمع المال، وغِشيان السلطان لا يُبقيان من حسنات المرء إلا كما يُبقي ذئبان جائعان ضاريان سقطا في حِظارٍ فيه غنم فباتا يجوسان حتى أصبحا"، بيان فضل العلم – وقال أبو قلابة لأيوب السختياني: "يا أيوب، احفظ عني ثلاث خصال: إياك وأبواب السلطان، وإياك ومجالسة أصحاب الأهواء، والزم سوقك فإن الغنى من العافية"، ابن عبد البر في فضل العلم – وقال عبد الله بن المبارك: "من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما موت يُذهب علمه، وإما ينسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه"، أبو نعيم في الحلية – وقال الفضيل : "كنا نتعلم اجتناب السلطان كما نتعلم سورة من القرآن"، البيهقي في الشعب – وقال سفيان الثوري: "إذا رأيت القارىء يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص، وإذا رأيته رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مراء، وإياك أن تخدع فيقال لك: ترد مظلمة، تدفع عن مظلوم، فإن هذه خدعة إبليس اتخذها القراء سُلمًا"، البيهقي في الشعب – وعن أبي شهاب عبد ربه قال، سمعت سفيان الثوري يقول: "إذا دعوك لتقرأ عليهم {قل هو الله أحد} فلا تأتهم". قلت لأبي شهاب: يعني السلاطين؟ قال: نعم، البيهقي في الشعب و أبو نعيم – وقال مالك بن أنس: "أدركت بضعة عشرة رجلاً من التابعين يقولون: لا تأتوهم ولا تأمروهم" يعني السلاطين، السيوطي في كتاب ما رواه الأساطين في عدم الدخول على السلاطين! – وبعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل البخاري أن احمل إليَّ كتاب الجامع والتاريخ لأسمع منك، فقال البخاري لرسوله: أنا لا أُذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلى شىء حاجة فاحضرني في مسجدي أو في داري، الخطيب في التاريخ و المزي في التهذيب – وقالوا: "شر الأمراء أبعدهم من العلماء، وشر العلماء أقربهم من الأمراء"، جامع فضل العلم ب. إن من كان يدخل على الأمراء منهم، و هم قلة قليلة، إنما لم يتهموا من الرواة الاخرين كونهم كانوا يردون عليهم و يأمرونهم بالمعروف و ينهونهم عن المنكر، و خذ أمثلة على ذلك، – نهى أبو هريرة مروان بن الحكم و كان واليا على المدينة عن بيع الصكاك لأجل الربا كما أخرجه مسلم – لما قدم هارون الرشيد المدينة ، وجه البرمكي إلى مالك ، وقال له : احمل إلىّ الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك ، فقال مالك للبرمكي: " أقرئه السلام وقل له: إن العلم يُزار ولا يزور". – جرت للقاضي عمر بن حبيب في مجلس الرشيد مسألة فتنازعها الخصوم ، وعلت الأصوات فيها ، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فدفع بعضٌ الحديث ، وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم : أبو هريرة متهم فيما يرويه ، وصرحوا بتكذيبه ، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ، ونصر قولهم ، فقلت أنا : الحديث صحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنظر إلي الرشيد نظر مغضب ، وانصرفت إلى منزلي ، فلم ألبث أن جاءني غلام فقال : أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول ، وتحنط وتكفن . فقلت : اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك ، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه ، وأدخلت على الرشيد ، وهو جالس على كرسي حاسراً ذراعيه ، بيده السيف ، وبين يديه النطع ، فلما بصر بي قال : يا عمر بن حبيب ، ما تلقاني أحد من الدفع والرد بمثل ما تلقيتني به وتجرأت علي ، فقلت يا أمير المؤمنين ، إن الذي قلته ودافعت عنه ، وملت إليه ، وجادلت عنه ازدراء على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعلى ما جاء به ، فإنه إذا كان أصحابه ورواة حديثه كذابين ، فالشريعة باطلة ، والفرائض والأحكام في الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والحدود ، مردودة غير مقبولة . فالله الله يا أمير المؤمنين أن تظن ذلك ، أو تصغي إليه ، وأنت أولى أن تغار لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الناس كلهم ، فلما سمع كلامي رجع إلى نفسه ثم قال : أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله ، أحييتني أحياك الله ، أحييتني أحياك الله "، تاريخ بغداد – و ها هو محمد بن شهاب الزهري يقف كالجبل أمام الخليفة هشام بن عبد الملك كما ذكر ذلك الذهبي في السير لما قال له : من الذي تولى كبره منهم ؟ فقال : هو عبد الله بن أبي ، قال : كذبت هو علي بن أبي طالب ، فقال الزهري : أنا اكذب ( لا أبا لك ) فو الله لو نادى مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت ، حدثني سعيد وعروة وعبيد وعلقمة بن وقاص عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي هذا و قد أضربنا عن ذكر من كان يعارضهم بالخروج عليهم او يحرض غيره على ذلك لما رأوه من ظلمهم، كمن خرج في المدينة قبل وقعة الحرة، و كسعيد بن جبير و الحسن و الشعبي و ابن أبي ليلى و مالك و غيرهم كثير. فانظر هل كان أحد من هؤلاء ليكذب على الله و رسوله لإرضاء أولائك الحكام و السلاطين، فيبيع دينه و آخرته بعرض الدنيا، علما أن الله جعل الكذب عليه كفرا في القرآن فقال تعالى "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوي للكافرين"، و الكذب على رسوله قرين الكذب عليه عز و جل لما فيه من تغيير الدين. ثم لو كان هذا واقعا و اعاذهم الله من ذلك، ففي سبيل ماذا، إن كان المال، فما علمنا أكثرهم إلا فقراء يرضون بالكفاف من العيش انشغالا بالعلم و خدمة الدين و إيثارا لما عند الله عز و جل من الثواب، و إن كان السلطة فقد سبق بيان فرارهم منها، فماذا إذن. ج. إن الكذب للتزلف للحكام و لخدمة أغراضهم لو كان واقعا من العلماء الموثقين الأمناء، لرأينا آثاره بارزة، فها هي الكتب الستة، فأين نجد ثناء على بني أمية أو بني العباس فيها، و أين هذه الأحاديث التي انطلت على العلماء فصححوها و فيها ثناء عليهم. هذا لا يعني أن الكذب لم يوجد لهذه الأغراض و إنما نعني أن هؤلاء الكذابين كانوا معروفين منبوذين متروكين كما هو الحال بالنسبة لمقاتل بن سليمان و غيره. ▪ شبهة اختلاط نصوص أهل الكتاب كالاسرائيليات بالسنة الصحيحة يهول بعض المغرضين بكثرة نقل الإسرائيليات في كتب الاسلام، و يوهم أنها اختلطت بنصوص الدين فلم يمكن تمييزها، و جوابه من وجوه أولا كثير من النصوص المستشكلة يعود استشكالها إلى عدم الإذعان لمعانيها بناء على اعتقاد مسبق لدى الناقد، فيذهب يتهم الروات بإقحام نصوص أهل الكتاب بناء على استشكاله، و هذا النوع من النقاد مشكلته مع نصوص الوحي عموما و ليست مع بعض نصوص السنة خصوصا، فلو صارح هؤلاء أنفسهم لاعترفوا و علموا انهم يستشكلون كثيرا من نصوص القرآن كذلك، ثانيا يكون غالب ما استشكل من النصوص غير ثابت فيكون ساقطا من أصله ثالثا ليس كل ما مع أهل الكتاب باطلا، بل معهم بعض الحق، كما أمر عليه الصلاة والسلام أن لا نصدقهم و لا نكذبهم إن حدثونا،فلا يضرنا اتباع الحق الذي جاءنا أن يوافقونا فيه رابعا كل الروايات من الصحابة عن التابعين لا تبلغ العشرين رواية و ليس فيها رواية مرفوعة عن كعب الأحبار أو وهب بن منبه، و إنما روى عنهم الصحابة بعض نصوص أهل الكتاب كصفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة فلا داعي للتهويل خامسا إن جل من يتهموهم بإقحام نصوص أهل الكتاب ككعب الأحبار و وهب بن منبه، قد صحبوا الصحابة كما صحب كعب الاحبار عمر رضي الله عنه، و لو كانوا متهمين في دينهم و إسلامهم لبينوا حالهم و لحذروا منهم، فها هو عمر ينفي نصرا من المدينة لقول امرأة فيه شعرا، أفتراه يخشى على عرض امرأة و لا يخشى على الدين من الاغترار ببعض الملبسين لو كان الأمر كما يزعم هؤلاء، بل كان عمر و الصحابة عموما أنصح لدين الله و أغير عليه منا و نشهد أن لو كان الأمر كذلك لحذروا الناس منهم و لما أهملوا هذا الواجب ▪ شبهة عدالة الصحابة يطعن المشككون في السنة في القاعدة المجمع عليها عند المحدثين أن الصحابة عدول أجمعون، فيقولون كيف و كان فيهم المنافقون الذين لم يكن يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في القرآن، ثم كيف نرى فيهم ما لم يكونوا يروه في أنفسهم حيث طعن بعضهم في بعض لا سيما زمن الفتنة، و فوق ذلك كله فهم بشر ليسوا معصومين من الخطأ، فهذه القاعدة إذن غفلة من علماء الحديث، هذه أدلتهم مجملا، و إليك الرد، فنقول، 1. إن الصحابة كانوا يعرفون المنافقين بصفاتهم و إن لم يكونوا يعرفونهم بأسمائهم، فقد فصل حالهم و صفاتهم الله سبحانه و تعالى في كتابه بما لا يدع مجالا للشك فيهم إلا من متغافل، و لا سيما بعد نزول سورة التوبة التي كانت كذلك تسمى المشقشقة و الفاضحة لفضحها للمنافقين، و انظر الى قول كعب بن مالك الصحابي الذي تخلف عن غزوة العسرة، فقال عمن بقي بالمدينة و لم يخرج للغزو مع رسول الله دون عذر : "فكنت إذا خرجت إلى الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء"، فانظر كيف كانوا معروفين عند الصحابة، و ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخبر أمين سره حذيفة بن اليمان بأسماء عدد منهم فكان عمر يرقبه إن صلى على الميت صلى عليه و الا اعتزل الصلاة لأن الميت قد يكون ممن سمى رسول الله لحذيفة. 2. قد سمي أهل السير والتاريخ جماعة من المنافقين لا يعرف عن أحد منهم أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الذين حدثوا كانوا معروفين بين الصحابة أنهم من خيارهم. 3. إن أهل العلم تدبروا ما نقل عن بعضهم من هفوات و مؤاخذات فوجدوه ما بين غير ثابت نقلا أو حكما أو زلة تيب منها أو كان لصاحبها تأويل. أما ما قد ينقل عن البعض من الترامي بالفسوق بمعنى ارتكاب بعض الكبائر، فقد كان بعض ذلك وعلم حكمه مما مر، وأما الترامي بالكفر فلم يثبت، بل الثابت خلافه، وعلى فرض أنه ثبت عن بعضهم كلمة يظهر منها ذاك المعنى فهي فلتة لسان عند ثورة غضب لا يجوز أخذها على ظاهرها لشذوذها ونفي جمهور الصحابة لما يزعمه ظاهرها. 4. إن القرآن جعل الكذب على الله كفرا، قال تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوي للكافرين) والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدين والغيب كذب على الله، ولهذا صرح بعض أهل العلم بأنه كفر، و اقتصر بعضهم على أنه من أكبر الكبائر. ووقوع الزلة أو الهفوة من الصحابي لا يسوغ احتمال وقوع الكفر منه. هب أن بعضهم لم يكن يرى الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كفرا، فإنه على كل حال، يراه أغلظ جداً من الزلات والهفوات المنقولة. 5. إن أئمة الحديث اعتمدوا فيمن يمكن التشكك في عدالته من الصحابة، اعتبارا لما ثبت أنهم حدثوا به عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي آخر عنه، وعرضوها على الكتاب والسنة وعلى رواية غيرهم مع ملاحظة أحوالهم وأهوائهم، فلم يجدوا من ذلك ما يوجب التهمة، بل وجدوا عامة ما رووه قد رواه غيرهم من الصحابة ممن لا تتجه إليه تهمة، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو ما يشهد له. 6. جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ)،رواه احمد، فهؤلاء القوم هم من نقل لنا الدين كتابا و سنة، و الطعن في نقلة الدين جملة يستلزم الطعن في الدين و بالتالي يصير غير محفوظ خلافا لما جاء في القرآن، و يلزم من عدم حفظه أن لا تكون لله حجة قائمة على عباده. انظر الى ما يستلزم هذا القول من الفساد، بل نقول أن الله عز و جل يعلم حيث يجعل رسالاته، و أنه اختار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم و ابتعثهم لصحبة نبيه و مؤازرته لتبليغ دينه للبشرية جمعاء، فضحوا في سبيل حفظ الدين و تبليغه بالمال و الاهل و المهج، و كانوا خير القرون كما ثبت عن رسول الله. 7. إن الصحابة عليهم رضوان الله كانوا أنصح لدين الله من أن يروا من يفتري الكذب على نبيه ثم لا يبينون حاله و لا يحذرون منه، فهم من قد هجر الأوطان و الأموال و عادى الآباء و العشيرة في سبيل نصرة الدين، و مع ما نقل عنهم من التثبت في قبول الأخبار المنقولة عن رسول الله، فلم ينقل عن أحد منهم بنقل ثابت و لله الحمد اتهام من بعضهم البعض في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و كذا لم ينقل عن أئمة هذا الشأن من فرسان المحدثين اتهام أي صحابي في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنهم كانوا لا يحابون في ذلك والدا و لا ولداكما مر، و هذا من لطف الله و حفظه عز و جل لدينه. هذا و لنختم مبحث عدالة الصحابة بالكلام عن صحابي جليل، هو رأس الرواة و قدوة الحفاظ، ألا و هو أبو هريرة رضي الله عنه. لقد كثر الكلام عليه رضي الله عنه، و كيلت له التهم، و احاول هنا انقل بعض المعلومات لعل البعض لا يعرفها عنه، و من أراد الاستزادة فعليه بكتب السير (راجع الأنوار الكاشفة للمعلمي ففيه تفصيل جيد، و قد استفدت منه كثيرا من الفوائد). – اختلف أهل العلم في سنة اسلامه، قيل عام هجرته أي اول سنة سبع أو أواخر سنة ست، و قال آخرون أن الراجح أنه أسلم قديما قبل الهجرة، على يد الطفيل بن عمرو الدوسي ( من نفس قبيلة أبي هريرة)، حيث جاء في الإصابة لابن حجر، عن ابن الكلبي ان الطفيل لما عاد إلى قومه، وذكر قصة سوطه ونوره قال: فدعا أبويه إلى الإسلام فأسلم أبوه ولم تسلم أمه، ودعا قومه فأجابه أبو هريرة وحده. للإشارة فالطفيل بن عمرو ممن أسلم مدة قبل الهجرة. – جاء في الفتح أنه لما هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبق له غلام و هو في الطريق (أي فر)، فاستأجر أبو هريرة نفسه من قوم مقابل ماله و محمله في الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. فلما بايع رسول الله، وجد غلامه فأعتقه لله عز وجل، انظر الى كرمه. – هجرة أبي هريرة اتفق المؤرخون أن أبا هريرة من المهاجرين إلى الله و رسوله، فقد هاجر إلى المدينة في نهاية سنة ست من الهجرة. فترك الأرض و الاهل. و هجرته الى رسول الله حال كون المسلمين قلة مستضعفين ترميهم العرب عن قوس واحدة لمن أكبر أدلة صدقه و إيمانه. و اذكر قول الله عز وجل "" و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه" – شهادة الصحابة له بالحفظ و الصدق و الأمانة: قال طلحة بن عبيد الله أحد المبشرين بالجنة لما سئل عن حديث أبي هريرة ( والله ما نشك انه قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا أقوياء أغنياء لنا بيوت وأهلون، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينا لا مال له ولا أهل وإنما كانت يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيث ما دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع) البداية لابن كثير حدث أبو أيوب – وهو من كبار الصحابة – عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له في ذلك فقال ( إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع ) ، المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، واقتصر الذهبي على أنه على شرط مسلم حدث أبو هريرة بحديث، فاستثبته ابن عمر فاستشهد أبو هريرة عائشة فشهدت، فقال أبو هريرة إنه لم يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودى ولا صفق الأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها. فقال ابن عمر: أنت يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه، المستدرك وقال صحيح، وأقره الذهبي كان أبو هريرة يحدث الناس في مسجد النبي بجوار حجرة عائشة رضي الله عنها وهي تسمع فإذا انتهى قال لها و هو في مجلسه "يا صاحبة الحجرة هل تنكرين علي شيئا مما أقول، فكانت تقول له لا إلا أن النبي لم يكن يسرد الحديث كسردكم"، أخرجه البخاري و مسلم. روى الأعمش عن أبي صالح أنه قيل لابن عمر: هل تنكر مما يحدث به أبو هريرة شيئا؟ فقال: لا، ولكنه اجترأ وجبنا، فقال أبو هريرة: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا، أخرجه أبو داود. وفي تهذيب التهذيب والإصابة «وقال ابن عمر: أبو هريرة خير مني وأعلم» زاد في الإصابة «بما يحدث» وفي الإصابة «أخرج مسدد من طريق عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله ابن عمر عن أبيه قال: كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال: إنا نعرف ما يقول، لكنا نجبن ويجترئ»وعاصم وأبوه ثقتان. وفي المستدرك من طريق جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى اله عليه وسلم فقال ابن عمر: أعيذك بالله أن تكون في شك مما يجئ به، ولكنه اجترأ وجبنا. و قد قدمنا لك القول أن ما نقل من اتهام بعض الصحابة له لا يثبت نقلا و لا عقلا، فأبو هريرة نفسه روى عنه جم من الصحابة منهم جابر و أنس و ابن عباس. بل يكفيه شهادة أنه روى عنه أكثر من ثمانمائة نفس من التابعين و من أبناء الصحابة، رواياتهم مبثوثة في دواوين الإسلام، و كلهم تطابقوا على حفظه و إتقانه و أمانته، فأي شهادة أقوى من هذه. – الصحابة يقدمونه في الفقه و الفتيا و القضاء أخرج مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن بكير بن عبد الله بن الأشج أنه أخبره عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري أنه ( كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر قال فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان ؟ فقال عبد الله بن الزبير إن هذا الأمر ما بلغ لنا فيه قول ، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما ثم آتنا فأخبرنا فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة ، فقال أبو هريرة الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره ، وقال ابن عباس مثل ذلك أيضا) انتهى، فانظر إلى قربه من عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها و أرضاها، و انظر الى تقديم ابن عباس له في الفتيا و ابن عباس هو من هو في العلم. و تذكر أنه كانت له حلقة في مسجد رسول الله قرب منبره كما قدمنا من قبل. قد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في فتوح البلدان للبلاذري و بطبيعة الحال كان يعلمهم ويفتيهم ويحدثهم. – بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم له الى البحرين مع العلاء بن الحضرمي جاء في الإصابة و البداية ان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وأوصاه به خيرا فاختار أن يكون مؤذنا. ثم رجع العلاء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما في فتوح البلدان ورجع معه أبو هريرة . – استعمال عمر له على البحرين سنة 20 أو نحوها اتفق المؤرخون أن عمر أرسل قدامة بن مظعون على إمارة البحرين وبعث معه أبا هريرة على الصلاة والقضاء ثم جرت لقدامة قضية معروفة فعزله عمر وولى أبا هريرة الإمارة أيضاً، فلاحظ أنه بعثه على القضاء رغم أن قدامة بن مظعون بدري من السابقين الأولين قال ابن كثير في البداية «قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال، أي عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكن عدو من عاداهما. فقال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نتجت وغلة رقيق لي وأعطية تتابعت علي، فنظروا، فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيراً منك. طلبه يوسف عليه السلام. فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة ابن أميمة، وأخشى ثلاثاً واثنين. قال عمر: فهلا قلت خمسة (؟) قال أخشى أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم، أو يضرب ظهري وينتزع مالي ويشتم عرضي؟، انتهى والسند بغاية الصحة فلا يهولنك قول عمر لأبي هريرة، فكانت من عادة عمر رضي الله عنه أن يقاسم عماله ما زاد من أموالهم من يوم توليتهم مبالغة في الاحتياط و النصح للمسلمين و هذا لم يكن خاصا بأبي هريرة، و الدليل الواضح الساطع على أمانته ثقة عمر به بتوليته اول مرة ثم إرادة توليته مرة أخرى ، و عمر هو من هو في التحري و الاحتياط و النصح للمسلمين، فلو كان أبو هريرة متهما عنده كما في بعض الروايات الساقطة، فوالله ما استعمله و لا ولاه على صغير و لا كبير. هذا قليل من كثير و من أراد الاستزادة فعليه بالإصابة أو غيرها من المطولات. هذا و لنختم المقال بكلمة عامة عن الحكمة القدرية من وجود مثل هذه الشبه. فنقول، إن الله تعالى لو أراد أن تكون آياته محكمة كلها لا مجال لمتأول مريض القلب أن يخوض في دلالاتها لفعل، لكن أبت حكمته في خلق هذه الدنيا دار بلاء و اختبار أن يكون الأمر كذلك. لأن آياته لو كانت كلها كذلك لكان الإيمان بها فيه شوبا من الالجاء المنافي للاختبار، و اسمع إلى قوله تعالى، "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله، و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا و ما يذكر الا اولوا الالباب"، وتدبر قوله تعالى "و ما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، و ما جعلنا عدتهم الا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب و يزداد الذين آمنوا إيمانا و لا يرتب الذين أوتوا الكتاب و المومنون، و ليقول الذين في قلوبهم مرض و الكافرون ماذا اراد الله بهذا مثلا " و تدبر قوله عز و جل،"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم، و أما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا "، و قول "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس و الشجرة الملعونة في القرآن" فمحب الحق و مؤثره لا تضره هذه الشبه، بل تزيده إيمانا و يقينا و تصديقا، و أما صاحب الهوى و محب الباطل فلا تزيده هذه الشبه إلا مرضا على مرضه و رجسا إلى رجسه، تماما كما بالنسبة للبلاء الحسي، حيث كان موقف المنافقين من محاصرة الاحزاب للمومنين في غزوة الخندق، بعد ان جاءوهم من فوقهم و من اسفل منهم، فقال المنافقون "وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا "، فكان ذاك الابتلاء مظهرا لما كانوا يضمرون من النفاق و لولاه لما ظهر، و قال المومنون عن نفس الموقف ما قصه تعلى عنهم " و لما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما، من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " فكما لو لم يوجد البلاء بالضراء و السراء لما تميز الصادق الثابت من الكاذب، فكذلك لو لم توجد الشبهات لما تميز محب الحق من متبع الهوى و محب الباطل، واذكر قوله عز من قائل، "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم"، فوجود شبهة الكذب في بعض رواة الحديث و شبهة عدم جمع السنة كما جمع القرآن جملة في عهد الصحابة إنما وقع لحكمة قدرية ربانية، ولله في غيرها من الشبه حكم قدرية بالغة، منها ابتلاء المومنين ليتميز و يظهر متبع الحق الواضح الأبلج من جهة، و متبع الباطل من جهة أخرى، و ليبتلي الله ما في الصدور و يمحص ما في القاوب، و لن يعدم هذان الفريقان من اتباع ما دامت الدنيا. ومن حكمه أيضا في تقدير ذلك فتح السبيل للعلماء للجهاد في سبيله بالحجة و الكلمة لرد هذه الشبه و دحضها. ومن تأمل هذا الباب رأى عجبا، و خذ بعض الأمثلة كي ينجلي لك هذا المعنى، فأنت تجد مثلا اليهودي و النصراني يحتجان بمثل آية "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليكم من ربكم"، و آية "و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" تاركين ما علم بالضرورة من الآيات الأخرى و التواتر الضروري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوجب على أهل الكتاب اتباعه وتجد الجبري يحتج بمثل آية "وما رميت إذ رميت و لكن الله رمى" فينكر أن يكون للعبد فعل و إنما هي أفعال الله و لا قدرة للعبد في فعله، متأولا كل الآيات بل و الضرورة المحسوسة بل الحكمة نفسها من هذه الدنيا التي هي الاختبار حيث لا تتم إلا بالتمكين من الاختيار والعمل وتجد الذين يدعون إلى بناء المساجد على القبور يستدلون بآية " قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا "، كما قصه الله عز و جل عن قوم جبارين لا نعرفهم، و يتركون ما يكاد يتواتر عن رسوله من نهيه صلى الله عليه و سلم عن ذلك و تحذيره منه، كما نقل عن ابن عباس و عائشة و ابن مسعود و جندب و أبي هريرة في البخاري و مسلم و غيرها من دواوين الإسلام والأمثلة في ذلك أكثر من أن تحصى، هذا و تجدر الإشارة أن هذا الميل و الإيثار للباطل قد لا يشعر به أكثر متبعيه، بل قد يرى دليله قويا و حجته دامغة، كما قال عز و جل عنهم، "ألا إنهم هم السفهاء و لكن لا يعلمون"، "و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون"، " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا "، "و نقلب أفئدتهم و ابصارهم كما لم يومنوا به أول مرة و نذرهم في طغيانهم يعمهون " و الآيات في هذا أكثر من أن تحصى، وهذا الإضلال من أشد العقوبات، حيث لا يوفق أهله لإدراك الحق و اتباعه جزاء لهم على حبهم للباطل و إيثارهم له، و هم مع ذلك لا يدرون أنهم ليسوا على شيء. ومن فهم هذا حق الفهم أدرك أهمية سورة الفاتحة التي يجب قراءتها في كل ركعة حيث فيها سؤال الهداية التي أولها يكون بإدراك الحق ثم باتباعه ثانيا، و ادرك أهمية دعاء المومنين "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، وهذا الداء العضال من ترك الحق و اتباع الشبه، لا دواء له إلا صدق اللجوء إلى الله كما كان يفعل سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام في دعائه عند قيام الليل "اللهم رب جبرائيل و ميكائيل و اسرافيل فاطر السماوات والأرض انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيما يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك انك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"، فكان و هو من هو بأبي هو و أمي يقول اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم من أحسن الدواء الخوف من المولى عز و جل حيث خص من يخشاه بالانتفاع بآياته في غير ما آية، فقال "ولقد تركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم" وقال "فذكر بالقرآن من يخاف وعيد" وقال "سيذكر من يخشى" وقال "إن في ذلك لعبرة لمن يخشى"، فها هؤلاء بالاعتبار و الانتفاع من آياته فالخوف يقهر الهوى، فيظهر الحق جليا للقلب بعد ذلك، واعتبر بالذين اذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، والذين لما رأوا بأسه قالوا آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين، وهذا باب جليل من أبواب السلوك والرقاق، و لعل في الإشارة التي سقنا كفاية، والحمد لله رب العالمين.