هوية بريس – محمد بوقنطار لست في حاجة إلى تسمية الصاحب بمسماه، ذلك أن ما يخوض فيه ليس بدعا من الخوض، بل هو خوض أكبر من أن ينطلق من وِتر ذات أو شفع تسمية، فهو تيار واتجاه وهالة ما فتئت تدندن نفس الدندنة وتعزف على نفس الوتر وتلوك عين الشريط المشروخ الذي أخذته بالسند المتصل عن أعلام وأحلام الاستشراق ومحركات الأفكار التي تسوق المنهزمين سوق الأنعام بل أشد… كتب صاحبنا منتشيا في انبهار متيما في افتتان بما وصل إليه الغرب من مظاهر اعتناء ورعاية بمدنيته، والحقيقة أنه كان سخيا في ثنائه وحمده ورضاه على كل ملة ونحلة ممن خلت على حد قوله من كل ما يخدش العين ويملؤها بالقذى والعوار، مستوعبا في وصفه الحيطان والأزقة والشوارع والساحات والحدائق والأنفاق، متجاوزا متعديا في ثنائه وحمده ورضاه أوربا الغربية والشرقية إلى آسيا البوذية والكنفوشيوسية والزرادشتية والمزدكية… وصاحبنا هذا لم يشذ عن الذين اطردت عندهم قواعد الانحياز وماتت في جوفهم معالم الإنصاف وأصول التجرد، وما أكثر هذا الصنف وما أسرع تهافت فكره وانبطاح معتقده، إنهم بهذه الحيدة والذوبان في زوبعة فنجانها إنما يشخصون أدوارا أنيط بهم تمثيلها، ولكنهم بعد طول أمد التشخيص انقلب التمثيل عندهم إلى حقيقة قد نقشت أطوارها متجاوزة الجنان إلى ممالأة اللسان وكسب البنان، فكان التجلي مليئا بأنفاس الحقد والبغض والتكالب والتداعي على ما فيه ريح إسلام وشوب عروبة. وصاحبنا ليس ذاتا فتسهل المدافعة، وإنما هو حالة ترى لها مستنسخات على طول جغرافيا الإسلام وظهراني المسلمين، يتغير الوصف والإخبار والسرد والشكوى في دائرة التشخيص والتناوب على الأدوار، بينما يظل المقصد واحدا وحيدا هو فن افتعال ضجيج التهمة وإلصاق كل خارم بالإسلام والمسلمين أرضا وعرضا وعقيدة وفكرا… ذلك الدين وأولئك المتدينون الذين يعادون الحياة وأنوارها، ويوثرون العيش في ظلام الغيب وموت القلب، يحملون سيف التراث وسوط الميراث الماضوي في وجه الجمال والكمال والرفاه والرخاء الحداثي، بل يئدون آدمية الناس في جبانة الحزن وسحيق هوة قيدي الحلال والحرام… الناس على حد تعبير الصاحب وشواكله استطاعوا أن ينفذوا من أقطار السماوات والأرض وفقهاء الظلام لا يزالون يعيشون في حضيض ضعفهم وكبير غيهم وضلالهم، حريصون كل الحرص على أن يتحكموا في خطى المشي إلى الأمام مقيدون للسعي حتى في الدخول إلى الكنيف والخروج منه، يفرضون على الناس ألوانا فاقعة من جنون الماضي، فيلوثون به الحاضر ويخدرون به المستقبل… إن فقهاء الظلام يقودون الإنسانية إلى مقصد وحيد لا تكون فيه ومعه الحياة الدنيا هي أكبر الهم ولا مبلغ العلم، ولا تكون الحياة هي ذلك الفضاء الذي تنفلت في مناخه الشهوات وتتحرر النزوات من معقل وقيد ومكرهة الحلال والحرام… وجدير بالذكر الالتفات إلى هذا الحشر الذي دأب صاحبنا ومن هم على شاكلته العزف على سمفونيته المنغومة اللحن العمدية الإذن، إنه الحشر الذي يتعمد فيه هؤلاء جر الفقهاء بقيد الظلام إلى مناطات كل سياق يحكم معناه الضعف والوهن والمذلة والاستصغار، فأنّى حطت ركائب هذا النوع من الكلام وحيثما أناخت مطاياه حشر الفقهاء بقيد الظلام ليترادف على ظهورهم وقع سياط التحامل وسلق الألسنة الحداد الأشحة على الخير، أسمال من التهم الجاهزة فصلت على المقاس، بل شذت عن القياس لتكون فضفاضة تتسع لكل نبز وهذيان مترف زائف حائف حاقد ناقم يحسب علينا كل صيحة… حل الظلام واستعاذ الناس من شر غاسقه إذا وقب فهم الأشرار ودينهم مسبب لكل الشرور. عمّ الجهل وساد الغباء وانتشر الوباء فهم سببه ودينهم مسببه. اشتكى الناس من كثرة الهرج وسلط على الأعناق الذل والهوان واستحكمت الفوضى فهم سببها ودينهم مسببها. غاب العدل واندرس الفضل وشح الزرع وجف الضرع وصار الماء غورا فهم السبب ودينهم المسبب. حلّ الاستعباد وساد الاستبداد وجار القوي على الضعيف وكثر الظلم بين الناس فهم سببه ودينهم مسببه. تسفل الناس في نقائص الفساد والبغي والعتو وأخذت النواصي عزة بإثم الكبر والعظمة فهم السبب ودينهم المسبب. استحكمت الرشاوى في رقبة العدل، وأخذ القاضي على يد المظلوم نصرة للظالم كان المسلمون في قائمة المتهم الأول وكان دينهم الأفيون الذي تناسلت وتتناسل من أحكامه كل هذه الموبقات المهلكات. سافر الناس في الضوء بعيد وابتعدوا عنا فراسخ ضوئية، وأمسينا نحن في ظلمات بعضها مركوم فوق بعض كان المسلمون هم السبب ودينهم ولغتهم هما المسبب. وقد لا يكون لهذه العوارض حد متى ما آثرنا الاسترسال مع كومها الضارب في الطول والعرض، فقد صارت للقوم دربة واحترافية في تسليط اللسان ومحبور البنان على كل ما فيه ريح إسلام ونسمة عروبة وشوب لسان عربي مبين. يا ليت صاحبي جانب التطفيف وتجشأ عناء مكابدة روح الإنصاف وحمل أمانة التجرد، وقلمه يتماهى مع تلك المعطوفات الشاكرة الراضية المنبهرة في حمد وثناء على ما وصلت إليه آسيا البوذية والكونفشيوسية والزرادشتية والمزدكية، فعطف ولو بتعريج عارض على ذكر ما وصلت إليه دول إسلامية تقع في عمق آسيا تكاد أبراجها العالية تطل عليه وهو يحرر مقاله، وهل غاب عليه ما وصلت إليه ماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا من تقدم صناعي مزكى ومعبأ في قالب أخلاقي لا تضاهيه أوربا الغربية والشرقية ولا دول آسيا بمللها ونحلها الآثمة والتي حرص على أن يجعل لقيدها حضورا ومناسبة، ويبقى السؤال مركونا في حضنه مستفهما عن سبب ضربه صفحا عن هذا التعريج الموضوعي ولو بشكل عارض؟؟؟ يا ليت صاحبي عرّج ولو بالعطف الخفيف الظل على ذكر تلك الشواهد الحية التي تحكي عن صدق تلك الحركة العظيمة من البناء والتشييد وبراعة فن العمارة في الأبنية الدينية والمدنية، والتي اصطبغت بها القصور والدور والمساجد والقناطر والحدائق إبان الحكم الإسلامي لبلاد الأندلس، وها هي أعيانها وآثارها قائمة على عروشها تحكي سبق المسلمين والإسلام إلى عمارة الأرض بما يملأ العين ويردها عامرة بأحاسيس الفخر وتلمس قيمة ومكانة الانتساب إلى هذه الأمة الموصولة بالله. يا ليت صاحبي وهو يصف لنا أزقة أوربا وشوارعها النقية كانت له الجرعة الوافية من الصدق ليصف لنا كيف أن أشهر حي للدعارة في العالم ونعني به حي الأضواء الحمراء كما يطلق عليه يبدأ من أمام أشهر كنيسة في أمستردام، بل يضع بكل جرأة أمام بوابتها الرئيسية تمثالا من البرونز لعاهرة مكتوب تحتها "الجميلة…دعوة لاحترام هؤلاء السيدات اللاتي يقمن بعملهن"، وكيف أن أجراس الكنائس تدق على رأس كل ساعة، فيتزامن هذا الدق "المقدس" مع ذلك العمل البائس المدنس. يا ليت صاحبي وهو يخوض في معهود الخوض تحدث لنا عن أرقام الجريمة وعدد المجرمين وكمِّ ضحايا اللصوصية والاغتصاب والسطو المسلح وجرائم الأطفال وقتل المحارم من الأصول هناك، بل تحدث في غير استفاضة عن الارتفاع المهول في صفوف المنتحرين الذين يئسوا من العيش في سراب ما حسبه الظمآن المهووس بمدنية الرجل الأبيض ماء زلالا، وهل صعب عليه وهو الباحث عن الحق أن يفتح قوائم هذه الأرقام وهي المبثوثة في كل منتدى وموقع وقائمة إحصاء قبل أن يستهل مقاله؟؟؟ يا ليت صاحبي جمع بين الاسترسال والاستدراك فحدثنا مستدركا عن سجل الغرب وآسيا الوثنية في معاملاتها للآخرين وخاصة المسلمين منهم، قديما مما حوته بطون كتب التاريخ وأسفار الإنسانية، وحديثا مما جادت به علينا وسائل الإعلام غض الصورة نتن الريح طري المشهد حانق الصوت، وهل يستساغ للناس أنه لم ير ولم يسمع ولم يشم ريح تلك المآسي التي أريقت فيها دماؤنا بغزارة والتهمت أعراضنا بنهم وبربرية وسفالة، بل بيعت لحومنا مقطعة محنوذة في أسواق آسيا الهندوسية والبوذية لتؤكل بسادية لم يعرف التاريخ أسوأ منها، أم أن التطفيف والحقد الغائر في الصدور حمله على تجسيد هذه الأثرة الباغية فصوّرها بسطور منمقة تفرض علينا الإثم في ثوب الشرف وتبرز وحشية وتكالب الغرب في سيرة القتل الوديع المأمون الجزاء المبتسر في تلك الحيطان والشوارع والحدائق الجميلة. يا ليت صاحبي وضع يده على مكمن الأسباب والمسببات التي جعلت الشوارع نقية هناك وليست هي هنا كذلك، يا ليته فتح باب العود على ما جعلنا على الحق والصدق في ذيل الأمم نسترزق الدواء والغداء والاستقواء من موائد اللصوص الأشرار… ولكن: ما أبعد الشقة وما أعز الإنصاف وأصعب التجرد في جوف المطففين، الذين يأكلونا من خيرها وينقلبون على خيريتها منيبين لغيرها ممن جاء ذكره بين ثنايا المقال من النحل والملل غير ملة الإسلام. وما أثقل العدل عندما يتسيّد الهوى فيحكم على الناس بالمناخيل الضيقة الملأى بشنآن القلة الذي تنوء بحمل تهمته جماهير المسلمين. وما أعدل قول الله جل جلاله -أمرا ونهيا وتوصية-: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون" المائدة 8. [email protected]