هوية بريس – د. البشير عصام المراكشي الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه. يقول هنري برجسون (والترجمة لي)([1]): (نجد في الماضي -وحتى اليوم أيضا- مجتمعات إنسانية ليس لها علوم، ولا فن، ولا فلسفة. ولكن لم يوجد قط مجتمع دون دين). نعم.. الدين هو الأصل.. والإيمان بوجود الله -وهو أول مدارج الدين- هو الأساس الذي صاحب الإنسانية في تاريخها الطويل، لأنه مقتضى الفطرة، وثمرة الاستدلال العقلي السليم. أما الإلحاد فمرض طارئ على الإنسانية، بدأ -كما تبدأ الأمراض كلها- صغيرا محصورا، ثم انتشر في أجزاء الجسد الإنساني جميعها.. ولأنه طارئ مخالف للأصل، وجب علينا أن نبحث عن أسبابه، فالأصل لا يُبحث في علة وجوده، وإنما يبحث عن علة انعدامه – متى انعدم! وقد كنت أقول في مناسبات متفرقة: "الإلحاد ثلاثة أصناف: فلسفي وعلمي وشهواني". وأقصد بالإلحاد الفلسفي، ذاك الذي يستند إلى تأصيلات فلسفية نظرية، سيأتي -إن شاء الله تعالى- عرضُها في سياقها التاريخي، مع مناقشتها بما يتيسر. وأقصد بالإلحاد العلمي، ذاك الذي يعتمد على نظريات علمية، سواء أكانت في مجال العلوم الإنسانية كنظرية التحليل النفسي الفرويدية ونظريات التدين عند رواد علم الاجتماع مثل كونت ودوركايم؛ أو كانت في مجال العلوم الكونية كالداروينية في علوم الأحياء أو كنظرية الأكوان المتعددة في علوم الفيزياء. وقد مضى ذلك الزمن الذي كان أرسطو يعلن فيه أن "الفلسفة أم العلوم"، وانفصلت علوم كثيرة عن جسد الفلسفة، ليبقى مفهوم الفلسفة منحصرا في بحث إشكالات المعرفة والأخلاق، والإجابة عن أسئلة الوجود والحياة، وبحث الحاضر في شق اللامفكر فيه – كما يقول ميشيل فوكو. ولذلك فإن هذه العلوم المتولّدة عن الفلسفة صار لها وجود مستقل، مكّنها في بيئات معينة أن تكون مستنَدا لتقرير مفاهيم خارج اختصاصها الأصلي، كالتدين والإلحاد. ولا ينبغي الاغترار بمصطلح العلمية الذي نسبتُ إليه هذا النوع من الإلحاد، فليس ذلك مدحا في ذاته، وذلك لسببين: الأول: أنني -خلافا للعلمويين المنبهرين بالعلم، والمؤمنين بامتلاك العلم الحديث للحقيقة المطلقة التي لا مجال للتشكيك فيها- أعرف للعلم مكانته، وأرفض أن أزعم له القدرة الخارقة على تفسير كل شيء، وأن أجعله الحكم في كل نقاش وجودي أو مجتمعي. والثاني: أن مجرد الانتساب للعلم لا يكفي في تحقيق العلمية، ما لم تتوفر معايير هذا الانتساب! وقد دخل العلمُ -منذ زمن وفي شق مهم منه- في متاهات الآراء المسبقة، والأفكار الذاتية، التي تُستدعى النظرية العلمية لتعزيزها وتبكيت المخالف بها؛ مما ألحقه في بعض جوانبه بالتنظير الفلسفي، وإن كان متدثرا بلبوس العلم، ورافعا شعار المنهجية العلمية الصارمة (أستحضر هنا تمثيلا لا حصرا: فلسفة فرويد المسماة تحليلا نفسيا، ونظرية الأكوان المتعددة). ولعل لبسط هذا البحث موضعا آخر. وأقصد بالإلحاد الشهواني، ذاك الذي ينشأ من مخالفة للدين السائد، بسبب غلبة الشهوة، والعجز عن الالتزام بقيود الدين الأخلاقية. ومع الجهل بمراتب الأعمال، ومنزلة المعصية في المنظومة الدينية (في الإسلام: لا يخرج المذنب -بما دون الشرك- عن الدين بارتكابه الذنب)، فإن العاصي يرى في فعله مناقضةً لاعتقاده! ولأنه لا يستطيع التخلي عن الفعل، لأن هوى النفس وشهوة الجسد يمنعانه من ذلك، فإنه يلجأ إلى التخلي عن الاعتقاد، بتبني الشك ثم الإلحاد. وهو في كثير من الأحيان، يغلف إلحاده بسؤالات فلسفية أو تشكيكات علمية. لكن الحقيقة، أنه ما به إلا الشهوة الطافحة، مع الجهل بمعاني التوبة والتكفير عن الذنب من داخل المرجعية الدينية. وإذا علمنا هذه الأقسام الثلاثة، فإنني كنت أقول -من باب الدعابة التي لا تخلو من خلفية جدية تشتمل على جزء كبير من الصحة-: "الإلحاد الفلسفي فرنسي، والإلحاد العلمي أمريكي، والإلحاد الشهواني لدينا نحن!". وتفسير ذلك أن الفرنسسين متأخرون نسبيا في مجالات العلوم الحديثة، وهم بالمقابل ورثة تاريخ فلسفي عريق، تأكد في العقود الأخيرة بإسهام فلسفي ضخم (يجمعها بعض الأمريكيين تحت لقب "النظرية الفرنسية – French theory"، ومن أقطابها: دريدا، فوكو، ألتوسير، بودريار، دولوز إلخ). والأمريكيون بالمقابل متقدمون نسبيا في مجالات العلوم الكونية، كما أن لعلماء اللاهوت الديني في أمريكا سطوة وانفتاحا إعلاميا مكنهم من وقفات ناجحة أمام النظريات الإلحادية الفلسفية. ولذلك فالحوار الحقيقي للمتدينين اليوم في أمريكا هو ضد "ملاحدة العلم"، مثل: ريتشارد دوكينز وكريستوفر هيتشينز وسام هاريس ودانييل دانيت. وأما في بلداننا: فالنخبة الإلحادية عالة على الغرب في الفلسفة والعلم معًا، وغيرُ النخبة غارقةٌ في الكسل المعرفي وطمأنينة الجهل؛ ولذلك فليس للمبتدئ في الإلحاد إلا التمسك بهرمونات الشهوة والاستناد إلى التأصيلات المسروقة من بيئة خارجية! وإذا تجاوزنا هذا التقسيم الابتدائي، فإننا نقرر أن أسبابَ الإلحاد متنوعة ومتشابكة وكثيرة. [1] -Henri Bergson, Les deux sources de la morale et de la religion, Quadrige – P.U.F, 1990, p. 105. المصدر: مركز يقين