افتراءٌ ورجمٌ بالغيب مَن قال إن كبار شعراء العربية، كأبي نواس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء، كانوا "لادينيّين"؟ قاله أدونيس مِن غير أن يرفّ له جفنٌ من حياء أو ضمير. لقد حكم على كبار الشعراء، في تاريخنا العربي الإسلامي، بدون استثناء، في تعميم لا علاقة له بالبحث العلمي الرصين، ولا بالأمانة التي يتوجب على الباحث التحلي بها في الحكم على الناس، وخاصة حينما يتعلق الأمر بمطويات صدورهم ومكنونات ضمائرهم- لقد حكم عليهم حكمَه المبرم النهائي المطلق بأنهم كانوا "لادينيّين"، لأن مسلَّمَتَه الإلحادية، التي وقفنا عندها سابقا، تفرض أن الإبداع، وخاصة في مستوياته الفنية العليا، لا يمكن أن يصدر عن مُتديّن. قال أدونيس: "جميع الشعراء الكبار كانوا ضد الوحي، ولكنهم كانوا يكتمون ذلك ولا يصرحون به(...)كانوا يحاولون خلقَ وحيهم الخاص." وقد أوضح أدونيس في هذا السياق أنه يقصد بالشعراء الكبار أمثالَ "أبي نواس، وأبي تمام، والمعري والمتنبي..."1. ويقول، في حديث له مع ابنته(نينار): "كلُّ عباقرة(نوابغ) العربية في الإسلام، من أبي نواس إلى المعرّي، كلُّ الشعراء والفلاسفة الكبار كانوا ضد الدين.2" ويقول مِن حوار له مع(حورية عبد الواحد): "الحقيقة أن كلَّ المبدعين، كلَّ أولئك الذين كتبوا في مجال الشعر، والفلسفة، والموسيقى، وغيرها من المجالات، كلَّ أولئك الذين بنوا الثقافة الإسلامية، أو الحضارة العربية، لم يكونوا مسلمين بالمعنى التقليدي للكلمة. مثلا، الشعراءُ الكبار، كأبي نواس، والمتنبي، والمعري، وغيرهم، كانوا ضد الدين الرسمي. ولم يكن أحد من الفلاسفة، مؤمنا أو متدينا، بالمعنى الصحيح. الذين خلقوا الحضارة الإسلامية كانوا مخالفين للإسلام بالمعنى العقدي.3" ويقول عن أبي نواس والمعري، من حوار آخر مع (حورية عبد الواحد): "لقد أحدث أبو نواس والمعري انقلابا شعريا كبيرا، لأنهما لم يكونا مؤمنين، ولا ملتزمين بأداء فرائض الإسلام"4. عند أدونيس، "الثقافة العربية قائمة على أمرين أساسيين: الدين والشعر؛ أمران متضادان، بل متعاديان. لكن الشعراء الكبار، في التاريخ العربي[لاحظ هذه الجرأة في الحكم والجزم والتعميم] كلهم تمرّدوا على الدين. فقد كانوا ينظمون قصائدهم غيرَ آبهين بالنص القرآني."5 باختصار، في رأي أدونيس وحكمه النهائي الذي لا يقبل المراجعة: "الشعر على طول تاريخه، كان معاديا للدين".6 كانت هذه عيّنة من كلام أدونيس، الذي لا يرى فكرا، ولا فلسفة، ولا فنا، ولا إبداعا، إلا في الإلحاد والتمرد والزندقة والخروج على الدين. فالشعراء الكبار، في العربية-وأدونيس لم يستثن ولو واحدا-كانوا لادينيّين، وكانوا متمردين على عقائد الإسلام وشرائعه، وكانوا ينظمون قصائدهم في ازدراء تام للقرآن، وكان لهم وحيهم الخاص، وعالَمُهم الذي خلقوه خارج قيود الدين، وضد تعاليمه. فأدونيس ينطلق من فكرة يعدُّها حقيقةً مطلقة غيرَ قابلة للنقاش، وهي "أن الإسلام قد قتلَ الشعر"7، وأن الشعر كان في عافية فنية كبيرة في الجاهلية، لكنه، مع مجيء الإسلام، استحال إلى بوق إيديولوجي وآلة إعلامية، ولم يسترجع عافيته الكاملة إلا في العصر العباسي8. وعندما يحدد أدونيس العصر العباسي زمانا لأوج الحداثة العربية، فإنه، ضمنيا، ينفي الإبداع والحداثة عن الشعر الأموي، مع أن هذا العصر عرف ظهور شعراء كبار، خلفوا لنا دواوين عامرة بالجمال والتصوير البديع، عبر فيها الشعراء عن خوالجهم ومكنونات ذواتهم، وقالوا في مختلف الأغراض والموضوعات. ألم يُثبت أدونيس نفسُه من أشعارهم الشيءَ الكثير في مختاراته في "ديوان الشعر العربي"؟ فلماذا العصرُ العباسي بالذات؟ مع أن نقاد الشعر، قدماء ومحدثين، يتفقون على أن درجة الإبداع في الشعر الأموي، وكذلك مستوى التجديد في هذا الشعر، قد بلغ شأوا بعيدا، وشعرُ الأمويين أكبر شاهد على هذا الاتفاق. فبم جاءنا شذوذُ أدونيس؟ أم أنه اختار طريق المخالفة ليُعرف؟ وفي الفقرتين التاليتين مثالان من شعراء العربية الكبار، الذين عدّهم أدونيس، بوحي من مسلّمته الإلحادية، في "اللادينيّين"؛ فهذان المثالان هما أبو نواس، الحسن بن هانئ(145ه-199ه)، وأبو العلاء المعري، أحمد بن عبد الله(363ه-449ه). حينما يتعلق الأمر بمعرفة حقيقة ما كان يعتقده أبو نواس وأبو العلاء، فإن المعول عليه في هذه المعرفة، أساسا، لا يخرج عن طريقين اثنين، لأن الرجلين عاشا في زمن يبعد عنا بقرون: الطريق الأول هو الروايات والأخبار، التي تناقلتها المصادر التي ترجمت لهما، والطريق الثاني هو الأحاديث والتصريحات والتعبيرات التي صحت نسبتُها إليهما، ومنها التعبيرُ الشعري. وسنلاحظ أن لا أحد يستطيع أن يجزم، على ضوء ما وصلنا من هذين الطريقين عن أبي نواس وأبي العلاء، بأن الرجلين لم يكونا مسلمين، بلْهَ ملحدَيْن معاديَيْن للدين. لقد اختلفت الأخبارُ وتضاربت الرواياتُ في شأن إسلام الشاعرين، وإسلامِ المعري بصفة خاصة، وهذا الاختلاف والتضاربُ يمكن أن يؤديَ إلى الشك، والغموض، والتردد، والالتباس، لكنه، بالقطع، لا يؤدي إلى الحكم الجازم، في هذا الاتجاه أو ذاك. أما أشعارُ الرجلين، فهي ناطقة بصورة جلية، لا مجال معها للشك والتردد، بأنهما كان مسلمين، مُوحّدين، مؤمنيْن بالله وكتبه ورسله وباليوم الآخر. في شعر المعري تتجلى فلسفةٌ خاصة امتاز بها الشاعر الحكيم الضرير النابغةُ في النظر إلى الناس والمجتمع والعالم والأديان وغيرها من الموضوعات والقضايا والإشكاليّات. فلسفةٌ فريدة في تاريخ الشعر العربي، يلتبس علينا قراءةُ بعض تجلياتها في شعر أبي العلاء، وهذا الالتباسُ هو ما دعا الكثيرين، في الماضي والحاضر، إلى التسرع في الحكم على عقيدة الرجل، مع أن الله، وحده، هو العالم بسرائر خلقه، "وهو أعلمُ بمنِ اْهتدى"9، وهو، سبحانه، الذي "يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدور"10، ما دام الإنسانُ لم يصرح، بلسان مُبين، وبعبارات لا تحتمل التأويل، كما فعل أدونيس، بأنه ملحد، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وأن الدين خرافة من صناعة البشر. وفي شعر أبي نواس نقرأ أشعارا كثيرة تعبر عن الندم والتوبة والإقلاع عن المعاصي؛ هل نصدقُ أو لا نصدق؟ هل الرجلُ كان صادقا في توبته؟ ما هي النية التي مات عليها؟ الجواب على مثل هذه الأسئلة مِن الغيب الذي لا نعلمه؛ ولكن الذي نعلمه مِن شعر الرجل يقينا، أيْ مِن عبارته الصريحة الواضحة، أنه كان مسلما على دين محمد، صلى الله عليه وسلم. أما غيرُ ذلك مِن سرائر القلوب، ومخفيات الصدور، فعلمُه عند الله، والخوضُ فيه، كما فعل أدونيس وغيرُه، إنما هو من التخرّص والرجم بالغيب، الذي لا ينتج معرفةً، ولا يُقرّر حقيقةً، ولا يحسم خلافا. مثال أبي نواس إن أدونيس، في كتاباته، ينطلق، كما رأينا، مِن مُسلَّمة ملكت عليه نفسَه، فهي توجّهه في كل دروب أبحاثه وتنظيراته. هذه المسلمةُ هي أن الحداثة إنما قوامُها وأساسها وروحُها هو مناقضة أصول الدين ومعتقداتِه الإيمانية وأحكامِه الشرعية. فحيثما كان هناك إلحادٌ ومجون وزندقة وعهارةٌ وما إلى ذلك مِن المحرمات والمعاصي والضلالات وأشكال البغي والفجور، فثَمَّ، حسب المُسلَّمة الأدونيسية، حداثةٌ وثورةٌ وتحرّر. وفي منظور هذه المُسلَّمة الأدونيسية أصبح أبو نواس، الحسن بن هانئ الشاعر الماجن المشهور "أكمل نموذج للحداثة في موروثنا الشعري"11، لأنه "شاعر الخطيئة، لأنه شاعر الحرية…يأنف أن يقنعَ إلا بالحرام ولذيذه"12، لأنه "يؤكد فصلَ الشعر عن الأخلاق والدين، رافضا حلولَ عصره، معلنا أخلاقا جديدة هي أخلاق الفعل الحر والنظرِ الحر: أخلاق الخطيئة"13، لأن "الإنسان النواسي" "لا يواجه الله بدين الجماعة، وإنما يواجهُه بدينه هو، ببراءته هو، وخطيئتِه هو..."14. وكما فعل أدونيس-كما مر بنا-بأسلوبه السحري العجيب، مع مأثورات ابن الراوندي والرازي المنثورة في المصادر، حيث بنى عليها، برؤيته هو وتأويلاتِه، وفرّع عنها ما فرع من الأفكار والتحليلات، كذلك فعل مع أبي نواس حين استغل مجانتَه الشعرية، وولوعَه بالخمرة، وتفنّنَه وإبداعَه في وصفها ووصفِ أوانيها ومجالسها وما يتعلق بها، ليُلحقَه بنماذجه المصنوعة، التي تستجيب لنظريته المرسومة آنفا، والتي سميتُها "المُسلَّمة الأدونيسية"، وهي تتلخص في كون روح الحداثة إنما مصدرُه الإلحادُ والوقوع في ذات الله وأحكامه وشرائعه، وما يتعلق بذلك مِن عقائد وعبادات ومقدسات. نعم، لقد كان أبو نواس فنانا عظيما في مجونه وتهتّكه ووصفه للخمرة ومجالسها. وهو في مجونه وتهتكه هذا قد وقع، ولا شك، في المعاصي، واقترف آثاما، واكتسب ذنوبا؛ إننا مع أبي نواس أمام فن رائع في تصويراته وتخييلاته وبديع أوصافه، لكنه فن صادر مِن فنان عاص-بلغة الإسلام الذي هو دينُ أبي نواس، الذي ظل يدين به-سادرٍ في دروب غوايته، غارقٍ في الملذات الحرام. اللهُ يعلم إن كان أبو نواس قد تاب قبل موته صادقا أم أنه بقي على معاصيه حتى بغتته منيّتُه. الله أعلم بما صار إليه في قبره. لكننا نعلم مِن شعره، على الأقل، أن الرجل كان مؤمنا بالله، حريصا على ذكره، بل ومهموما بعاقبته، طامعا في المثوبة والغفران. وهذه أمثلة من شعره. يقول في تعظيم الله وتقديسه والإنابة إليه15: إلهنا ما أعدلكْ ** مليك كل من ملكْ لبيك، قد لبيت لك** لبيك، إن الحمد لكْ والملك، لا شريك لك ** ما خاب عبد سألكْ أنت له حيث سلْك ** لولاك، يا ربّ، هلكْ لبيك، إن الحمد لكْ ** والملك، لا شريك لكْ كل نبيّ وملكْ ** وكلّ من أهلّ* لكْ وكلّ عبد سألكْ ** سبّح أو لبىَّ، فلكْ لبيك إن الحمد لكْ ** والملك، لا شريك لكْ والليل لمّا أن حلِكْ ** والساعات في الفلكْ على مجاري المنسلكْ ** لبيك، إن الحمد لكْ والملك، لا شريك لكْ ** اعملْ وبادرْ أجلكْ واختمْ بخيرٍ عملكْ ** لبيك، إن الحمد لكْ والملك، لا شريك لكْ16 ويقول في نفس المعنى، مقدسا ذات الله، مؤكدا أن الفوز إنما هو في سؤال الله: يا سائل الله فزت بالظفر ** وبالنوال الهنيّ لا الكدِرِ فارغب إلى الله، لا إلى بشرٍ ** منتقلٍ في البلى، وفي الغِيرِ إن الذي لا يخيب سائلهُ ** جوهرهُ غير جوهر البشرِ ما لك بالتّرّهات مشتغلاً ** أفي يديك الأمان من سفرِ؟17 وهو القائل، يعترف بذنوبه يرجو عفو الله، معلنا إسلامه وتضرعه: يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرةً ** فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ ** فبمن يلوذ ويستجير المجرمُ؟ أدعوك، ربّ، كما أمرت، تضرعا** فإذا رددت يدي، فمن ذا يرحمُ؟ ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرّجا ** وجميل عفوك، ثم إنيَ مسلِمُ18. وقال بحسرة التائب النادم، المعترف بإساءته، الراجي عفو الله: انقضت شرتي* فعفتُ الملاهي ** إذ رمى الشيب مفرِقي بالدواهي ونهتني النُهى*،فملت إلى العد ** لِ، وأشفقت من مقالة ناهِ أيها الغافل المُقيم على السه **وِ، ولا عُذر في المُقام لساهِ لا بأعمالنا نطيق خلاصاً ** يوم تبدو السماء فوق الجباهِ غير أني على الإساءة والتفْ ** ريطِ راجٍ لحسن عفو اللهِ19. والظاهر الغالب أن أبا نواس قد قال هذه الأبيات في لحظة صدق مع النفس، حينما نظر إلى ما فَرَطَ منه من المعاصي والذنوب، وما كان منه مِنَ الانغماس في المحرمات. ومهما يكن من أمر الزمان الذي قيلت فيه، فإن الحقيقة التي لا يرقى إليها شك أنها أبيات ناطقة بإسلام الرجل واهتمامه بأمر آخرته. وأمام هذه الحقيقة الصارخة، يأتي أدونيس ومَن على مذهبه مِن معتنقي المُسلَّمة الحداثية الإلحادية، من غير اعتبار لحُرمة عقائد الناس ومقدساتهم، فيصنفون هذا الشاعر، الماجن، اللاهيَ، العابث، الغافلَ، الفنان البارع، في خانة فلاسفة الإلحاد، فلاسفة الزندقة والتطاول على معتقدات المسلمين. وهكذا، ووفق منطقٍ ضعيف قائم على التلفيق واختلاق المقدمات لنتائج محدَّدة سلفا، ينقل أدونيس أبا نواس، بناء على شاعريته الماجنة، مِن إسلامه العاميّ الغارق في شبهات المعاصي والجهل والغواية إلى سُدَّةِ فلسفة الإلحاد والإنكار والجحود، فلسفةِ المجون والإسراف في تعاطي الخمرة، فإذا الخمرةُ-حسب تحليل أدونيس ولفظه-تُساوَى بالله"20. وكما أن الله جوهر العالم، والعالم غابةُ رموز لأسمائه وصفاته وأفعاله، كذلك الخمرةُ جوهر، وليست أشياء العالم إلا نسيجا من المطابقات بين الخمرة وبينه"21. أما الأبيات التي استند إليها أدونيس مِن شعر أبي نواس في إقرار هذا التشبيه الإلحادي، تشبيهِ الخمرة بالله، فليس فيها ولو عبارة واحدة تدل على أن الشاعر قصد هذا التشبيه، وإنما التشبيه استنتاجٌ من أدونيس، حسب قراءته وتصوره، وكذلك حسب الصورة التي رسمها هو لأبي نواس وأراد أن يجمع لها ما يصدّقها ويزكيها من شعره، فانتهى إلى مثل هذه الأحكام المُسفّة في حق الله-تعالى الله-، وفي حق عقائد المسلمين، وأبو نواس منهم22. ثم يستطرد أدونيس في تحليلاته الفلسفية الإلحادية، همّه الأساس، كما يظهر من عباراته ومفردات كلامه، هو أن يصور أبا نواس، في شعره، جاحدا بالله، منافسا له-تعالى الله-في ملكوته وقدرتِه المطلقة في الإرادة والفعل، والرفعِ والخفض، والإثباتِ والنفي، والعطاء والمنع. إنه يجتهد لتقديم أبي نواس، في مجونه، في صورة البطل الخارج منتصرا مِن معركة كان الله فيها-تعالى الله-هو خصمه. وهذه بعضُ المقتطفات من كلام أدونيس، مثالا على تحليلاته الفلسفية الإلحادية. يرى أدونيس أن إصرار أبي نواس على فعل الذنوب "يعني انتهاكا للمحرم ورفضا لمفهومه، لكن انتهاك ما حرّمه الله إنما هو خروجٌ على الله نفسه…هذا الخروج يجعل الإنسان مساويا لله، وشبيها به، فلا يعود يخضع للشريعة، لأنه يصبح هو نفسه مصدر الشريعة، فتنعدم الممنوعات، وتسود الحريةُ والمشيئة. فالإنسان حين يخرق المحرم يتساوى بالله.23" وحين يعثر أدونيس، في شعر أبي نواس، على مثل قوله في شطر بيت: "ديني لنفسي ودينُ الناس للناس"، فكأنما وقع على جوهرة لا تُقدّر بثمن، فإنه يبتدره ابتدارا، ويفهمه ويؤوّله على الوجه الذي يفتِل في حبل مُسلَّمته الحداثية، ويناسب قسمات الصورة المرسومة. فلنقرأْ أولا، الشطرَ الشعري المذكور في سياق القطعة التي ورد فيها؛ يقول أبو نواس في هذه القطعة: إني عشقت، وهل في العشق من باسِ ** ما مر مثل الهوى شيءٌ على راسِي ما لي وللناس، كم يلحونني سفهًا ** ديني لنفسي ودينُ الناس للناس ما للعداة، إذا ما زرت مالكتي** كأن أوجههم تُطلى بأنقاسِ* الله يعلمُ ما تركي زيارتكمْ ** إلا مخافة أعدائي وحرّاسي ولو قدرنا على الإتيان جئتكمُ ** سعيا على الوجه أو مشيا على الراسِ وقد قرأت كتابا من صحائفكمْ **لا يرحم الله إلا راحمَ النّاسِ24. فالشطر المعلوم "ديني لنفسي ودين الناس للناس"، في سياق القطعة، لا يشي بأي نوع من أنواع الفلسفة، وبالأحرى فلسفة الإلحاد والتطاول على الله. فالأبيات تدور حول موضوع مطروق في شعر الغزل والمجون إلى حدّ الابتذال، وليس هناك إلا ما يتفاضل به الشعراء في تشبيهاتهم واستعاراتهم واختيار ألفاظهم. ومعنى الشطر الذي يعنينا، كما أفهمه في السياق الذي ورد فيه، لا يعدو أن يكون ردا على من يعيبون عليه وقوعَه في العشق، وكأنه يقول لهم: إن كان علي في هذا الذي أنا فيه مِنَ الهوى ذنبٌ، فهو ذنبي أنا، وأنا الذي سأتحمل وزره، وكلٌّ مأخوذ بعمله، إن أصلح فلنفسه، وإن أساء فعليها. في جملة، كأنه يقول لهم: لا شأن للناس بما أنا فيه، لأن كل نفس مرهونة بما كسبت، وأنه "لا تزر وازرة وزر أخرى". وإن كان هناك فهم آخر مغاير لهذا الفهم، فلن يصل، على أية حال، ومهما كانت غرابتُه، إلى اعتبار الشطر المذكور فلسفة يعلن من خلالها أبو نواس انفصاله "عن المفهوم السائد لله"، كما يزعم أدونيس في فهمه. وكيف يكون هذا الفهم مقبولا والشاعر الماجن العابثُ يذكر الله مرّتين في القطعة نفسها. ولا يهم إن كان قد ذكره مؤمنا صادقا، أو عابثا ساخرا، أو جاهلا غافلا على طريقة العوام في معاملاتهم ومحادثاتهم. المهم هو أن ما ذهب إليه أدونيس بعيد عن ظاهر لفظ عبارة الشطر الشعري وباطنها بُعْدَ أبي نواس عن فلسفة الإلحاد وانتهاك حرمات الله. يقول أدونيس عارضا فهمه وتأويله: "وحين يعلن أبو نواس قائلا: "ديني لنفسي ودين الناس للناس"، لا ينفصل عن المفهوم السائد للدين، وحسب، وإنما ينفصل كذلك عن المفهوم السائد لله"25. ويضيف، مستطردا في عبارات لا علاقة لها بمفردات البيت الشعري، ولا ترعى حرمةً لله ولا لمقدسات المسلمين، وفي جراءة إلحادية لا تساويها جراءة: "غير أن التساويَ بالله يقود إلى نفيه أو قتله. فهذا التساوي-دائما مع كلام أدونيس-يتضمن رفضَ العالم كما هو، أو كما نظمه الله. والرفض هنا يقف عند حدود هدمه، ولا يتجاوزه إلى إعادة بنائه. ومن هنا كان بناء عالم جديد يقتضي قتلَ الله نفسه، مبدأ العالم القديم. بتعبير آخر، لا يمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأن نهدم صورة العالم الراهن. وقتلُ الله نفسه، مبدأ هذه الصورة، هو الذي يسمح لنا بخلق عالم آخر. ذلك أن الإنسان لا يقدر أن يخلق إلا إذا كانت له سلطتُه الكاملة، ولا تكون له هذه السلطةُ إلا إذا قتل الكائنَ الذي سلبه إياها، أعني الله. وبهذا المعنى نفهم كلمة(ساد)، التي تقول ما معناه أن فكرة الله هي الخطأ الوحيد الذي لا يستطيع أن يغتفره للإنسان، لأنه بخلقه هذه الفكرة رضي بأن يكون لا شيء إزاء الله الذي هو كل شيء. كذلك نفهم قتلَ الله عند(نيتشه)"26. لاحظ كيف يصرح بالمصادر الحقيقية لتحليلاته وإسقاطاته وفلسفته الإلحادية: "ساد"،"نيتشه"، التي تدور حول فكرة محورية مؤداها أن "الله فكرة خلقها الإنسان". ويقول في موضع آخر عن أبي نواس، محتفيا، دائما، بهذه الجوهرة التي عثر عليها في شعره: "كانت صرخته الأولى "ديني لنفسي". هذه نفسها صرخة العالم الحديث منذ (بودلير). أبو نواس بودلير العرب."27 بودلير !هذا مصدر آخر من مصادر الفلسفة الحداثية الأدونيسية. وهكذا، لم يرَ أدونيس في شعر أبي نواس إلا المجون والخطيئة. أما شعر التوبة والرجاء والاستغفار، فهو ليس لأبي نواس الذي رَسَمت صورته مسبقا الفلسفةُ الحداثية الأدونيسية، الفلسفة التي رَكِبت في التأويل والتمحل كل مركب، ليأتي الشعر والشاعر معا مصداقا للنظرية المقررة سابقا: "المجون يطهر ويحرر"28 و"الخطيئة…ضرورة كيانية، لأنها رمز الحرية، رمز التمرد والخلاص."29 وبهذا الأسلوب الأدونيسي في التحليل والتأويل وانتقاء الأمثلة المُصدِّقة لمقرّرات نظريته، والمدعمّة لمسلمته الحداثية الإلحادية-بهذا الأسلوب يشهد أدونيس على نفسه أنه كلّما خُيّر بين ما ينتهي إلى الله، وإلى الدين، وإلى الإيمان والأخلاق، وبين ما ينتهي إلى الإلحاد والزندقة والمعاصي والضلال، فإنه لا يختار إلا الثاني. وللبحث تتمة. هوامش: 1- من استجواب نُشر في الملحق الأدبي لجريدة "لوفيجاروLe Figaro" الفرنسية بتاريخ 16 ديسمبر2004، ص4. 2 -Conversations avec Adonis, mon père, Editions du Seuil, mars2006, Paris, p.146. 3- Violence et Islam, Editions du Seuil, novembre2015, Paris, p.19. 4 -Le regard d'Orphée, Fayard, 2009, p.163. 5- نفسه، ص151. 6 -Le regard d'Orphée, Fayard, 2009, p.163. 7- Violence et Islam, p.138. 8- Le regard d'Orphée, p.162. 9- من الآية 30 من سورة "النجم". 10- الآية 19 من سورة "غافر". 11- مقدمة للشعر العربي، ص53. 12- نفسه، ص52. 13- نفسه، ص53. 14 -نفسه. وانظر أيضا، "الثابت والمتحول"(تأصيل الأصول)، ص109-115. 15- رُوي أنه قال هذه الأبيات في موسم الحج. * أهلّ من الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية. 16- ديوان أبي نواس، ص407-408. 17- نفسه، ص289. 18- نفسه، ص501. 19- نفسه، ص586. * الشِّرّة= حدة الشباب وعنفوانه. * النُّهى= الرشد والعقل. 20- الثابت والمتحول(تأصيل الأصول)، ص110. قارن بما كتبه في "الشعرية العربية"، ص62، وبِ(La prière et l'épée)(بالفرنسية)، ص198-202. 21- نفسه، ص110. 22- راجع هذه الأبيات في المرجع السابق، ص245-246-247، هامش رقم(40) و(42). 23 -نفسه، ص112-113. 24- ديوان أبي نواس، ص311. * الأنقاس= ج نِقْس وهو المداد. 25 الثابت والمتحول(تأصيل الأصول)، ص113. 26- نفسه. 27 -مقدمة للشعر العربي، ص47. 28- الثابت والمتحول(تأصيل الأصول)، ص111. 29- مقدمة للشعر العربي، ص52.