هوية بريس – قاسم اكحيلات حظي صحيح البخاري باهتمام كبير أكثر من موطأ مالك رحمه الله، وذلك منذ دخوله إلى بلاد المغرب على يد أبي الحسن القابسي، وهذا الاهتمام كان صادرا بشكل كبير من لدن سلاطين الدولة المغربية على مر تاريخها، فها هو السلطان سليمان العلوي ينفق أموالا كبيرة، فقط للحصول على نسخة من النسخ النفيسة لصحيح البخاري. فقد عثر الشيخ محمد بن عبد السلام الناصري على نسخة الصدفي وهي نسخة فريدة لصحيح البخاري، كانت عند رجل اسمه أبو الطبل، قال: "فراودته على إبدالها بنسخة جليلة مذهبة يناهز ثمنها السبعين دينارا في جزء أيضا فأبى. وعرضت عليه الثمن مضعفا فأبى". (المزايا فيما أحدث من البدع بأم الزوايا ص:22). وعند عودته إلى المغرب أخبر السلطان سليمان العلوي فقال: "ثم حملتني الغيرة والمحبة على أن بلغت خبره لإمامنا المنصور أبي الربيع سيدنا سليمان بن محمد ادام الله ملكه، وأنجح أمره، فوجه إليه حسبما شافهني به ألف مثقال أو ريال الشك مني، فأجابه من هو بيده أنه يقدم به لحضرته وما منعه إلا فتنة الترك فيما بين تونس والجزائر ثم لما طال الأمر أعاد الكتب بذلك وإلى الآن لم يظفره الله به (المزايا.90-91). بل وبلغ من عنايتهم به حفظه، كما نقل عن أبي يعقوب المنصور، قال ابن خلكان: "يقال إنه كان يحفظ صحيح البخاري. كان شديد الملوكية بعيد الهمة سخياً جواداً استغنى الناس في أيامه، وكان يحفظ القرآن العظيم مع جملة من الفقه". (وفيات الأعيان.7/136). وأيضا كان هذا حال المأمون، قال أبو العباس الناصري: "وكان المأمون فصيح اللسان فقيها حافظا للحديث ضابطا للرواية عارفا بالقراءات حسن الصوت والتلاوة مقدما في علم اللغة والعربية والأدب وأيام الناس كاتبا بليغا حسن التوقيع لم يزل سائر أيام خلافته يسرد كتب الحديث مثل البخاري والموطأ وسنن أبي داود ". (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى.241/2). أما أبو الحسن المريني فقد كان يكثر من سماع صحيح البخاري، قال زروق: "كان أحب الأيام إليه سماع الحديث، يقرأ بين يديه، وكان يستكثر من سماع جامع البخاري، قرأته عليه مرات". (المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن.271). وكذا كان يعقد لصحيح لبخاري مجالس في رمضان أيام المنصور الذهبي، قال أبو العباس الناصري: "هكذا كانت سيرته في شهر رمضان عند ختم صحيح البخاري وذلك أنه كان إذا دخل رمضان سرد القاضي وأعيان الفقهاء كل يوم سفرا من نسخة البخاري وهي عندهم مجزأة على خمسة وثلاثين سفرا في كل يوم سفرا إلا يوم العيد وتاليه فإذا كان يوم سابع العيد ختم فيه صحيح البخاري وتهيأ له السلطان أحسن تهيؤ". (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى.5/154). أما الحسن الأول فإنه لما بنى قصره بالرباط دشنه بحفلة قراءة صحيح البخاري بمحضر العلماء والوزراء". (أنظر: محمد السادس إمارة المؤمنين في عشرة تجليات). "وكان السلطان مولاي إسماعيل إذا سافر قدم نسخة من صحيح البخاري محمولة على دابة من أفره الدواب مقتديا في ذلك بأثر الموحدين في تقديم المصحف وكتب الصحاح أمامهم". (أنظر: جهود السلطان مولاي إسماعيل في تأسيس الخزانات العلمية وازدهار الحياة الفكرية بالمغرب. أحمد إيشرخان. دعوة الحق.عدد:404). وربما جعلوا صحيح البخاري وقفا لله يستفيد منه أهل العلم وطلبته، كما فعل الأمير أبو عبد الله الوطاسي، وجاء في وثيقة الوقف عبارة "وقف مخلد". (أنظر: ظاهرة وقف الكتب في تاريخ الخزانة المغربية. أحمد شوقي بنبين. دعوة الحق.عدد:404). وكذاك لالة خناتة المغافرية زوجة السلطان مولاي إسماعيل حبست دورا بباب العمرة في أثناء حجها وذلك على من يختم صحيح البخاري، قال ابن زيدان: "وأوقفت أوقافا ذات بال منها دار اشترتها من أولاد العلامة أبي محمد عبد الله بن سالم البصري بباب العمرة أحد أبواب المسجد الحرام بما يقرب من ألف مثقال ذهب مطبوعة وحبستها على طلبة يختمون كل يوم ختمة من القرآن، وعلى من يدرس صحيح أبي عبد الله البخاري وعينت ناظرا على الدار المذكورة".(إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس.32/3). ويذكر أن السلطان محمد بن عبد الله له تخريج لأحاديث صحيح البخاري اسمه:"(فتح الباري في تخريج أحاديث البخاري".(تراث المغاربة في الحديث وعلومه.التليدي.ص:216). وكان وما يزال المغاربة يعظمونه تعظيما كبيرا، بل كان صداقا لبناتهم فقد تزوج الشيخ محمد الكتاني بلالة مليكة بنت محمد المرينية وكان صداقها نسخة خطية نفيسة من صحيح البخاري". مدرسة الإمام البخاري في المغرب. يوسف الكتاني.2/546). بل بلغ من تعظيمهم له أمرا عجيبا، فمن الطرايف أنه لما جاء أبو شعيب الدكالي إلى طنجة وجعل يقرأ دروسا في صحيح البخاري كان يفتح درسه بقوله: "قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي مولاهم البخاري.. فصار أهل طنجة يقولون عنه انه متكبر لا يتنازل أن يقول مولانا البخاري، بل يقول مولاهم البخار:". (جؤنة العطار. أحمد بن الصديق الغماري.1/46). وبهذا تعلم أيها الجاهل أن المغرب ارتبط ارتباطا وثيقا بالجامع الصحيح لأمير المؤمنين محمد بن إسماعيل البخاري، ولنا فيه سند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله الموفق.