التاريخ في الظاهر يكاد يكون ذكوريا بامتياز، فأنت قلما تجد ذكرا للنساء سواء في جانب الحكم والسياسة، أو في مضمار العلم والفكر والأدب، أو غيرها من المجالات، ولعل ذلك راجع إلى طبيعة كل من الجنسين، الذكر والأنثى، ولطبيعة المهام الفزيولوجية والاجتماعية التي تليق بكل منهما، ولكن للتاريخ بعض الفلتات، فتجد بعد الفينة والأخرى شخصية نسائية تلمع في مرحلة من التاريخ بشكل واضح، لتترك بصمتها وآثارها في حياة وتاريخ أمتها بصورة مثيرة للتقدير والإعجاب. وسنقف في مقالنا هذا مع السلطانة الفقيهة الوزيرة خناتة بنت بكار، وعلى الدور الذي لعبته في تاريخ الدولة العلوية. نشأت الحرة في بيت علم وأدب ونخوة ومكانة، فأخذت ترضع العلم كما ترضع حليب أمها، وعرفت برجاحة عقلها وفصاحة لسانها وبيان قولها، فلما حلت على السلطان امتازت عن باقي نساء القصر وحازت مكانة عنده، وكان جمالها أخاذا؛ فقرر السلطان أن يتزوجها، فأصبحت بذلك سيدة المغرب، ولَم يشغلها القصر بخيراته عن العلم، فعزمت على إتمام حفظ القرآن الكريم، وكان الشيخ أبو عبد الله محمد المكي الدكالي يصحح لها اللوح الذي تكتبه بيدها، كما هو شأن المغاربة في حفظ القرآن الكريم، حيث يأخذون قطعة خشبية تعد خصيصا لتحفيظ القرآن الكريم، وبعد غسلها وطليها بالصلصال الأزرق، وتنشيفها بالنار أو أشعة الشمس، يتم كتابة ما تيسر من آيات الذكر الحكيم عليها، باستعمال "الصمغ" والقلم، وبعد انتهاء الطالب من الكتابة يتم تسليم اللوح للفقيه حتى يراجعه ويصححه، ويضيف بعض الأمور المتعلقة ب " الحَطّْ" و"النصوص القرآنية" ، وتتكرر تلك العملية يوما تلو الآخر، حتى يتم الطالب حفظ القرآن كاملا. وأخذت العلم عن علماء ذلك العصر. خناثة بنت الشيخ بكار المغافري والمعروفة بخناتة بنت بكار ، توفيت سنة 1730 م / جمادى الأولى عام 1159 ه) فقيهة وأديبة و عالمة وسياسية مغربية، وأول امرأة تتولى الوزارة في المغرب، أحسنت القراءات السبع، عالمة بالحديث، متصوفة، وهي زوج ومستشار المولى إسماعيل ووالدة السلطان عبد الله بن إسماعيل. تولت تربية ورعاية حفيدها السلطان محمد بن عبد الله. لعبت خناثة دورا بارزا في العلاقة الخارجية. هي من تثبيت اتفاقية السلام والتجارة التي وقعت بمكناس بين الإيالة الشريفة ودولة بريطانيا العظمى في شخص سفيرها أنداك شارل ستيوارت خلال صيف سنة 1721م، نفس السفير كانت له مراسلات مع السيدة خناثة بخصوص طلب دعمها لهذه الاتفاقية، وبشأن التدخل لدى السلطان للإفراج عن عدد من الأسرى الإنجليز. وتذكرها المصادر الإنجليزية باسم "كوينتا" الذي يرجع لاسم خوينتا ، وهو لقبها بين المقربين منها. كما تحفظ بعض المتاحف مخطوطة وهي رسالة تحمل طابعها موجهة إلى سكان مدينة وجدة، تنصحهم وتطمئنهم بشأن المخاوف التي كانت تراودهم من قبل جيرانهم الأتراك في المغرب الأوسط. كانت أول امرأة تتولى الوزارة في المغرب، اثر وفاة السلطان العلوي مولاي إسماعيل. لقد كان للسيدة خناثة أدوارا سياسية كبيرة في تاريخ المغرب؛ خاصة خلال الفترة التي حكم فيها ابنها السلطان المولى عبد الله، حيث تعرضت للعديد من المضايقات والمحن من النفي إلى السجن والمطاردة والسلب. بعد العزل الأول للمولى عبد الله، ومبايعة أبو الحسن الأعرج على يد سالم الدكالي أحد كبار قواد جيش البخاري. ولما توفي زوجها المولى إسماعيل سنة 1139 ه، أمسكت زمام الأمور وصارت تقوي مكانة ابنها المولى عبد الله وترشده إلى أفضل الطرق الممكنة لتفادي أي انقلاب قد يقوم به جيش عبيد البخاري. وجيش عبيد البخاري هو الجيش الذي أسسه المولى إسماعيل ليوطد به أسس دولته الجديدة، وليحمي به سلطانه، وليكون له كما كان جيش الإنكشارية لدى العثمانيين، وسمي هذا الجيش بعبيد البخاري لكونهم عبيدا بايعوا السلطان واستحلفوا على نسخ من صحيح البخاري، ويذكر الناصري في كتابه "الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى" أن السلطان المولى إسماعيل وقف بين يدي الجند وقال لهم: لقد كان عدد الجنود المنضوين تحت ألوية عبيد البخاري في أول الأمر يقدر بخمسة عشر ألف جندي، ولكنه بلغ في آخر أيام السلطان المولى إسماعيل قدر بعدد يفوق المائة الف جندي. إلا أن جيش عبيد البخاري حاد عن الطريق التي أنشئ من أجلها وصار وبالا على الدولة، وهذا ما حدث مع خناتة وابنها عبد الله؛ فعلى الرغم من كل الجهود التي قامت بها فإنها لم تفلح في تفادي خطرهم وشرهم؛ حيث استطاع سالم الدكالي، أكبر قواد الجيش، أن يزيح عبد الله وينصب مكانه السلطان أبو الحسن الأعرج، وكان لهذا الفعل أثر بارز في حياة هذه المرأة، فإن أول ما قام به السلطان أبو الحسن هو إلقاء القبض على خناتة رفقة حفيدها محمد بن عبد الله، ظنا منه أنها تخفي عنه مالا وثروة طائلة ورثتها عن زوجها المولى إسماعيل. وذلك أن القائد سالم الدكالي لما تمكن من إزاحة وريث العرش عبد الله، قام بتوزيع وتفريق مال خزينة الدولة على جيش عبيد البخاري حتى يرضى عنه ويدين له بالولاء، ولقد بذر جميع الأموال حتى صارت يداه صفرا وخزينته فارغة شاغرة، وذلك ما دفعه ليلقي القبض على خناتة ليستولي على ثروتها، لكنه لم يحصل منها على شيء، وأرسلت إلى العلماء طالبة منهم أن يتكلموا في أمر حفيدها مع الأعرج، وأنه صغير لا دخل له فيما يحدث، وأما هي فصابرة حتى يحكم الله بينها وبين الأعرج. استطاع المولى عبد الله أن يفلت من أيدي رجال الدكالي وفر خارج العاصمة وبدأ في تجميع القبائل خلفه وتوحيد صفوفه، وبدأ يضغط على الأعرج أن يطلق سراح أمه وولده، وأن ويرسلهما إليه آمنين سالمين، فاستجاب الأعرج لأمره، لأن قوته كانت قد خارت، وسلطانه ضعف، ومن معه من جند البخاري تخلوا عنه لما فرغت خزينته ونضبت أمواله. إستطاع عبد الله بن إسماعيل أن يعود مرة أخرى إلى الحكم، ولكن بصورة أقوى من المرة الأولى؛ فقد علمته الأيام ما كان جاهلا، ولقنته التجارب والمحن دروسا بليغة في السياسة وإدارة شؤون البلاد، وزادت مكانة أمه خناتة بنت بكار بين الناس، وعادت إلى رحاب العلم بعد أن رأت أن ابنها أصبح قويا، قادرا على إدارة دولته، ومع ذلك لم تبخل عليه بالنصائح، وكانت لها مواقف جريئة، وخاصة إذا تعلق الأمر بأهل العلم والفضلاء، وخير مثال على ذلك أنه لما وشى بعض المغرضين الحاسدين بالفقيه المفسر عمر لوقش التطواني، عند ولدها عبد الله، وهم عبد الله بسجن الفقيه وإذايته، وقفت في صف هذا العالم وكانت سببا في نجاته من بين يدي السلطان. ولقد كان لها بعض الإسهامت العلمية، حيث تتواجد اليوم مخطوطة بها تعليقات لخناتة على كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر العسقلاني، وهي محفوظة في الخزانة الملكية بالرباط.