شاهدت في الأسبوع الماضي شريطا وثائقيا من إخراج حميد زيان، وكتب له السيناريو الصحافي عبد السلام بنعيسي. يتناول الشريط حياة الأميرة خناثة بنت بكار زوجة السلطان المولى إسماعيل، المرأة التي عاشت برفقته حوالي 50 سنة، وتم إنتاج الشريط بدعم من المركز السينمائي المغربي، ومدته تراوح 52 دقيقة. لجأ مخرج الشريط إلى تقنية المزاوجة بين توظيف الخيال، وبين الاستناد إلى المعطيات التاريخية المستمدة من الكتب والوثائق عن الفترة التي تطرق إليها، ومن شهادات أساتذة جامعيين مختصين في مادة التاريخ، لكي يعيد إنتاج حياة السيدة خناثة بنت بكار في الشاشة، فنحن أمام شريط في جزء منه خيالي، وفي جزء آخر منه واقعي Doco/fiction، علما بأن المشاهد المستمدة من خيال صاحب السيناريو والمخرج لا تضر بمحتوى الشريط، ولا تؤثر على صدقية الوقائع التاريخية التي يتضمنها، وإنما تم اعتماد تقنية التخيل في الشريط لإبراز حياة خناثة بنت بكار بشكل أوضح وأجود للجمهور، عبر الصورة والصوت، ودرءا للملل أو الضجر خلال سرد أحداث تاريخية بعيدة. ففي الزيارة التي قام بها إلى الأقاليم الصحراوية سنة 1678 تزوج السلطان المولى إسماعيل الأميرة خناثة بنت بكار المغافري شيخ قبيلة المغافرة، القبيلة التي كانت تعيش متنقلة في الفضاء الصحراوي الممتد من الصحراء المغربية إلى تخوم شنقيط، في بحثها عن الماء والكلأ. فلقد كانت خناثة فتاة جميلة، ومتعلمة، وذات ذكاء حاد. وفي القصر الإسماعيلي عمّقت الأميرة معارفها العلمية، وصارت فقيهة، وسياسية محنكة، وأضحت وزيرة، ومستشارة للسلطان المولى إسماعيل، وتجاوزت شهرتها المغرب، ووصلت إلى ملوك أوروبا الذين ربطوا الاتصال بها لكي تتوسط لهم لدى السلطان من أجل إطلاق سراح بعض أسراهم، وتعزيز العلاقات المغربية بتلك الدول. وحين توفي المولى إسماعيل وقفت خناثة بنت بكار إلى جانب ابنها السلطان المولى عبد الله، وساندته في كل الأزمات التي تعرض لها في فترة حكمه، فلقد أقاله جيش البخاري ست مرات، وفي كل مرة كانت خناثة تتدخل، وتتمكن بمعية أقربائها من جيش لودايا، وبدعم من العلماء، من إعادته إلى الحكم. كما أنها هي التي تكلفت بتربية ابنه وحفيدها الأمير محمد، وعلمته، وسهرت على تكوينه، ولم يكن يفارقها في طفولته، حتى أنه دخل معها السجن في عهد السلطان أبي الحسن الأعرج، ورافقها في رحلتها إلى الحج، وحين أصبح حفيدها هذا سلطانا على المغرب، كانت معالم توجيهات خناثة وتربيتها له واضحة، في انفتاحه على أوروبا، ومبادرة المغرب، كأول دولة في العالم، للاعتراف في عهده، بأمريكا دولة مستقلة، وسعيه إلى تحديث البلد، وجعله يواكب التطورات التي تحدثُ من حوله، حتى أن المؤرخ والمفكر المغربي الكبير عبد الله العروي قال عنه: إنه أبو المغرب الحديث. لقد انتقل الشريط الوثائقي بخناثة بنت بكار وصاحبها من مضارب الصحراء، كما قال أحد الأساتذة المشاركين فيه، وتابعها وهي في القصر، رفقة زوجها السلطان المولى إسماعيل، ثم مع ولدها المولى عبد الله، ومع حفيدها الأمير محمد، وجعلنا نلاحق أهم المراحل التي عاشتها في حياتها، بحلوها ومرّها. فمن طفلة صحراوية تعيش في الخيمة، إلى امرأة أصبح لها بعد وطني، وأضحت مسهمة في صنع القرار بالمغرب، وحاكمة من حكامه، إلى أن صارت امرأة ذات بعد عالمي، ووصلت شهرتها إلى المشرق خلال حجها، وإلى أصقاع وقصور أوروبا القرنين السابع والثامن عشر. يبين لنا الشريط أننا أمام امرأة استثنائية بكل المقاييس، لقد تمكنت من أن تبرز وتتألق من بين النساء الكثيرات اللواتي كان يحفل بهنّ القصر الإسماعيلي. إنه لأمر مدهش أن يفيدنا الشريط بأن السلطان المولى إسماعيل، الذي اشتهر بقسوته وشدته، كانت له زوجة، التي هي خناثة، عالمة، ومسهمة في تدبير الشأن العام، ولها نفوذ في الساحة السياسية، وكان يقبل بتلقيها مراسلات تأتيها من ملوك أوروبا، ولا يمانع في أن تقوم هي بالرد على مراسلاتهم. كانت خناثة بنت بكار بهذا المعنى تمارس حريتها داخل البلاط الإسماعيلي، وتتصرف كما يتصرف الرجال، وما كان لها أن تظفر بهذه المنزلة، لو لم تكن أهلا لها. فرأسمالها الرمزي الذي هو علمها، كما أدلى بذلك الأستاذ محمد دحمان في الشريط، هو الذي جعل لها هذه المكانة المرموقة داخل القصر، وميزها عن غيرها من النساء والرجال. أن تعيش امرأة في حريم سياسي، وأن تكون لها الحظوة لدى السلطان المولى إسماعيل، وأن تظل بعد وفاته، لسنوات في صراع مع جيش البخاري، وأن يتم اعتقالها وسجنها، ومع ذلك تصمد، وتتمكن من إعادة ولدها إلى السلطة، وأن تتعرض للمطاردة والنفي، ثم تغادر هذه الدنيا في فراشها، بعد عمر مديد، دون أن يتمكن خصومها والحاقدات عليها من نسوة البلاط من تصفيتها، فهذا يبين مدى الدهاء الذي كانت تتمتع به هذه السيدة. لقد بيّن لنا الشريط أن خناثة بنت بكار كانت تجالس العلماء وتستفسرهم عن الإشكالات الفقهية التي تعترضها، وتناقشهم في ما يعرضونه عليها من آراء وأفكار، وكانت تقبل آراء معينة وترفض أخرى. وتتوسط لهم لدى السلطان لقضاء حاجياتهم، فتعمقت علاقاتها بالفقهاء، وصارت لها مكانة مرموقة بالنسبة لهم، وتدخلوا لدى السلطان أبو الحسن الأعرج للإفراج عن حفيدها وعنها لاحقا، في فترة حبسها. ولعل هذا هو ما يميز خناثة بنت بكار عن نساء مغربيات من قبيل زينب النفزاوية وفاطمة الفهرية مثلا، لقد كانت امرأة عالمة وفقيهة، وذات علاقات مع دول أوروبية. إذا كان من ميزة بينة للشريط الذي تناول حياة خناثة بكار، فإنها تتجلى في ابتعاده عن النظرة النمطية الرائجة في بعض وسائل الإعلام عن المجتمع الصحراوي، حيث يكاد هذا المجتمع يكون مقترنا في الأذهان، بالجمل والدراعية والملحفة وشجر النخيل.. لقد شاهدنا في الشريط مجتمعا صحراويا معتزا بذاته وكينونته، إنه يُعلّم أبناءه وبناته، ويحتل الكتاب موقعا رياديا في مساكن الصحراويين، ويجتمعون بينهم ليتدارسوا شؤونهم، ويتبادلون العلم والمعرفة، وكانت للمرأة في الشريط مكانة محترمة تتفوق أحيانا على مكانة الرجل في العلاقة بالأطفال، لقد كان الشريط في مضمونه متعاطفا بشكل كبير مع المجتمع الصحراوي، ومقدرا لخصوصياته. يجوز القول إن الشريط الوثائقي المذكور أفلح في ضرب الصورة المجترة عن المرأة المغربية في العصر القديم، حيث يريد البعض للمرأة أن تبدو في التاريخ في صورة محافظة، ومحجور عليها، ومنزوية في البيت، ولا تهتم إلا بالطبخ، والكنس، والتزين للرجل.. فمع خناثة بنت بكار عاينا المرأة العالمة، والفقيهة، والسياسية، والمشاركة في تدبير الشأن السياسي المغربي في ظروف حرجة جدا. شاهدنا إسهام امرأة مغربية في تشييد ركائز الدولة العلوية. لقد كنا أمام امرأة متحررة قولا، وفعلا، وممارسة. من خلال شريط خناثة بنت بكار دققت معرفتي بهذه الشخصية، فهذا العمل ليس فيلما وثائقيا وتاريخيا فحسب، إنه فيلم بيداغوجي، يلقن للجمهور درسا مهما، عن تاريخ بلاده، وأساسا عن سيدة كانت فاعلة في هذا التاريخ. وتم ذلك بطريقة احترافية، من حيث كتابة السيناريو والإخراج والتصوير والديكور. ومهما كانت الملاحظات التي قد يبديها المرء حول الشريط، فإنه لا يمكنه إلا الإقرار بأنه كان عملا موفقا؛ ففيلم من هذا النوع لا ينبغي الاكتفاء ببثه في القنوات التلفزيونية الوطنية فقط، وإنما بالإمكان إدراجه في إطار البرنامج الدراسي لمادة التاريخ، فأثناء الحديث عن المولى إسماعيل، يمكن عرض فيلم خناثة بنت بكار على التلاميذ في المدارس، والطلبة في الكليات، ويمكن عرضه من لدن الجمعيات النسائية في الأنشطة التي ينظمنها دفاعا عن حقوقهن في المساواة مع الرجل، على أساس أن المرأة المغربية ممثلة في خناثة بنت بكار كانت كذلك متساوية مع الرجل منذ قرون خلت، كما يتعين على وزارة الخارجية شراء الشريط، ودبلجته، وتوزيعه على السفارات والقنصليات المغربية، لعرضه على أبناء الجالية المغربية الموجودة في المهجر لكي يطلعوا على تاريخ بلادهم. أن يقوم المركز السينمائي المغربي بتقديم الدعم المالي لإنجاز أفلام وثائقية من هذا القبيل فهذا أمر محمود، ويشكر المركز عليه؛ ولكن لا يعقل تقديم دعم مالي لإنجاز فيلم وثائقي من هذا المستوى، ثم يتم ركن الفيلم بعد إنجازه في الرفوف ليأكله الغبار وتفترسه الرطوبة، فهذا هدر للجهد، وللمال العام. المطلوب من المركز السينمائي المغربي التنسيق مع القنوات التلفزيونية الوطنية لعرض مثل هذه الأفلام على أوسع نطاق، وتسهيل إبلاغها إلى الجمهور العريض، وتنظيم التظاهرات المتواصلة لإثارة النقاش حولها، تعميما للفائدة، وصونا للمال الذي ينفق من أجل إعدادها. فيلم خناثة بكار تتوفر فيه كل العناصر التي تستدعيها المرحلة الراهنة. إنه يتناول حياة المرأة التي أسهمت في تأسيس الدولة العلوية وتوطيد ركائزها، انطلاقا من الأقاليم الصحراوية، ويمكن أن يندرج في سياق، توظيف التراث في دينامكية الحداثة، كما ظلت تطالب بذلك طوال حياتها الأستاذة الباحثة فاطمة المرنيسي.