هذا هو الجزء الثاني من التمهيد الذي مهدت به لهذه السلسة. والذي كسرته على عادة أهل المغرب في ختم صحيح البخاري في رمضان، إذ كانت هذه العادة، مع مناسبة حلول الشهر المبارك ما جَرَّني إلى الكلام على مصنفات أهل المغرب والأندلس حول البخاري. إن عادة قراءة البخاري في رمضان، والحرص على ختمه فيه تمكنت من أهل المغرب بكل طبقاتهم تمكنا تاما، والخير إذا وجد قبولا انتشر، وكذلك كان الشأن بهذه الربوع المغربية، فقد عني الأمراء والملوك من زمان قديم بقراءة البخاري وختمه في رمضان، وما زال هذا الأمر متصلا إلى الآن، يتولى الإشراف عليه ملوك الدولة العلوية الشريفة، ويعتنون به أتم اعتناء، وهو من الاشتهار والذيوع بمكان. كما كان لفخر الدولة السعدية المنصور الذهبي عادة جارية في ختم الصحيح والعناية به وهذا يظهر مما نقله الناصري ونص ذلك "- وهكذا كانت سيرته- يعني المنصور في شهر رمضان عند ختم صحيح البخاري وذلك أنه كان إذا دخل رمضان سرد القاضي وأعيان الفقهاء كل يوم سِفرا من نسخة البخاري وهي عندهم مجزأة على خمسة وثلاثين سِفرا في كل يوم سفرا إلا يوم العيد وتاليه فإذا كان يوم سابع العيد ختم فيه صحيح البخاري وتهيأ له السلطان أحسن تهيؤ إلا أن العادة الجارية عندهم في ذلك أن القاضي يتولى السرد بنفسه فيسرد نحو الورقتين من أول السفر ويتفاوض مع الحاضرين في المسائل ويلقى من ظهر له بحث أو توجيه ما ظهر له ولا يزالون في المذاكرة فإذا تعالى النهار ختم المجلس وذهب القاضي بالسفر فيكمله سردا في بيته ومن الغد يبتدئ سفرا آخر وهكذا والسلطان في جميع ذلك جالس قريب من حاشية الحلقة قد عين لجلوسه موضع"[1]. ونقل عناية المنصور بقراءة صحيح البخاري في رمضان وختمه فيه العباس ابن ابرهيم في كتابه الإعلام[2]. وأما افتتاح السرد في رجب وختمه في رمضان؛ فإنها العادة الجارية بالمغرب إلى اليوم، وشاع ذلك بين الناس شيوعا عظيما، وكثر الاعتناء بذلك والحرص عليه، ومما يدل على هذا الحرص ما ذكر ابن سودة في سل النصال في ترجمة جدته من جهة أمه: زينب بنت الشيخ المهدي بن الطالب ابن سودة: "المرأة الصالحة العابدة المتبتلة، نشأت في حجر والدها وبين أحضان إخوانها الأربعة محمد والتاودي والمكي وعبد السلام، فاكتسبت من ذلك معلومات فقهية وألفاظا حديثية، وصارت تنطق بها وتستعمل مقتضياتها في عبادة ربها وتهجدها، فإذا ذاكرتها وجدت نصوصها حاضرة، وكانت عند أول يوم من رجب في كل سنة تستدعي أبناء إخوانها وتأمرهم بسرد صحيح الإمام البخاري في كل يوم إلى متم رمضان، وفي آخره يكون ختم الصحيح، وكانت تحتلف لهم في كل يوم من الثلاثة أشهر المذكورة، وحين السرد تستشكل بعض المواضيع من الصحيح، وكثيراً ما يكون الإشكال في محله، ثم يقع الجواب منهم عن ذلك"[3]. ولما كانت هذه العناية بهذا الانتشار، وكان شأن الناس في الحرص عليها بهذا المحل؛ فإن طوائف من أهل المغرب إظهارا لهذه العناية، وإبرازا لهذا الحرص، كانوا يختمون الختم باحتفال عظيم، ويظهرون فيه من البهجة والفرح ما يناسب هذه المناسبة، وقد وقفت من آثارهم في ذلك على نصيين يتعلقان بهذا الأمر مع اختلاف الرقعة وتباين الزمان، والجامع بينهما واحد هو إظهار الاحتفال بالختم، فأما أول النصين: فما نقله الشيخ محمد عبد الحي الكتاني عن أبي الربيع الحوات من كتابه "البدور الضاوية في أهل الزاوية الدلائية" أن العلامة أبا عبد الله محمد ابن الشيخ أبي بكر الدلائي شيخ الزاوية كان يختم صحيح البخاري كل سنة، وكان يحضر مجلسه جمع كثير من الأعلام، ويحتفل ليوم الختم بما لم يسمع مثله من أنواع الطعام، ويأتيه الناس للتبرك والاستفادة من بعيد الأمكنة وتنطلق بالثناء عليه الألسنة نثرًا ونظماً[4]. وأما ثانيهما: فما ذكره الأستاذ المختار السوسي في ترجمة سيدي الحسن الرسموكي البوعانفيري (نحو 1363) شيخ المدرسة البوعانفيرية، قال: "ويقام هناك -يعني: عند المدرسة- موسم سنوي تجاري كان أصله اختتام البخاري على العادة. ثم توسع الناس فيه حتى صار تجاريا ثم عاد تجاريا محضا. وإنما يختم فيه البخاري ختما رسميا لا غير"[5]. يتبع ----------------------------------- 1. الاستقصا، 5/154. 2. 2/268-272. 3. سل النصال، 51. 4. فهرس الفهارس، 1/396. 5. المعسول، 18/275.