جاء في مقال لمجلة "ذا إيكونوميست" البريطانية (عدد الأسبوع الأخير لشهر ماي 2022) أن العالم يتجه مباشرة نحو "كارثة غذائية". لكن ما الشيء، أو الأشياء، التي سوف تدفع العالم نحو هاوية هذه الأزمة؟ في واقع الأمر تتعدد الأسباب، ولعل أبرزها، وربما سببها المباشر، هو الحرب الروسية الأوكرانية. هذه الحرب التي ظهرت نتائجها ليس فقط على من يعيشون داخل رقعة الصراع، بل حتى على الذين يعيشون على بعد آلاف الكيلومترات منها. ولا يجب أن ننسى هنا بأن هذا الصراع المسلح لم يترك فرصة للعالم حتى يتعافى من آثار الأزمة الاقتصادية التي تسبب فيها فيروس كوفيد-19. ناهيك عن أحد الأسباب الذي كثيرا ما نتناسى ذكره، والذي يعدد سببا قاتلا على المدى المتوسط والبعيد، وهو التلوث الكيميائي والتغيرات المناخية المرتبطة به، خصوصا ارتفاع درجات الحرارة التي تتلف المحاصيل الزراعية، أو تبطئ من سرعة نموها. بسبب الحرب، تم توقيف جل الصادرات الأوكرانية من البذور الزيتية والقمح، علما أن روسياوأوكرانيا مسؤولتان لوحدهما عن 28 في المئة من مجموع صادرات القمح حول العالم و75 في المئة من بذور عباد الشمس التي تستخرج منها الزيت. كما أن هناك دولا في المنطقة العربية تعتمد في صادراتها بشكل كبير على القمح الأوكراني والروسي، خصوصا مصر ولبنان وتونس وليبيا، والتي تتراوح صادراتها بين النصف والثلثين. وفي السياق نفسه ساقت المجلة في المقال نفسه أمثلة أخرى عن أسوأ جفاف للقارة الإفريقية منذ أربعين سنة، وأن نتائج هذه الأزمة العالمية ستنعكس مباشرة على الدول ذات الاقتصاد الضعيف، والتي تستورد غذاءها ومصادر الطاقة من غاز وبترول. يمكن أن نستمر في الحديث عن "كوارث" سنة 2022 وأن نلوم روسيا، أو أن نضيف إلى قائمة اللوم مجموع الدول الغربية بقيادة أمريكا التي فرضت عقوبات اقتصادية على روسيا. لكن السؤال هو: ما الحل الآن؟ وهل هناك من مخرج أصلا؟ أعتقد بأن كل الحلول الممكنة تبدو في ظاهرها وكأنها ضرب من الطوباوية، كالقول مثلا بأنه يجب على قادة العالم أن يتعاملوا مع مشكلة الغذاء هذه باعتبارها مشكلة عالمية آنية تتطلب حلا عالميا عاجلا. وأن الدول المعنية مباشرة، وأقصد هنا روسياوأوكرانيا، وتركيا أيضا، يجب أن يتوصلوا إلى حل توافقي يتنازل كل عن بعض ما يعتبره حقا له، في سبيل تحقيق المصلحة العامة. روسيا بفك الحصار قليلا عن أوكرانيا. وتركيا بالسماح بمرور السفن الحربية التي ترافق المؤونة الغذائية عبر مضيق البوسفور. وأوكرانيا بإزالتها للألغام التي سبق وقامت بزراعها في شاطئ مدينة أوديسة. وفي اعتقادي شخصيا أن هذه الحلول بعيدة نوعا ما عن التحقق، لذلك فقد وصفتها سابقا بالطوباوية، لأن روسيا تسعى لتضييق الخناق على أوكرانيا اقتصاديا حتى تجبرها على الاستسلام وإعلان الانهزام، لأن الحل الاقتصادي هو الذي بات يبدو ممكنا ما دام أنها فشلت في تحقيق النصر عسكريا! على الجانب المقابل، حتى لو أرادت أوكرانيا إزالة ألغامها فإنها لن تتمكن من ذلك لكونها لا تتوفر على التقنيات اللازمة لفعل ذلك، إضافة إلى كون الكثير من الألغام انجرفت بسبب المد والجزر، الشيء الذي يزيد من صعوبة الأمر. وأثناء كتابتي لهذا المقال، لم أستطع منع نفسي من التفكير في قول مغربي شعبي "ما قدو فيل زادوه فيلة" والذي يعني تقريبا أن المصائب لا تأتي فُرادى. وأقصد بذلك حالة التأهب التي بدأنا نسمع عنها في الأيام الأخيرة، والتي انطلقت بسبب ظهور بعض الحالات الغريبة لجدري القرود. هذا الاندلاع المفاجئ لمرض نادرًا ما يظهر خارج إفريقيا ظهر في دول أوروبا وأمريكا وأستراليا وكندا. وحسب آخر الأخبار فإن دولة بلجيكا بدأت في فرض الحجر الصحي ل 21 يوما على من انتقلت لهم العدوى. وعلى الرغم من أن هناك مصادر تفيد بأن العدوى بهذا المرض تنجم "عن مخالطة مباشرة لدماء الحيوانات المصابة أو لسوائل أجسامها أو آفاتها الجلدية أو سوائلها المخاطية. وتقول منظمة الصحة إنه وثقت في إفريقيا حالات عدوى نجمت عن مناولة القرود أو الجرذان الغامبية الضخمة أو السناجب المصابة بعدوى المرض، علما بأن القوارض هي المستودع الرئيسي للفيروس" حسب مقال للجزيرة تحت عنوان "ماذا تعرف عن جدري القرود الذي ظهر في بريطانيا؟ لكن ليست هناك ضمانات عن ظهور "تحور" للفيروس وتأقلمه مع الجسم البشري وظهور نوع جديد منه سريع الانتشار ويستطيع الفتك ببعض منا أو بنا جميعا؟ أليست متحورات "دلتا" و "أوميكرون" لفيروس كوفيد 19 أكبر دليل على انعدام الثقة في الفيروسات ومدى استطاعتها التكيف مع جسم الإنسان والتطور معه وإنتاج أنواع جديدة؟ لكن إذا كان من خلاصة يمكن أن نخرج بها من أزمات الفيروسات، وأزمات الحروب بصفة عامة أيضا، وغيرها من الكوارث: أننا نعيش في كوكب لم يعد يحتمل المزيد من الأنانيات الفردية أو الجماعية. لقد فرضت علينا العولمة أن نعاني من أخطاء بعضنا البعض، وأن ينعكس تهور البعض على البعض الآخر. علمتنا أيضا أن العبث بالطبيعة لا يمكن أن ينتج إلا الضرر، وأن استهلاك مواد أو حيوانات لم تكن مناسبة للاستهلاك هو ضد الطبيعة. أنه يجب إعادة النظر في طمع وجشع الشركات الصناعية العالمية. أنه ربما يمكننا التخلي والتنازل عن بعض الرفاهيات الباذخة في سبيل تحقيق نوع من التوازن والهدوء البيئي لسنوات قادمة. وأنه سواء اتفقنا أو اختلفنا حول هذه النقاط التي ذكرت، إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر أن استمرار سير العالم بهذه الطريقة لا يمكن إلا أن يوصلنا إلى كارثة عظمى بأسرع مما كنا نتوقع.