ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديث الإستحمار
نشر في هسبريس يوم 07 - 12 - 2008


حمار أوباما السبب!!!
في حديث ودي جمعني ببعض الزملاء والأصدقاء وكان الموضوع سياسيا يدور حول التحول الذي ستعرفه السياسة الأمريكية على يد رئيسها الجديد ذي الأصول الإفريقية الذي دخل البيت الأبيض على حماره ليطرد فيل بوش وكلبه بارني المختلف عن بقية الكلاب والذي رافق صاحبه منذ دخوله البيت الأبيض لغاية خروجه. هذا الخروج الذي أرخه بارني بعضة لأصبع "جون ديكير" مراسل تلفزيون رويترز عندما تقدم لمداعبته بالبيت الأبيض، وهو تعبير صارخ عن ألم وحزن ومرارة مغادرته البيت الابيض، كما صرح بذلك بعض الصحفيين وهوتعبير كلبي أكثر وضوحا من موقف بوش نفسه. وبالمناسبة قص علينا أحد المشاركين في الحديث طرفة صاحبت العد التنازلي للموعد المقرر لإجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث شهدت إحدى حدائق الحيوان بولاية كاليفورنيا إجراء عملية تصويت طريفة لم يشارك فيها سوى ناخبين اثنين من ذوي الأربع هما فيل وحمار وذلك على اعتبار أن الأول هو رمز الحزب الجمهوري في حين أن الثاني هو رمز الحزب الديموقراطي. ""
منظمو عملية التصويت وضعوا حاملين أحدهما حمل صورة لمرشح الحزب الجمهوري جون ماكين بينما حمل الآخر صورة لمنافسه باراك أوباما مرشح الحزب الوطني الديموقراطي.
وأسفرت نتيجة عملية التصويت عن مفارقة طريفة إذ أن رمز كل حزب اختار مرشح الحزب الآخر، أي أن الفيل اختار أُباما، بينما الحمار اختار بوش..
احتد النقاش بيننا حول دور الحمار والفيل في السياسة الأمريكية وذكاء كل منهما، واتفق الجمع في النهاية على أن الحمار هو الأذكى والأطيب، وأن الإنسان هو الأسوأ والأغبى، لكن عناد الكثير من أغبياء بني البشر هو الذي يدفعهم للتطاول والتنطع والاعتقاد بأنهم أفضل وأكثر ذكاءً من الحمير! إن من يقول بأن الحمر غبي وبليد فهو إما جاهل وإما حاقد. ذلك لأن من يصدر حكماً على جنس الحمير يلزمه أن يكون مُستحمراً و له باع أو صاع في علم الاستحمار على الأقل، أي أن يكون "حمارا " بفتح الحاء و تشديد الميم، كما نسمي نحن المغاربة كل من يهتم بالحمير.. وأنا متأكد بأن هؤلاء الذين يقولون بأن الحمار غبي وبليد ليسوا بمستحمرين بما فيه الكفاية، وأشك بأن لهم أبسط معرفة بأبجدية علم الحمير..
سيقول بعضكم متسائلاً: من هو المستحمر أو الحمار؟ وما هو المقصود بعلم الاستحمار؟ وهو سؤال وجيه، لأن السؤال مفتاح المعرفة كما يقال، وقديماً قالوا: اسأل تعرف. وقالوا: لا معرفة بدون سؤال، ولا طريق بدون حمار، وكما يقول المثال الدارج: "اللي بلسانه ما يتلف" و "الطرقان يديرها الحمار" .
وهو أمر صحيح إلى حد كبير، لأن الحمار هو أول من اكتشف الطرقات وشقها خاصة في المناطق الجبلية الوعرة. و ليست الطرق هي المهمة في بحتنا هذا. بل المهم هو أن الحمَار أو المستحمر شأنه شأن المستشرق والمستغرب. فكما أن المستشرق هو من تخصص في علم الإستشراق الذي هو علم دراسة طبائع وثقافة شعوب الشرق، والمستغرب هو من يبحث في ثقافات الغرب. فإن الحمار أو المستحمر هو من تخصص في علم الاستحمار الذي هو علم دراسة طبائع وثقافة وسلالات الحمير. وإذا كان من حق المستشرق والمستغرب وحدهما أن يتحدثا ويحاضرا ويكتبا ويؤلفا ويحكما على الشرق والغرب بحكم تخصصهما ومعرفتهما بالشرق والغرب وبلغتهما وتفكيرهما. فكذلك من حق الحَمَار والمستحمر وحده أن يتحدث ويحاضر ويؤلف الكتب عن الاستحمار، ويحكم على جنس الحمير ونوعيتها. ولكن المعرفة العلمية هي الأخرى بحاجة إلى ضمير علمي؛ فأن تكون مستشرقا أو مستغربا لا يعني أن الصورة التي تقدمها عن الشرق أو الغرب صحيحة دائما. فكم من مستشرق أو مستغرب أثبت بأنه عنصري وحاقد على الشرق أو الغرب وغير موضوعي في أحكامه. ونفس الشيء فإن ثمة حمَارة و مستحمرين ضليعين في علم الاستحمار أثبتوا أنهم عنصريون حاقدون بلا ضمير علمي، يكرهون الحمير ويمقتون "تحيماريت".
رغم أن الأيام عرفت حميرا كانت الشهب الوضاءة في تاريخ بلادها، ووقفت على قمم العظمة في عصورها، وتربعت على عروش الممالك والإمبراطوريات، وتصرفت بمقدرات البلاد والعباد، حمر ليست أمريكية لكنها لا تقل شهرة عن حمار أوباما الذي ملأت الدنيا أخباره و طرائفه إلى جانب صوره الجذابة، فإذا عُدتنا للتاريخ فلن نستطيع العبور دون المرور على حمارين شهيرين، أحدهما لا يختلف كثيرا عن حمار أوباما وبقية الحمير، والأخر يختلف إختلافا شديدا عن أقرانه. الأول هو حمار جحا الذي بنى شهرته على شهرة صاحبه (جحا) وبالتالي لم يكن له أي بصمة تجعله يختلف عن بقية الحمير في باقي أصقاع الأرض رغم أنه الأشهر بين الحمير. أما الثاني فأشتهر بفعله لا بفعل صاحبه والدليل على ذلك أن صاحبه ما زال يقبع في غياهب المجهول، وهو حمار الشيخ الذي تم ذكره في المثل المتداول "وقف حمار الشيخ في العقبة"!
لاشك أن وقفة هذا الحمار هي وقفة عادية يقفها أي حمار عادي في "الطالعة الكبيرة والطالعة الصغيرة وواد الزحول" يفاس دون أن نعير ذلك إمتماما، لكن ، ما يثير الإهتمام هو لماذا أصبحت تلك الوقفة رمزاً تاريخياً نَصِفْ به كل من عجز عقله عن إدراك أبسط البديهيات! هذا بالنسبة للتاريخ العام، أما تارخنا نحن المغاربة ففيه أيضا من مشاهير الحمير ما يغطي عين الشمس؛ كتلك الحمارة الشهيرة التي دخلت التاريخ من بابه السياسي الواسع طاردة جياد السلطان بمعية الثائر الأسطوري الذي شق عصا الطاعة على الملك في عصره، ونسب إلى رفيقته الحمارة، حتى سمي بها "بوحمارة" وبقيا نموذجين وأسطورة حية أمام كل المواطنين الغابرين والمعاصرين الذين لا يعرفون أي شيء عن أشهر حمارة في المغرب.
و رغم مرور قرن من الزمن على ظهور هذه الحمارة الثائرة، لازال الكثير من المغاربة لا يعرفون عنها و عن حَمَارها، بفتح الحاء وتشديد الميم" دون كشوط المغرب" المتمرد الذي حكم بعض القبائل المغربية لمدة 7 سنوات متتالية. فلم يُعرفوا عنهما إلا القليل والذي وصل للآباء والأجداد عن طريق الأزلية و لحلاقي، وسيلة التواصل و مسرح الناس في تلك الظروف، وبعدها جاء دور الصحف الشعبية التي كانت سائدة أنداك والمعتمدة على الإخبار من الفم إلي الأذن، فتصل المعلومة إلي المواطن حقا أو باطلا فيتقبلها بحفاوة ودون تمحيص في المغرب من أدناه إلي أقصاه
فأجيال كثيرة مرت دون أن تعرف شيئا عن هذا الثائر أو المعارض الذي روع وطنا بأكمله، وكانت له معاهدات مع الاستعمار الفرنسي و الأسباني تسببت في انحطاط المغرب وتدمير بنتيه التحتية والدفع به إلي عقد الحماية. كل الأجيال تضحك وتسخر من هذا الاسم المنسوب إلى أنتى الحمار وليس إلى ذكرها، فبمجرد ما يذكر أسمه في الحديث ماضيا أو حاضرا يكون موضوع استهزاء عند الكبار و الصغار، ربما لأنه خان وطنه، وشق عصي الطاعة علي أمير المؤمنين.لكن السبل تفرقت بالناس في معرفة حقيقته.
فهناك من يقول هو بوحمارة الروكي، الاإنسان الخائن والعنيد، والباقي تارة يقول عنه ثائر وتارة أخري يقولون عنه أنه معارض... حتى ضاعت حقيقته في خضم المعطيات المتضاربة والمتنوعة التي لا يمكن لأي كان الحكم على حقيقته من خلالها. ولا أن يستطيع أحد تصنيفه من بين نماذج ثوارالعالم المعروفة اسرارهم أنداك..إلا أن الجميع يتفق على أن حمارته هي التي مهدت له السبل للسيطرة علي أجزاء واسعة من المغرب، بما تتمتع به من موهبة _لا يتمتع بها الكثير من بني البشر- ما يسمى ب«ذاكرة الأمكنة»، حيث تحفظ الأمكنة والطرق والدروب و الأزقه عن ظهر قلب وتقوذه إليها وفيها بيسر وأمان،
حتى حقق حلمه وأقام مملكته التي جعل عاصمتها مدينة تازة وتوج نفسه أميرا بها ،بخاتمه السلطاني المزور، وحكومة، وحاجب ملكي وقائد البراد، وقائد المضل، وقائد الإسطبل ،وبعدها هاجم عدة مرات جيش المخزن.. وهذا بحد ذاته منتهى الذكاء وعلامة من علامات عبقرية الحمير.
فمن هو هذا الرجل الذي شغلت ثورته الحمارية، عددا كبيرا من رجال السلطة في المغرب، وكان شغلهم الشاغل هو البحث عن أخباره، وتطوراته وحركاته وسكناته
والذي كانت نهايته في قفص من حديد قرب باب البوجات بفاس. والذي يقول عنه المثل «طاح المغرب.. علقوا بوحمارة».
اسمه الجيلالي الزرهوني، وله لقبان الروكي وبوحمارة. كما أن كلمة الزرهوني مجرد لقب له لأنه ولد في مدينة زرهون قرب مكناس، ومنها استمد «نسبه الشريف» على اعتبار أن هذه المدينة هي التي نزل بها إدريس الأول عندما جاء إلى المغرب. أنه واحد من الأشخاص الذين حملوا أطول الأسماء. لقد أصبح اسمه الكامل مع الألقاب والملحقات هو عمر بن إدريس الجيلالي الزرهوني الروكي بوحمارة.
كان الزرهوني في بداية مسيرته المهنية موظفا في القصر السلطاني في مراكش. وبما أنه كان رجلا يمكن وصفه بأنه يشبه المثقفين في الوقت الحاضر، فإنه استطاع الحصول على منصب جيد وهو كاتب في القصر. استطاع أن يكتسب الكثير من الخبرة في مجال كتابة الوثائق وتوقيع العقود، وهو ما جعله يقدم على مغامرة تزوير وثائق رسمية، وحصل على مبالغ مالية كبيرة، كانت سبب إبعاده عن القصر السلطاني بتهمة التآمر على السلطان.
لم تطل فترة البطالة في حياة الزرهوني، ذلك أنه بعد فترة وجيزة من إبعاده، استطاع الحصول على منصب كاتب لدى حمو الحسن، قائد بني مطير. غير أنه غادر هذا المنصب سريعا، ليس لأنه ضبط يزور وثائق كما فعل في قصر السلطان، بل لأنه كان يعد لواحدة من أعتى الفتن أو الثورات في تاريخ المغرب. لقد تبخر الزرهوني من إقامة القايد حمو سنة 1901.
وبعد ذلك الاختفاء الغامض، وقضائه فترة من الوقت في الجزائر، بدأت الأخبار تتحدث عن ظهور رجل يجوب القرى والقبائل على ظهر حمارة، مبشرا بشيء لم يعهدوه من قبل.
السنوات الأولى لثورة بوحمارة كانت خليطا من الرغبة في الحصول على لقمة العيش والتطلع إلى حشد الأنصار والتبع.
ومنذ بداية ثورة أو فتنة بوحمارة، فإن كثيرا من المؤرخين وصفوه بأنه رجل طليق اللسان مرن الكلام، وأنه استغل معرفته بالعلوم الشرعية وبالفقه في استمالة سكان القرى والقبائل التي كان يمر منها. بل إنه كان خبيرا أيضا في السحر والتنجيم، وبرع في مجال الخدع السحرية وقراءة حركات النجوم ومواقع الأفلاك، وهذا امتياز كبير لم يكن يحظى به الكثيرون في ذلك الوقت، وهو ما جعل الجيلالي الزرهوني يستغل مواهبه إلى أقصى حد، فصارت دعوته تلقى القبول في أطراف كبيرة من شمال المغرب، في وقت كانت السلطة المركزية غارقة في بحر من المشاكل الداخلية والخارجية التي ستودي بالمغرب لاحقا إلى أتون الحماية الأجنبية.
ركب الجيلالي الزرهوني حمارته وصار يجوب القرى والقبائل انطلاقا من ضواحي فاس ومرورا بتازة ووجدة وانتهاء بقبائل الريف واجبالة. لقد أراد هذا الرجل أن يصنع من نفسه قديسا وسياسيا وداعية وحكيما وثائرا، وهو ما نجح فيه لفترة من الوقت، قبل أن تدور عليه الدوائر من جديد.
اختار الزرهوني منطقة شمال المغرب لأنها كانت في منزلة بين المنزلتين، فلا هي تابعة بالكامل لحكم السلطان في فاس أو مراكش، ولا هي مستقلة بالكامل عن الحكم المركزي، لكنها في كل الأحوال ظلت في منأى عن قبضة المخزن، وسكانها ميالون إلى الثورات والتمرد، وهو ما جعل بوحمارة يعتقد أن هذه المنطقة هي التربة الخصبة لنمو دعوته إلى الثورة والتمرد على السلطان.
ومنذ أن خرج الجيلالي الزرهوني من مكناس قاصدا مدينة تازة، فإنه ظهر للناس بمظهر الفقيه العالم الورع التقي المتعلم، فاكتسب الكثير من الأنصار في هذه المناطق، وهو ما شجعه على التوجه شرقا نحو وجدة ونواحيها، ثم تحول نحو منطقة الريف وقبائل اجبالة، وفي كل هذه المناطق كان يجد أنصارا يوالونه ويرفعون رايته ويحاربون إلى جانبه، وفي الوقت نفسه يجد معارضين أشداء يحاربونه إلى آخر رمق، ليس موالاة للمخزن والسلطان، بل كرها فيه وبغضا لثورته الغامضة.
عندما أحس الزرهوني باشتداد عوده، انتقل إلى المرحلة الأكثر أهمية في ثورته، حين زعم أنه الابن البكر للسلطان الراحل الحسن الأول، وأدلى لمن يشك في ذلك بوثائق تثبت نسبه السلطاني، وهي وثائق وضعها بعناية مستفيدا من خبرته الكبيرة في التزوير أيام كان كاتبا في القصر السلطاني.
تحول الجيلالي بوحمارة من مجرد ثائر ومتمرد إلى سلطان، وهذا ما حوّله إلى ظاهرة حقيقية، خصوصا وأنه استغل جيدا علمه بالواقع السياسي المغربي حين زعم أنه مولاي محمد ابن الحسن الأول، في الوقت الذي كان مولاي محمد الحقيقي سجينا لدى أخيه السلطان مولاي عبد العزيز. هكذا كانت المعلومة في يد الزرهوني قوة حقيقية. كان يعرف أن ادعاءه بنوة السلطان الراحل لن يشكك فيها أحد لأن السلطان الأب مات، والابن البكر الحقيقي مسجون، والسلطان عبد العزيز غارق حتى الأذن في لعبه وملذاته وملاهيه التافهة. كما أن أغلب المغاربة كانوا بعيدين عما يجري في دواليب البلاطات. إنها الثورة المناسبة في الوقت المناسب.
هكذا أصبح بوحمارة السلطان الشرعي لجزء من البلاد، وهكذا أصبح الاسم الذي ينادى به مزيجا من الازدراء والإعجاب، بين بوحمارة ومولاي محمد.
بعد ذلك سن بوحمارة ظهائر سلطانية وأسس عددا من الوزارات من بينها وزارة الطقوس المولوية وعين الصدرالأعظم، ووزارة أخرى سماها وزارة الطاعة والعبيد، أي أنه أصبح سلطانا بكل توابله.
بعد أن تحول بوحمارة إلى قوة ضاربة، استطاع أن يوقع هزيمة مرة بجيش السلطان سنة 1902، أي بعد سنة واحدة فقط بعد بدء تمرده على المخزن. ومما أعطى انتصار بوحمارة وهجه وزاد في شهرته بين القبائل، هو أن جيش السلطان كان يقوده الأخ الأصغر لمولاي عبد العزيز، المعروف باسم مولاي لكبير، وهو المنصب الذي تولاه شقيق السلطان برغبة شخصية من مولاي عبد العزيز، ليس لأنه خبير في الحروب أو ضليع في أمور الجيش، بل لأن هذا المنصب يوفر لصاحبه الكثير من الامتيازات، ليس أولها الاستفادة من الميزانية التي تخصص للجيش، وليس آخرها التلاعب في المصاريف وتحويلها إلى الحسابات الخاصة
إنها واحدة من الظواهر التي عجلت، ليس فقط بالسقوط في براثن الفتنة الداخلية، بل أيضا بتحويل المغرب إلى لقمة سائغة في أفواه البلدان الأوروبية المتربصة به.
بعد انتصار 1902، أصبح بوحمارة ظاهرة حقيقية وصار يفرض سطوته بين القبائل بلغة الترهيب والترغيب، وأصبح المخزن يحسب له ألف حساب.
لم يكن الحس السياسي والوعي الدبلوماسي ولعبة التوازنات غائبة عن ذهن بوحمارة، الذي قضى ردحا غير قصير من الزمن في خدمة السلطان، لذلك عندما أحس باشتداد شوكته وصلابة عوده واجتماع القبائل من حوله، سارع إلى عقد اتفاقيات مع فرنسا وإسبانيا، تسمح لهما باستغلال مناجم في المنطقة، حيث فازت فرنسا بصفقة لاستغلال منجم «أفرا» للرصاص، بينما بدأت إسبانيا في استغلال منجم «ويكسان» للحديد. ومقابل ذلك، حظي بوحمارة بدعم مالي من هذين البلدين، إضافة إلى تزويده بالأسلحة من أجل عصرنة جيشه المتعاظم في المنطقة.
لم تدم مسيرة هذا الثائر الغريب الأطوار أكثر من سبع سنوات، حين تفرق الحقد عليه بين القبائل، فتكالب عليه الأعداء من كل صوب، وكان أكبر أعدائه الشريف أمزيان، ذلك الزعيم الريفي الذي كان خصما عنيدا للمخزن، فتحول في زمن بوحمارة إلى أشد حلفاء السلطان، لا لسبب إلا من أجل القضاء على خصم مشترك. وبوحمارة لم يكن فقط خصما للسلطان، بل لعدد من القيادات والزعامات المحلية، وهكذا دارت الدوائر على الجيلالي الزرهوني حتى وجد نفسه في قفص يطاف به في أزقة وحارات العاصمة فاس كأنه حيوان نادر عثر عليه في غابات مجهولة. ويقول مؤرخون إن المخزن قدم الزرهوني إلى أسد جائع لافتراسه فتراجع الأسد لسبب لا يعرفه إلا هو، غير أن السيوف والخناجر لم تمهل بوحمارة طويلا، وهكذا انتهت مسيرة «السلطان بوحمارة الله حافظه»، كما كانت تقول العبارة الرسمية في ختمه الخاص.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.