كانت جملة صادمة تلك التي تفوه بها أمبرتو إيكو سنة 2015 حول وسائل التواصل الاجتماعي؛ ففي رده على سؤال لصحافي أثناء تسلمه دكتوراه فخرية من إحدى الجامعات، قال السميولوجي الإيطالي المعروف: "تويتر وفيسبوك، وغيرهما، مواقع أصبحت تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا في أي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء". هذه الجملة خلقت جدلا كبيرا في الأوساط الفكرية والسياسية في أوروبا التي رأت فيها نوعا من التعالي، على اعتبار أنه في المجتمعات الديمقراطية يحق للجميع أن يدلي بدلوه في أي نقاش عمومي. وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت في نهاية الأمر أداة يستعملها من لم تكن له إمكانية التعبير في الفضاءات العامة من قبل. هذه القراءة لم تكن لتغيب عن إيكو الذي كان قد صرح لجريدة "إلموندو الإسبانية"، أياما قليلة قبل جملته الصادمة، بأن "كل من يقطن هذه الأرض له الحق في التعبير، بمن في ذلك الحمقى والبلهاء". النقاش المفتوح حول سطحية المنتوج الذي أصبحت تفرزه وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكنه أن ينسينا أن الديمقراطية تتأسس على حوار لا حدود له بين كل فئات المجتمع. تفاهة المحتوى تكون آنذاك انعكاسا لهذا المجتمع أكثر مما هي أداة تقنن الحوار، تنظمه أو تساهم في تطوير آليات النقاش العام. من يلح على انتقاد ما آل إليه الخطاب السياسي أو الثقافي العمومي بسبب الأدوات الإلكترونية الحديثة يسقط في فخ خطاب نخبوي يعطي حق الكلام لدهاقنة المعبد فقط ويمنعه عن الآخرين، بالإضافة إلى إضاعة الوقت في نقاش بيزنطي لا فائدة ترجى منه. هذه الأدوات تسكن حاضرنا ولا شيء ينبئ بنهايتها في المستقبل القريب. إذن، لمواجهة الإسفاف الطاغي في الشبكة العنكبوتية، يلزمنا أن نقرأ الظاهرة بشكل شمولي ومتكامل. إنها ظاهرة إعلامية أخرى ترسخ ما يعرفه أي دارس أو محترف في مجال التواصل: البلهاء هم سر نجاح أغلب وسائل الإعلام. من يستمتع بالتفاهة هي الأغلبية العظمى في كل المجتمعات. زد على ذلك أننا في زمن تم فيه إلغاء دور الوسيط الذي كان من مهام الصحافي أو الناشر. النقاش العام لم يعد بالإمكان التحكم فيه كما كان قبل سيطرة عالم الويب. إننا في حرب ضروس وفي ساحة وغى مفتوحة وبدون أي قواعد ضابطة. منذ أكثر من أربعين سنة خلت، نشر أمبرتو إيكو كتابا عن مايك بونجورنو، نجم تلفزيوني بقناة "الرأي" ثم بقنوات "ميدياسيت"، لصاحبها بيرلوسكوني، وشرح عبره سبب نجاح البرامج التافهة، حيث أوضح أن المشاهد يحس بأهميته حينما تقدم له التلفزة نماذج سطحية: "إذا كان العالم هو ما نعرضه لك، فأنت أفضل". من هنا فإن محدودية نجاح البرامج الثقافية، مثلا، تنبع من كونها تبدو للمتلقي العادي كبرامج موجهة للنخبة ولا تهمه في شيء. القياس نفسه يجب استعماله مع وسائل التواصل الاجتماعي. التفاهة تجد لها صدى أكبر لدى الأغلبية العظمى، ولكن هذا لا يعني أي شيء. الاستماع للجميع هو ظاهرة صحية لفهم توجهات المجتمع، ومنها الانطلاق نحو بناء أفضل للمضادات الحيوية التي تحصن ضد كل أنواع الرداءة الممكنة. أول مضاد حيوي يجب الاستثمار فيه لخلق مواطن له القدرة على تمييز الغث من السمين، هو المدرسة، ثم الإعلام الجاد، بإعطائه الإمكانيات المادية والبشرية الكافية للحفاظ على مصداقية تنعدم بشكل عام في عالم التواصل الاجتماعي. التضييق على الإعلاميين الجادين كما يحصل في بلادنا ستكون له انعكاسات وخيمة إذا لم يتم تدارك الموقف في أقرب وقت. الحرب ضد التفاهة لا تكون بخطابات إقصائية أو نخبوية، ولا بترك المجال فارغا يبيض فيه ويصفر كل من هب ودب، بل بمواجهة واقع جديد تغيرت فيه كثير من المفاهيم؛ أولها أن النقاش العام لم يعد مقتصرا على مجموعة معينة، ولا أحد يمكنه اليوم أن يكون وصيا على كلام الناس، بمن فيهم المجانين والبلهاء. كلما أسرعنا في فهم هذه التحولات، أمكننا الانطلاق في خلق بدائل واقعية وقابلة للتطبيق. ما عدا ذلك، فهو مضيعة للوقت.