منذ مدة ليست بالطويلة كان أبرز سؤال يطرح نفسه على أكثر من صعيد هو جدوى الأفكار التي أثبت أصحابها أنهم عاجزون عن إنزالها إلى الشارع وتحويلها إلى " إيديولوجيا" يتثقف عليها الناس. في إشارة قوية إلى دور المثقف في إيصال رسالته إلى كافة شرائح المجتمع. إلا أنه مع توالي المتغيرات وتزايد دينامية الحراك الاجتماعي صار التساؤل لا عن أفكار المثقف وسبل لإيصالها بل عن المثقف نفسه، هذا الأخير الذي لم يعد المجتمع يسمع له همسا. فالقلة القليلة التي ما تزال تتوهج لا يتجاوز ضوءها أقبية مكتباتها وجدران الجامعة. هذه الأخيرة التي تبدو عاجزة موضوعيا عن القيام بوظيفتها المتمثلة في إنتاج معرفة تستجيب لحجم التحولات التي يعرفها المغرب، نظرا لضعف البنيات الأكاديمية القادرة على خلق تراكم معرفي أولا وعجز أطرها ومسيريها على مواكبة ما يفرضه مجتمع المعرفة وتحولات عالم العولمة. "" في خضم هذه التغيرات التي تستوجب حضور المثقف في الواجهة كما كان الحال في فرنسا مثلا، التي كان فيها جون بول سارتر خلال انتفاضات الشباب يخطب في الطلاب في ساحة السوربون، ومشيال فوكو يوزع المنشورات عند مدخل مصانع سيتروين وبير بورديو الذي كان حتى قبل وفاته بقليل حاضرا بقوة تنظيرا وممارسة (قولا وفعلا) إلى جانب المجتمع مقدمين بذلك صورة عن النموذج المثالي للمثقف أو ما يسميه غرامشي بالمثقف العضوي هذه النخبة تخلت عن دورها ووظيفتها في المساهمة في تغيير البناء المجتمعي لسبب من اثنين: إما مرتزقة أو جبانة والغالبية العظمى لمثقفينا مع الأسف الشديد تجمع الاثنين معا. مما ترك الساحة فارغة لظهور ما اصطلح عليه بالمثقف البديل. هذا الدور دور المثقف البديل الذي صارت تطلع به الصحافة في شقها "المستقل" التي تحولت إلى بديل عن الأكاديمي والمثقف، حيث تجاوزت مهمتها التأريخ اليومي إلى تكييف التمثلات العامة وصياغة المفاهيم المؤطرة للواقع وإنتاج قراءات وتحليلات ونقذ للوضع العام قد لا يكون المثقف عينه قادرا على القيام بها. وقد لا نبالغ إن قلنا أن بعض الآراء والمواقف التي صار يطرحها هذا المثقف البديل لم يحلم بها المغاربة يوما بالخوض فيها بل أكثر من ذلك المعارضة السياسية داخل البرلمان لم تفكر قط في إدراجها ضمن أجندتها النضالية. ولا أدل على كل ما قلنا من سياسة شد الحبل بين الدولة وهذا المثقف البديل المتجسدة في المضايقات والتهديدات بل والمحاكمات التي يتعرض لها بعض الصحفيين ( مصطفى حرمة الله، علي المرابط، أبوبكر الجامعي، علي أنوزلا، أحمد رضى بنشمسي ...) والصحف (المساء، الجريدة الأولى، لوجورنال، نيشان،...) بل يصل الأمر إلى الاعتداء كما كان الأمر مع الزميل رشيد نيني. وبإمعان النظر قليلا نلفي هذه المضايقات هي التي كان المثقف العضوي معرضا لها في وقت من الأوقات التي كان فيها قائما بدوره على الوجه المطلوب. قد يتساءل قارئ ويقول أن هذا مجرد وهم إذ غاية هؤلاء هي جلب القراء وتحقيق الأرباح في المبيعات. قد نسلم جدلا بصحة هذا الافتراض غير أن تفنيده ينكشف سريعا إذ كيف نمنطق دفع الأرباح ببعض الأفراد المكونين لهذا المثقف بالمخاطرة بحياتهم أو قضاء جزء منها وراء القضبان في سبيل دريهمات قد يحرم منها بقرار كما هو الحال مع علي المرابط ( المنع من الكتابة لمدة 10 سنوات). إن السؤال الحقيق الذي نرى أن المقام يفرض طرحه وبإلحاح هو مدى قدرة هذا المثقف البديل عن الاضطلاع بأدوار المثقف العضوي؟ بصيغة أخرى هل سينجح هذا المثقف في ملئ الفراغ وتحريك الجماهير؟ يبدو أن إدعاء الإجابة عن هذا السؤال أمر مبالغ فيه بيد أن مقاربته من نواحي عدة قد تكشف عن الجوانب من الجواب. ولعل أولها سيكون حول ما نطلق عليه إمكانية تجاوز النقد إلى البديل فالمثقف العضوي كان دائما صاحب بديل إذ لا ينتقد وضعا حتى يكون ذا تصميم وخطة لبديل عنه الأمر الذي يفتقد إليه هذا المثقف الجديد الذي استطاع فعلا تجاوز التأريخ لليومي كما سبقت الإشارة إلى ذلك إلى بلورة تصورات ورؤى نقدية وتفكيكية مهمة غير أنه ظل رهينا لها دون الوصول إلى إعطاء بدائل وحلول. هذا الأمر طبيعي في نظر البعض إذ لا يمكن أن نطلب منه أكثر ذلك، إلا أن الواقع والدور الذي يضطلع به صار يلزمه بتقديم بدائل بهدف التقييم والمحاسبة. أما ثاني تلك الجوانب فمتعلق بالثلاثي اللازم اشتغاله بمنطق سليم جنبا إلى جنبا لتحقيق معادلة التغيير الاجتماعي ألا وهو المثقف والصحافي والسياسي، فأي محاولة لطرف من هؤلاء الأطراف لتجاوز إطاره تجعله عرضة لتحديات قد لا يكون بمقدوره الإجابة عنها. هذه الأفكار وغيرها دفعتنا إلى كتابة هذه الأسطر حول هذا الوليد الجديد الذي ما إن وجد موطئ قدم لبه في الساحة المغربية حتى تفتحت عليه جبهات الحرب على أكثر من صعيد، فهل بمقدوره منازلة الخصوم والصمود في الحرب من جهة وإتمام دوره بفعالية ورسالية من أخرى؟ .. فلنترك الجواب لمستقبل الأيام لتكشف عنه. محمد طيفوري - طالب وباحث [email protected]