لا نغالي أو نزايد إن قلنا "خلقة معوجة"تلكم الخلطة الثاوية والجامعة لمدماك الثروة والسلطة،إنها علاقة عرجاء معتلة دب رنينها ولهيب رحيق حريقها في عمران السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وكل ما يدب على الأرض ،وكنست كل معاقل الشفافية والنزاهة ،وبسطت رحاب الريع وأغوت الكثير من النفوس ،وانتحرت الكثير من الكلمات والمواقف والمبادئ -وحتى الأخلاق- على أبوابها،كل شيء يعرض للبيع والشراء حتى عرض السياسة يباح وتنتهك حرمته،على مسامع ومرأى عامة الناس ،زمن يصعب معه التمييز بين الأشرار والأخيار ، زمن يهان فيه الكلام الطيب،زمن يكون فيه البقاء للأنذل والطالح الذي يتربص بكل القيم ويسوس ويدوس على رقاب الضعفاء، وكل من ولد وفي حلقه غصة تتحول مع قادم الأيام إلى نكسة بل نكسات متواترة تمضي في ترسبها وتربصها بكل صوت قد يعلو وتدفعه إلى أن يغفو أسفل سافلين وبدون رجعة أو انبثاق جديد. إن الجمع بين الثروة والسلطة مكرمة المحظوظين،لا تكفيهم الأطنان والأطيار،حيث يكثر الفساد والمحسوبية والزبائنية السياسية، وتطفو على السطح كل العلل التي تكتنزها القليل من "الملل" و"الشلل" وتدور على نفسها بين أحضانها وظهرانيها أيضا، كما إن زواج الثروة والسلطة وبال على المحرومين والمقهورين ،فقد أضحت علاقة مشبكة غائيتها الإستقواء ونيل الحظوة وكسب النفوذ وسحق الضعفاء من القوم. إن الجمع بين الاثنين فيه مهالك عظيمة تأتي على القيم والسياسة والمسؤولية والشفافية وعلى البناء الديمقراطي في كليته وهذا ما سنعمد على التفصيل فيه وفق العناصر التالية: أولا:سطوة السلطة والثروة ومهانة الذات. إن هذا الارتباط المفصلي بين السلطة والثروة فرض قانونه الخاص واستطاع أن يكسر جذوة الذات السياسية والماهية السياسية أيضا لدى الأفراد ،وأن يجعله منزوع الإرادة والضمير الأخلاقي،حيث أضحى مجرد "كائن مشيء" يفكر بمنطق استهلاكي محض يخضع لفروض منطق السوق السياسي في سياقه الربحي ،دونما إعارة أي اهتمام لقيم خدمة الصالح العام ،مما يجعل الفرد/المسؤول في حالة من التماهي المطلق مع القيم التي يفرضها قانون الجمع بين السلطة والثروة ،مما يؤول أيضا إلى استشراء مظاهر النفع الذاتي المطلق ومذهب الاسترزاق المعدي والمقوض لقيم خدمة الصالح العام. وهنا نكون بصدد حالة من الاحتواء والاستلاب الذي يرهن منطق اشتغال العقل السياسي في الفضاء العمومي والفضاء المؤسساتي ،حيث النزوع المرضي نحو خدمة الذات والانا وبنوع من الاستغراق الذي يعدم أي إمكانية في تشكل معنى السياسة، ولا يدفع في اتجاه إمكانية انعتاق الفعل السياسي من سطوة السلطة والثروة. ثانيا:إنتاج الاستبداد وتحصينه. إن التزاوج بين الثروة والسلطة له مقدرة عظيمة على إنتاج الاستبداد وإشاعته في دواليب الدولة وبجرعات متفاوتة،وهي عملية دفاعية وهجومية لتحصين مواقع المستمسكين بثنائية الثروة والسلطة ،حيث لا تستقيم الدمقرطة التي قد تشكل تهديدا واضحا من شأنه أن يقع على كيان الثروة والسلطة،وعليه تستثمر كل الممكنات والدفاعات القيمية والمادية لترسيخ الاستبداد وتكرسه في مخيال العقل السياسي، ورعايته بشتى الوسائل والأدوات والماكينات،مما يجعل الاستبداد بأشكاله يخدم ثنائية الثروة والسلطة ويخدم رجالاتها. فالزواج الكاثوليكي بين الثروة والسلطة ينجب السلطوية والتسلط والاستبداد في الكثير من الحالات ويشيد لنفسه هودج مسيج لا تطاله الأيادي المهدورة والمقهورة ،ويطبق على قلوبها ونفوسها. فالاستبداد بقيمه وفعله المادي الاكراهي يشكل نسق مانع ومقاوم لأي حقول مجتمعية مضادة تحاول النيل من اصحاب الثروة والمال،فهو جهاز صد منيع من الصعب اختراقه ويضمن عناصر الاستمرارية والديمومة لنخبة الثروة والسلطة وكل ما يتعلق بالدولة وبمؤسساتها وطريقة تدبير الفعل الدولتي في مقاربة السياسات العمومية ينطلق منها ويعود إليها وتقوم بنسجه وحبكه وفق ما يحفظ مصالحها وامتيازاتها. ثالثا:الباب الدوار revolving-door،و"العملة الرديئة من النخبة" تطرد "العملة الصالحة من النخبة". هل أصبح الولوج إلى عوالم السياسة ومناصب المسؤولية يخضع إلى حد الاقتران بامتلاك "تيكيت رجل الأعمال" ،حيث استفحل الأمر في الدول المتخلفة والأنظمة السلطوية والاستبدادية إلى الحد الذي لا يطاق ،مما اختزل صناع القرار السياسي في نخبة تشكلها طبقة من رجال الأعمال حيث أضحى أيضا جموح هذه الطبقة من رجال الأعمال في امتلاك السلطة والقوة لا يقاوم وتسخر الأموال في الحصول عليها من اجل تحصين موقعها وأموالها ومصالحها وضرب مصالح المواطنين وإضاعتها. وهذا نموذج لما يسٌمى في أدبيات العلوم السياسية بالباب الدوار revolving-door حيث يجٌمع رجال الأعمال بيٌن نشاطهم الاقتصادي ومركزهم بالسلطة،ويعتبرون المسالة أجدى استثمار يعود عليهم بالربح المعنوي والمادي ونيل الحظوة والجاه والمال ونيل رضا حب الذات والظهور والشهرة ،اي ارضاء سيل كامل من النوازع النفسية والسيكولوجية وثمة حقيقة ماثلة وثابتة تحت وقع التجريب والممارسة تدل على تميمة ومسلمة تواري الكفاءة خلف سلطة المال،حيث أصبح التجنيد والولوج إلى مواقع المسؤولية يخضع لمقدار سلطة المال دون إعارة أي اهتمام للكفاءة والخبرة ،وهي إستراتيجية استبعاد ذوي الكفاءة والخبرة ،فوزن النخبة مقترن بوزن المال وحجم الأرصدة البنكية،عندئذ تطرد العملة الرديئة من النخبة ،العملة الصالحة من النخبة،ويتركز دوران النخبة ويتحرك بموجب "دينامو المال" والسلطة ،وتكون هناك نخبة عابرة لكل المناصب والمسؤولية حيث تدور وتدور على الرغم من ثبوتية عدم جدارتها واستحقاقها ،ويكفي فقط أن تعلن عن ولائها الدائم لقيم نسق الثروة والسلطة وان تكون طيعة وان تبذل مجهوداتها في خدمة السلطوية بمختلف أشكالها وتشكيلاتها. ثالثا:"اختطاف الدولة". state-capture إن استخدام الأسر الحاكمة لسلطات الدولة من أجل الإثراء الشخصي تقترب من نموذج "اختطاف الدولة" state-capture "من حيثٌ كف الدولة عن تمثيلٌ الصالح العام وعوضا عن ذلك تتحول بإمكاناتها وسلطاتها إلى خدمة المصالح الخاصة للحكام والمقربينٌ منهم،بمعنى أن النفع والانتفاع من الأصول المالية والمادية يقتصر على الأسرة الحاكمة والنخب الموالية لها ،حيث يتركز المال وتثبت مناصب المسؤولية في يد نخب محددة موالية تستفيد من توزيع الريع مقابل إعلان ولائها وطاعتها ،وأمام هذا الوضع وهذه الترسيمة الحاضرة تتبلور مسالة في غاية الخطورة وهي "سرقة الدولة "،وهي سرقة موصوفة مع سبق الإصرار والترصد حيث توضع اليد على الأموال العمومية التي تكون مصدر للاغتناء الفاحش حيث تتم عمليات السطو والسرقة بإحكام ،وما يساهم في استفحال الأمر وبلوغه درجات عليا غياب المحاسبة والمسؤولية مادام الأمر يتعلق بنخبة حاكمة تهيمن على كل مؤسسات الدولة وتسخرها في خدمة دولة الاستبداد،ولاشك أن حجم الأموال العمومية المهدورة التي تم استثمارها خارج الدولة وتم الكشف عنها في دول الربيع الديمقراطي تبين معضلة اختطاف وسرقة الدولة في أعلى مستوياته وتجلياته. رابعا:"إلحاق أكبر قدر ممكن من المعاناة". وعلى غير العادة وفي سياق استحكام قانون سطوة السلطة والثروة ينتج منطق إلحاق الضرر بالأخر وإنتاج اكبر قدر ممكن من المعاناة،فهنا وفي إطار حقل السلطة والثروة نجد الأنا المعبرة عن العنجهية والتسلط والاستبداد مكمنها المسؤول،السياسي،النخبة،في مراكز القرار تعيش دائما في حالة من الصدامية مع الآخر الذي هو المواطن،فتزداد نسب الفقر والحاجة تحت مسوغات واهية وبداعي الحفاظ على التوازنات المالية،حيث يصبح الملف الاجتماعي رهين الحسابات التقنوية الضيقة،في ظل غياب العدالة في توزيع الثروة ،غير أن هذه الحسابات يؤدي ثمنها المواطن العادي المثقل بعبء الزيادة في الأسعار بينما ينعم الجامع للسلطة والثروة براحة وبحبوحة مستديمتين،فالمواطن هنا يلعب دور دفع المعاناة عن هذه الطبقة المحظوظة بينما يرزح هو في معاناة دائمة ،فيصبح مجرد أداة تسخرها الطبقة الحاكمة للاستدانة والاقتراض لتنميته بينما الأمر في الواقع يتحول إلى معانة يومية يتكبدها ولا يستطيع الانفلات منها. انه القانون الخاص بالتزاوج بين المال والسلطة الذي ارخى قواعده على العلاقات السياسية والاجتماعية واستطاع أن يفرض نفسه وفعاليته بما يغرسه من قيم واعتماده منطق اسر العقول والقلوب ليضمن نفاذيته ومفعوليته ،ويكون كمانع محوري في البناء الديمقراطي وتكريس قيم المحاسبة والشفافية،فالبقاء في ميدان السياسة يكون للأقوى ماليا وماديا،ويعرف من أين يدخل ويخرج وتتقوى لديه شوكة الخضوع والرضوخ والولوج إلى عوالم السلطة.