إن استحضار هذا التوصيف "قَوْمُ تُبَّع" هو نظير ما يطبع سلوكيات النخبة السياسية، والتي تفتقر إلى الاستقلالية بينما تتقن فن التبعية وتمتهن ثقافة الخضوع والانبطاح الكلي للسلطة،حيث تتنازل عن ذاتيتها وكينونتها ،وجسدها امتداد لجسد آخر هو من يحركها ويحدد توجهاتها وتصوراتها والفعل الواجب سلكه والقيام به، وهي تعمل وفق فروض وإملاءات وتعليمات السلطة أو" روموت كنترول السلطة" . فالنخبة تتنازل عن نفسها وعن ذاتها وتلبس الشخصية التي تحددها مختلف القوالب والنماذج التي تحددها السلطة ،لقاء قضاء مصالحها الشخصية الضيقة حيث تصبح كما تريدها أن تكون السلطة ،وعليه تفتقد الإرادة المستقلة وتصبح لديها شخصية انقيادية /استسلامية، وتخضع لتعليمات ولاءات السلطة ،وتأتمر بأوامرها وتنهى بنواهيها،مع ما تكتسبه من قيم خدمة السلطة وليس خدمة الشعب لأنها بكل بساطة نخبة السلطة هي من صنعتها وترعاها. ولعل الخوض في براثين موضوع النخبة السياسية يستتبع مقاربة جملة من الجوانب المرضية /الباثولوجية التي غدت سائدة ومتركزة والتي يمكن ذكرها فيما يلي: أولا: التوريث السياسي لا يختلف إثنان أن السمة الغالبة على النخبة السياسية في المغرب هي الطابع المغلق حيث تدور على نفسها وعناصر التجديد والتداول لا تتم إلا في السياق العائلي ،حيث تنتقل السياسة بين الآباء والأبناء ،فابن السياسي هو سياسي بالفطرة أو عن طريق الاكتساب أو عن طريق الجبر والغصب تحت ضغط الآباء ،فالابن يكون سر أبيه سياسيا ويتسلم شارة العمادة السياسية عندما يتقاعد الأب ليكمل مشوار التحصيل وتبوء المراتب الأولى وتحقيق ما عجز عنه الأب على المستوى السياسي ،فالأب السياسي يعبد الطريق لابنه في الأجهزة القيادية للحزب وفي المؤسسات المنتخبة كالمجالس الجماعية والبرلمان ،والتدرج في مراتب المسؤولية يتم بسرعة انسيابية مرنة ويبقى المناضل الحزبي مجمد في مكانه وقد يقضي نحبه دون نيل أي مكانة سياسية على خلاف ابن الزعيم السياسي الذي يولد وفي يده سعد سياسي من ذهب . ثانيا: إستراتيجية الاسترزاق بمعنى أن إيديولوجيتها السياسية مبنية على أساس قطف الثمار السياسية المصلحية الضيقة التي تخدم مستقبلها السياسي ،وبما يضمن نوع من الاستدامة لهذه الخيرات مع تدويرها على الأهل والأقارب وضمان أيضا تقاعد سياسي مريح ،فهي لا تفوت فرص وجودها في منصب عمومي لحلب الأموال العمومية وبقدر اكبر دون مراعاة فروض الضمير الأخلاقي ،وهناك حالات كثيرة ظاهرة أمامنا نتعايش معها يوميا دون آن تتعرض لأي حساب أو عقاب ،وإنما يتم تجزيتها لضمان صمتها مادام الأمر يتعلق بشبكة للفساد ممتدة ومتعششة داخل أجهزة الدولة ،فممارسة السياسة في المغرب بمعنى من المعاني تقترن إلى حد كبيير بالاسترزاق منها ونيل كرمات السلطة، حتى وإن كان ذلك على حساب المبادئ التي تباع في سوق السياسة وبأبخس الأثمان ،فالكل في حالة تأهب مستمرة لقبول الطلب والعرض لبيع أسهم المواقف وتبديلها وتغييرها وإدراجها في خندق تمجيد وتبجيل السلطة. ثالثا: النخبة السياسية وأنماط الشخصية يعتبر نمط الشخصية عنصر محدد لطبيعة سلوكيات وممارسات النخبة ،حيث نجد نماذج تطبع تصنيفات النخبة السياسية انطلاقا من الأفعال التي تقوم بها ،حيث تم الاقتصار على سرد بعض أنماط الشخصية التي تبقى ظاهرة وبائنة ،وهي كالتالي: 1- نمط الشخصية العمادية/الاتكالية: هنا نستحضر معطى غياب الفعالية في فعل النخبة السياسية حيث دائما ما تحيى في الانتظارية والتواكلية في علاقتها مع الملك،فتمثل أن الملك هو محور النسق السياسي الذي أضحى منغرس في حالتي الشعور واللاشعور يجعلها منكفئة على ذاتها وفعلها ومساحات تحركها واعتمالاتها لا تخرج عن الدائرة والحدود المرسومة سلفا ،فلا ينتظر منها أن تشكل جبهة للانخراط الجدي في إحداث نوع من التنافسية السياسية مع الملك وحتى منازعته حول مصادر ومنابع المشروعية،فالملك هو الفاعل وهو المبادر بالاصلاح السياسي والدستوري وهو الامر والناهي وهو من يرسم خارطة الطريق للفعل السياسي النخبي ،وهو من يحرك دوران النخب وفق الوتيرة التي يرتضيها وهو من يلعب على حبال ضمان التوازنات السياسية . 2- نمط الشخصية النرجسية إن "المغالاة في خدمة الذات ،تهميش المصلحة العامة وتقديس المصلحة الخاصة، إقصاء الآخر، استحكام منطق الاستحواذ والاستئثار بالمنافع السياسية ،طغيان النظرة التقديسية للسلطة والحرص على المناصب،التنكر للوعود والعهود ،استعمال القنوات غير المشروعة لتحقيق المأرب الشخصية ...الخ"،هي كلها طبائع النخبة السياسية الملازمة لسلوكياتها في التعامل والتعاطي مع الفعل السياسي ،والنوازع الأنانية هي المستحكمة في منظومتها العلائقية والممارساتية ،والفردية أيضا ،التي تقوض قيمة العمل السياسي الخلاق ،فكيف يمكن الرهان على هذه النخبة التي مرغت العمل السياسي في الوحل وأفقدته الكنه والجوهر الذي ينبني على خدمة قضايا الأمة بالدرجة الأولى . 3- نمط الشخصية المعادية للمجتمع من الملاحظ أن هذه النخبة السياسية التي تثقل كاهل حمولة خطابها من أنها نابعة من المجتمع وتعبر عنه وعن انشغالاته هي من تعاديه بدرجة أولى حيث كثيرا ما تتبنى سياسات آو تؤيدها حتى وان كانت لا تخدم المجتمع في شيء ،فهي تؤيده قولا وتعاديه فعلا ،وهي منقطعة الأوصال والوشائج مع الصرح المجتمعي وتنظر إليه نظرة استعلائية ،ذلك أن تدرجها في مراكز السلطة يعقبه نوع من الارتقاء الاجتماعي الذي يخدم تضخم الذات وتساميها عن باقي فئات المجتمع ،ذلك أن النخبة تخدم الأنا وتسقط من معادلاتها الأخر الذي هو المجتمع رابعا:غلبة قيم الطاعة والخنوع إن انتشار قيم الطاعة والخنوع بين صفوف النخبة السياسية بالشكل الذي يجعلها تتغذى بها وتنهل منها في فعلها السياسي يؤثر عليها بشكل كبير في التعاطي مع القضايا المجتمعية والشؤون السياسية . وحتي التفاعل بين المؤسسة الملكية والنخبة السياسية ينتج قيم الطاعة والخضوع حيث يعمد الملك من خلال علاقته مع النخبة إلى تكريسها وتمكينها من عنصر النفاذية من اجل صناعة "النخبة الطيعة" التي تبقى تحت الرقابة والضبط والتحكم الكلي. فالفعل السياسي للنخبة يتأسس على اشتراطات وفروض الجبرية وليس قيم الحرية في بلورة الآراء والتصورات وينضبط للاءات السلطة الابوية /الوالدية التي لا يعلى عليها حيث هي المستاثرة والمستحوذة على المجال السياسي،وسيد المجال الذي هو الملك يوظف مختلف الاستراتيجيات لإضعاف الخصوم وتفادي بروز حقول مشروعاتية مضادة. كما إن ماكينات إنتاج قيم الطاعة والخنوع لا تبذل مجهودات كثيرة لتحقيق أهدافها مادام أن هذه النخب تحمل في جعبتها هذه القيم وبنوع من التبني المطلق الغير قابل للتفكك عند ولوجها عالم السياسة ولقائها السلطة . وفي الولوج إلى مجرات السلطة والارتماء في حضنها يستتبع إحداث مسح ذهني كلي للنخبة وتركيب عقلية تفكيرية جديدة ،وهذا الأمر يظهر على مستوى بعض النماذج من النخب السياسية التي لم تستطع الصمود أمام إغراءات السلطة واستسلمت لمصيرها وحتمية خدمة السلطة والانقلاب على الحديث باسم الشعب وأضحت تشرعن كل التصرفات والممارسات السلطوية تحت مسوغ حماية الأمن والاستقرار ،وكأن دمقرطة النسق السياسي سيؤول إلى زعزعة الاستقرار وإشاعة الفوضى وهي تبريرات واهية ،وحتى الصدح بكلمة الحق والتعبير عنها في الفضاء العمومي غدت محرمة وممنوعة . إن العقد السياسي الناظم لعلاقة المؤسسة الملكية بالنخبة السياسية يندرج ضمن نموذج عقود الإذعان التي تنبني على خضوع إرادة النخبة لإرادة الملك والانتظام وفق تراتبية تجعل من الملك يتربع على القمة بينما توجد النخبة السياسية في قاع الهرم السياسي ،وهي رهينة بتجسيد الطاعة العمياء وغير مطلوب منها أي مناقشة أو سجال أو تحاور أو نقد ،مسلكياتها الولاء والطاعة والخنوع وهي لازمة لا محيد عنها لضمان البقاء والاستمرارية في نيل الرضا والرعاية. و تبقى طقوس حفل البيعة اكبر تجسيد لقيم الخضوع والطاعة التي تعبر عن تعالي وتسامي جسد الحاكم عن جسد المحكوم،في صورة وعلى شكل تراجيديا تمرر خطاب سمو جسد الملك على جسد الأمة ،وبالتالي فقيم الطاعة والخنوع تتجسد من خلال الجمع بين انحناء الجسد والالتزام بالتعليمات والأوامر ،فالامرية هي بمثابة الركن الركين في علاقة الملك بالنخبة . خامسا: الاستثمار الأجدى في المناصب السياسية إن حضور مفهوم السوق السياسي ومكاسب الربح والخسارة تجعل نظرة النخبة للممارسة السياسية جد ضيقة ،حيث يشكل المنصب أجدى استثمار بالنظر إلى عوائده المادية والمعنوية وما يفتحه من أبواب تمكنها من الإيغال في الربح والكسب السياسيين ،فكل فرد داخل النخبة يسيطر عليه منطق التفكير الربحي والسريع كأولوية يجب السعي وراءها مما يساهم في كثير من الأحوال في إفساد السياسة خصوصا عندما تكون هناك طموحات تؤطرها سلوكيات غير مشروعة وصراعات يحركها التنافس غير الشريف ،وعليه تتم عملية الإسقاط والاستئصال الجبريين لفكرة التمسك بتحقيق المصلحة العامة التي تظل مغيبة عن التفكير الجمعي النخبي،وحتى الأحزاب وبالنظر إلى مغريات التخندق في صف السلطة لا تفوت فرص وجودها في الحكومة لتثبيت أوتادها داخل مراكز السلطة من خلال تمكين أعضاء أحزابها من مناصب سياسية ووظائف عمومية تضمن لها الاستمرارية والديمومة في الاستفادة بمعنى خلق "حراس المنافع والخيرات "السياسية وكوسيلة لتشبيك قضاء المصالح وتعضيدها وصونها من الاندثار او الاندحار .