عندما نتكلم عن الإصلاح السياسي، نقصد بذلك،من وجهة نظرنا، اتخاذ الإجراءات الضرورية لتحويل المنظومة المؤسساتية إلى رافعة للتنمية بما في ذلك الإرتفاع المستدام لنسبة النمو، وتحسين مستوى العيش إلى درجة تمكن من ترسيخ القيم الإنسانية والكرامة المجتمعية. وعليه، أصبح مؤشري التنمية البشرية ومستوى حدة الفقر من المؤشرات التي يعتمد عليها لقياس نجاعة دور المنظومة المؤسساتية في ميدان التنمية بالنسبة للدول السائرة في طريق النمو. فعندما تتفشى ظاهرة الفقر وتتسع الهوة بين الفقراء والأغنياء، تطرح إشكالية مصداقية المؤسسات. وبما أن طبيعة المؤسسات لها صلة وطيدة بالنسق السياسي، يبقى مستوى الفقر والتهميش الإجتماعي في بلد ما مرتبط إلى حد بعيد بمنطق الممارسة السياسية به. "" فإلى جانب أهمية العامل المؤسساتي، أبرزت مجموعة من المفكرين تأثير العامل الجغرافي في تفشي ظاهرة الفقر والتخلف. فعامل التموقع الجغرافي وارتباطاته بطبيعة التضاريس والمناخ يفترض أن يكون من ضمن العوامل المحددة لتوفير شروط التنمية والتقدم. واعتبارا لما سبق، سنتناول هذا الموضوع باستحضار فرضية وجود علاقة تناسبية بين ظاهرة الفقر، وطبيعة النسق السياسي، وتأثيرات العامل المؤسساتي وعامل الجغرافيا. وسننطلق من تقديم فرضيتين اثنتين وتحليلهما لنتوج هذا المقال بالإسهام في تقييم الوضع المغربي كنموذج. الفرضية الأولى: إن العامل الجغرافي، المرتبط بعاملي المناخ والإيكولوجيا، يحدد إلى أبعد حد المستوى التكنولوجي للمجتمعات ومستوى تحفيز وتنشيط أفراده وإسهامهم في تنمية بلدانهم. وبذلك تصبح النظرية البيئية الطبيعية عاملا رئيسيا لتفسير ظاهرة الفقر. الفرضية الثانية: وهي فرضية مؤسساتية ومرتبطة بطبيعة تدخلات المواطنين في إطار النسق السياسي الذي يعيشون فيه. إن التوفر على مؤسسات قوية وبجودة عالية يعد مرتكزا أساسيا لبناء الإقتصاديات الوطنية حيث يمكن من تشجيع الإستثمار في التجهيزات الأساسية والبنية التحتية وفي الرأسمال البشري وفي التكنولوجيا الحديثة وبالتالي تضمن الرفاه الإجتماعي. وبناء على محتوى الفرضيتين السالفتين، نضيف فرضية ثالثة ترجح فكرة كون المغرب يسير بخطى ثابتة نحو بناء المؤسسات وتسخيرها للتنمية والتأهيل الشمولي للبلاد. ظاهرة الفقر ما بين العامل المؤسساتي وعامل الجغرافيا من خلال تقارير المنظمات الدولية، يتضح أن العالم يعيش فوارق كبيرة في مستوى عيش الشعوب بين الدول الغنية والدول الفقيرة. إن الدخل الفردي لسكان بعض الدول الإفريقية يقل الدخل الفردي المتوسطي الأمريكي بعشرين مرة. فإضافة إلى اختلاف الظروف الجغرافية، نجد أن الدول الفقيرة، إضافة إلى عدم توفرها على أسواق إقتصادية نشيطة ومرتبطة بالإقتصاد الدولي في إطار التجارة الحرة، تشكو من ضعف المستوى التعليمي والتربوي والتكنولوجي ومن عجز كبير في التجهيزات المشجعة للإستثمار. وبالمقابل نجد دولا أخرى أصبحت جد متقدمة رعم قساوة العامل الجغرافي (اليابان كنموذج). وهنا تصبح الإجابة على السؤال التالي شديدة الأهمية: لماذا لم تتمكن الدول الفقيرة في العالم من خلق الدينامية الضرورية لتنشيط أسواقها الإقتصادية، ومن التوفر على رأسمال بشري قوي وحيوي، وعلى الاستثمارات الهيكلية المنتجة للتراكم، وعلى التجهيزات والتيكنولوجيا الحديثة الواعدة؟ إن إستحضار تجربة بعض الدول التي تمكنت من التقدم والرقي رغم قساوة ظروفها الجغرافية خصوصا عاملي المناخ والتضاريس، يرجح كون عامل الجغرافيا ليس عاملا حاسما في تبرير ظاهرة الفوارق الإجتماعية بين الشمال والجنوب. إضافة إلى هذا المبرر، هناك مبرر تأثير الإستعمار في التحول المؤسساتي (الوضع المؤسساتي ما قبل، وإبان وبعد الإستعمار). ففي مرحلة ما قبل الإستعمار، جل الدول المستعمرة كانت متقدمة نسبيا وتنعم بمؤسسات اجتماعية واقتصادية وسياسية مستقرة باعتبارها نتاج لتفاعلاتها الداخلية، إلا أن تدخلات المستعمر فرضت تحولا عنيفا في طبيعة مؤسساتها ليسهل السيطرةعليها ونهب خيراتها. وبعد حصول هاته البلدان على الإستقلال لم يمكنها عامل الجغرافيا من تدارك التراجع الذي راكمته طوال سنوات الإستعمار. ومن هنا، يبقى العامل المؤسساتي حاسما في تحرير الإمكانيات البشرية والطبيعية لخلق الغنى والرقي. فجودة المؤسسات تتجلى في جعل حق الملكية من نصيب كل المواطنين في إطار إحترام القانون ومبدأ المساواة. إن الشرعنة المؤسساتية لهذا الحق عليها أن تفضي إلى جعل الإستثمار والمشاركة في الحياة الإقتصادية من مسؤولية ومن حق الجميع كما من شأنها أن تحد من احتكار النخب والسياسيين الأعيان والتكتلات القوية للمنتوجات الوطنية وللمردودية الكبرى للإستثمارات العمومية. وعند هذا المستوى يبرز سؤال جوهري آخر: ما دام العامل المؤسساتي عامل محدد للتنمية والتقدم، فلماذا تستمر بعض المجتمعات في انتاج مؤسسات بدون جودة والتي تتوفق باستمرار في إعادة إنتاج نفسها والتحكم في مصير مواطنيها بالرغم من ديمومة النتائج الرديئة؟ لقد أفادت التجارب والدراسات الحديثة الميدانية منها والنظرية، أن الإنتقال من مؤسسات متقاعسة ورديئة إلى مؤسسات قوية مشرعنة إجتماعيا يبقى رهينا بمدى قابلية النخب المسيطرة والمتحكمة في السلطة لقبول انخفاض نصيبها من المنتوج الوطني في فترة البناء المؤسساتي بدون امكانية تعويضها اعتبارا لمكانتها السلطوية والسياسية (حالة النمسا وهنغاريا وروسيا في القرن التاسع عشر). فهذه البلدان، خوفا من زحف الرأسمالية بثورتها الصناعية وتأثيرها على سلطة النخب الحاكمة وامتيازاتهم، قامت بعرقلة التصنيع وحتى عملية إنجاز التجهيزات الخاصة بالسكك الحديدية للحفاظ على أنظمتها القديمة. ومن جهة أخرى، إن إستمرار المؤسسات ومقاومة الإصلاح لا يعني أن المؤسسات لا تتغير ولن تتغير بل بإمكانها أن تتطور في حالة توفر الإدارة السياسية عند المجموعات المتحكمة في السلطة لخلق التغيير وفرضه على الجميع من خلال توفير شروط الإلتقائية مع المجتمع لانتاج تعاقد بأبعاد مختلفة يقرر من خلالها تعويض النخب الحاكمة بالشكل المناسب بعد انجاز الإصلاحات بل وحمايتهم من التداعيات السلبية لهذه العملية. 2- مستقبل المغرب ورهان الإصلاح المؤسساتي إن الموقع الجغرافي للمغرب بواجهتين بحريتين تجعل من الجغرافيا عاملا مساعدا لرفع تحدي التنمية. كما أن تنوع تضاريسه (السهول الصالحة للزراعة، الجبال، والهضاب، والصحراء، والوديان بمنابع داخل التراب الوطني،...) تجعل من إمكانياته الطبيعية مكسبا اقتصاديا كبيرا. ففي ميدان السياحة مثلا، يتوفر المغرب على إمكانيات ضخمة قادرة على تمكينه من لعب أدوارا ريادية في هذا القطاع (سياحة السواحل البحرية، سياحة الرمال، سياحة الجبال، وسياحة الغابات،..). فإضافة إلى ملائمة الظروف الطبيعية، فالوضع المؤسساتي بالبلاد يستحق التأمل والتحليل. فمن خلال تتبعنا للأحداث السياسية بالمغرب، يمكن أن نقر أن مسلسل المصالحة والبناء المؤسساتي ابتدأ منذ مطلع التسعينات. فبعد فشل محاولة التناوب الأولى بسبب رفض أحزاب الكتلة وعلى رأسها الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية المشاركة في حكومة تضم وزير الداخلية إدريس البصري، قام المرحوم الحسن الثاني بخطوات أبانت عن الإرادة السياسية في خلق التغيير ومباشرة البناء. وتأملا في الأحداث السياسة ابتداء من 1990، يبدو وكان أول هدف استراتيجي رسمه الملك الراحل هو إضعاف سلطة وقوة إدريس البصري وإستغلاله في عملية إنجاح المفاوضات بشأن التناوب. وعليه، ومن أجل إعطاء الإنطلاقة لمسلسل الإنفتاح، قام الملك الراحل بعدة خطوات مهمة ذات طابع خاص والتي نذكر منها: -في 13 شتنبر 1991، تم إطلاق سراح أشهر معتقل سياسي بالمغرب أبرهام السرفاتي. إلا أن هذا العفو لم يحقق هدفه بسبب عرقلة البصري الذي قام بنفي هذا الرجل إلى الخارج بدعوة أنه "ابرازيلي الجنسية". -في 23 أكتوبر 1991، تم إطلاق معتقلي تزمامارت الأحياء. -في 20 غشت 1992، تم تقديم مشروع إصلاح دستوري والذي نص بالواضح على ضرورة احترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا. -خلق وزارة خاصة بحقوق الإنسان في الحكومة التي تم تعيينها بعد الإنتخابات التشريعية لسنة 1993. -البحث عن جيل جديد من الوزراء لخلق القطيعة تدريجيا مع منطق الإستوزار السابق. ففي مرحلة 1993-1997، قام الحسن الثاني بثلاث تعديلات حكومية ركز من خلالها على تحرير العمل الوزاري من ضغوطات وزير الداخلية من خلال اختيار شخصيات وازنة وبالتالي دفعه للتركيز أكثر على مهاماته الرئيسية والتي تتجلى بالخصوص في خلق شروط إدماج المعارضة في الحكم . -في سنة 1995، تم السماح للفقيه البصري للدخول إلى تراب المملكة بعد 30 سنة من المنفى في الخارج. -في 20 غشت 1996، أعلن الملك على إصلاحات دستورية جديدة نالت موافقة المعارضة ما عدا حزب منظمة العمل الديمقراطي. فبالرغم من إدراج مقتضيات احتياطية أو احترازية لصالح نظام الحكم (الحفاظ على الفصل 19، خلق غرفة برلمانية ثانية سميت غرفة المستشارين يتم انتخابها بشكل مباشر وتمكن الملكية من مراقبة التناوب). فحسب تقديرات المرحلة، كانت التعديلات مشجعة للدخول في مرحلة جديدة في الحياة السياسية المغربية. انطلاقا من نتائج الاستحقاقات التشريعية لسنة 1997، توفرت الشروط السياسية لإنجاح مهام السيد عبد الرحمان اليوسفي في تشكيل حكومة توافق وطني. وأعتقد أن الموافقة على استمرار إدريس البصري في منصبه كوزير للداخلية كان قرارا صائبا. فاستمراره في ممارسة اختصاصاته الحكومية، مكن أعضاء الحكومة من استغلال المعلومات التي كان يتوفر عليها والسلطة التي كان يمتلكها وتسخيرهما لإنجاح مهام الحكومة. -تعيين جيل جديد من العمال والولاة وتنصيبهم من طرف أعضاء حكومة التناوب التوافقي ثم دعوتهم فيما بعد للاجتماع مع الوزير الأول، ونتيجة لهذه الخطوات المحسوبة استراتيجيا، تم نقل السلطة بسلاسة كبيرة إلى جلالة الملك محمد السادس. وبعد هذا الحدث التاريخي، أعطيت الانطلاقة للاستمرارفي بناء المؤسسات بمنطق جديد وبإستراتيجية شمولية. وفي هذا السياق، نقتصر على ذكر بعض الخطوات والإجراءات البارزة التي ميزت العهد الجديد: -التصريح الرسمي منذ البداية بضرورة نهج منطق جديد في الفعل العمومي ينبني على أساس سياسة القرب والتصدي لظاهرتي الفقر والتهميش الاجتماعي. -الإسراع في تحقيق مكتسبات جديدة خلال السنة الأولى من عمر العهد الجديد: دعم حرية التعبير، الاعتراف بضحايا سنوات الرصاص، إعفاء إدريس البصري من مهامه، تدعيم الوحدة الرمزية للبلاد بما في ذلك الأقاليم الجنوبية والريف، تدعيم الثقة بين الفاعلين السياسيين والمؤسسات الرسمية للبلاد، التحويل التدريجي للمنطق الأمني البوليسي إلى الحكامة الأمنية، السماح لكل المنفيين بالرجوع إلى الوطن مع تصحيح وضع أبراهام السرفاتي،... -في غشت 1999، تم خلق لجنة ملكية لتعويض ضحايا سنوات الرصاص. -فتح النقاش الجاد في القضايا الحساسة ومأسستها وتقنينها : وضع المرأة والأسرة، الأمازيغية، حرية الصحافة، الإصلاح الديني،... -تعيين جيل جديد من الولاة في المدن الكبرى مع تولية مهام وزير الداخلية للسيد إدريس جطو أحد أكبر رجال الصناعة بالمغرب. -إعطاء أهمية قصوى لتنمية الموارد البشرية (التعليم، والصحة، والسكن) لتقوية مناعة المواطنين اتجاه الخطابات التطرفية الرجعية. -تثبيت الثقة بين المؤسسات السياسية واستحالة افتراض إمكانية الرجوع إلى سنوات الصراع. لقد أكد جلالة الملك مرارا أنه ملك لكل المغاربة. فالملكية في عهد محمد السادس ليست في حاجة لمن يدافع عنها. ومع هذا الوضع المتقدم في مؤسسة البلاد، أصبح من المستحيل تقسيم الأحزاب المغربية إلى مدافعة ووفية للعرش وأخرى معارضة. -اعتماد نظام اللائحة في الاستحقاقات التشريعية للتقليص من حدة الرشوة وظاهرة شراء الذمم. -دعم اللاتمركز بتفويت اختصاصات كبيرة للعمال والولاة خصوصا في ميدان الاستثمار (خلق المراكز الجهوية للاستثمار). -الإعلان والحرص على تفعيل المفهوم الجديد للسلطة والسعي لتحقيق شروط الحكامة الجيدة . -التعبير عن الإرادة في الاستمرار في تقوية الطابع المؤسساتي للعمل السياسي والابتعاد التدريجي عن البدع الاعتيادية كالمطالبة بضرورة خلق تعاقد سياسي جديد مع الملكية. إن أصبحت القضايا الكبرى للأمة تطرح على الخبراء ذوي الاختصاص للتفكير والبث فيها وتقديم المقترحات العملية المناسبة لتنفيذها. فبعد تقديم تقرير الخمسينية كخريطة طريق لمغرب القرن الواحد والعشرين، تم إعتماد نفس المقاربة ونفس المنهجية لتدعيم الجهوية بالمغرب (الخطاب الملكي الأخير بمناسبة عيد المسيرة لسنة 2008). إن الاستمرار في ترسيخ هذا المنطق سيمكن المغرب لا محالة من تجاوز مفهوم التعاقد مع الملكية ليحل محله تعاقد الأحزاب مع المجتمع، -التعبير عن الإرادة السياسية في إنجاح المشروع المجتمعي الحداثي من خلال مبادرة إرجاع تدريس الفلسفة في الأسلاك التعليمية، ومحاربة الأمية وإصلاح المقررات والمناهج التعليمية، وإصلاح الحقل الديني،.... ومن خلال ما سبق، يتضح جليا أن وثيرة الإصلاح في طريقها إلى زعزعت النزعات والتكتلات السياسية المحافظة والمقاومة للتغيير ومن تم تحقيق الارتقاء المؤسساتي وتسخيره لخدمة القضايا الوطنية بنجاعة ومردودية كبيرتين. وبخصوص الأحزاب المغربية، فبعد نجاح حزب العدالة والتنمية في مؤتمرها الأخير، عبرت الجولة الثانية من المؤتمر الثامن للإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية على نضج سياسي يستحق المتابعة والتشجيع. إن انتصار الديمقراطية وتقارب النتائج التي حصل عليها المتنافسون على الكتابة الأولى في عمليات انتخاب الأجهزة الحزبية الوطنية أبان عن انفتاح وانفراج سياسي بالغي الأهمية. وفي انتظار نتائج مؤتمرات باقي الأحزاب، يمكن أن نأمل في تحسين الأداء السياسي بالبلاد في المستقبل القريب. واعتبارا لما سبق، يمكن القول أن المغرب يتوفر على كل الحظوظ لتحويل مجهوداته لتقوية مؤسساته وموقعه الجغرافي إلى عاملان لتحقيق موقع متقدم على المستوي الجهوي والعربي والإفريقي وبالتالي إمكانية تحويل شراكته المتقدمة مع الإتحاد الأوروبي إلى اندماج فعلي في حضيرته.