يردد العديد من الناس عبر الملتقيات والندوات والمؤتمرات والخطب واللقاءات والأحاديث التي تروى هنا وهناك " العيش الكريم" أو " الحياة بكرامة " كمطلب فردي وجماهيري ، وكجزرة تعد بها السلطة الشعب لجعله يطمئن إليها، ويؤمن بأن شؤون حياته بين أيدي أمينة، همها السهر على تحقيق الكرامة للإنسان، وتمكينه من شروط العيش الكريم والحياة بكرامة. لقد اقترن ذكر " العيش الكريم" بالعديد من المواقف ، وصيغ كشعار أو نوايا" للمسؤول" على تسيير وتدبير شؤون جماعة أو جهة أو دولة ما . ثم تحول بفضل النضال إلى حق لا يجب تركه أو هضمه أو التغاضي عنه . فتحقيقه على أرض الواقع ، مؤشر على صدق في الحكامة ، ونضج الديموقراطية في مكان ما على البسيطة . "" ولو رجعنا شيئا ما إلى الوراء ، ونبشنا في أرضية التاريخ الإنساني لعثرنا على أكثر من دلالة لمفهوم " العيش الكريم " . فإنسان المغاور والكهوف مثلا ، كان " العيش الكريم " يمثل بالنسبة إليه: سمكة من واد أو بحر أو لحم حيوان بري مع رغيف حنطة ، فلحظات نوم وراحة . ثم تطور مفهوم " العيش الكريم " عبر الزمن ، وتمشيا مع تقدم الانسان ، من المزراع إلى الصانع ، إلى غاز للفضاء . وكل مرة يحصل فيها تطور أدوات الحياة ينعكس ذلك سلبا أو إيجابا على عيش الإنسان . وكلما حصل اكتشاف شيء جديد ، إلا وتجدد معه مفهوم الحياة ، وطريقة عيش هذا الإنسان . لكن إذا أردنا تعريف " العيش الكريم " فحتما لن نستطيع حشر المفهوم في إطار واحد ، وعوض الحديث عن عيش كريم واحد ، يصبح الكلام عن أكثر من عيش كريم . فالمال ، والخدم والمزارع والمصانع ، ليست مؤشرات على تحقق " العيش الكريم في حياة فرد ما ، والحياة مليئة بالأمثلة الواقعية. والجرائد والصحف وحديث الشارع حبلى بوضعيات أناس مختلفة المشارب والتطلعات والأفكار والاستعدادات، فمنهم تجار كبار، ومسؤولون حكوميون، ورجال أعمال يملكون الشيء الكثير ، ومع ذلك هم في حيرة دائمة ، وقلق مستمر، وخصاص مرضي للمال . بينما هناك في جهة أخرى من الناس من يملك كوخا على البحر ، وقصبة صيد الأسماك، ومع ذلك هو من الحامدين الشاكرين لأنعم الله . ولنتصور أن كل الكادحين ، وكل الفقراء ، وكل الغاضبين استفاقوا يوما على كلمة واحدة لا ثانية لها ، يرغبون في" العيش الكريم " من عمل كريم ، ومسكن لائق ، وتغذية متوازنة ، وفضاءات للنزهة ، ومصحات ، وأندية ، وغيرها بلا تماطل أو تأخير من الجهات المختصة والمسؤولة . دون شك ستكون ورطة الورطات بالنسبة لأي حكومة. لكن مشيئة الله جعلت الناس مختلفين متفاوتين في الرزق وفي النظرة إلى الحياة /فمنهم من يراها زائلة فلا داعي لظلم النفس والتكليف عليها ولا لظلم الغير، ومنهم من يرى بأنها فرصته ، وسيكون غبيا لو أضاعها لو سمحت له الظروف للسرقة والنهب . هناك إذن من الناس من يقنع بما أوتي من رزق ، وهناك الهلوع الذي لا يقنع ولا يقتنع . هنا الفرق في دلالة " العيش الكريم" . فالمتصوف مثلا ، العيش الكريم عنده " الزهد "، بينما آخر " العيش الكريم " عنده هو المتاع ، والمال ، والسيارة (آخرموديل)، وبنات شقروات ، وليلة حمراء هنا وهناك على نغمات خرير مياه الخمور . لو اقترن " العيش الكريم " بالمال - وبالمال هناك إمكانية شراء كل شيء إلا الكرامة . لأن من سيمنح " الكرامة " بالمال فقط منافق ،كذاب – فما الذي يدفع أباطرة المخذرات للتمادى في تزويد الأسواق ، وقتل الأرواح – لأن من يستهلك مخذر فهو ميت ،حي – وأرصدتهم تعد بالملايير في البنوك في الداخل والخارج ؟ أهم يبحثون على العيش الكريم ؟ ألا يملكون كل مقوماته المالية ؟ لكن من ناحية ثانية ، ذلك الرجل الذي يسكن في أعلى الجبل ، مالذي يشده إلى أرضه ؟ مالذي يدفعه إلى تجنب الهجرة للبحث عن " عيش كريم " بالمدينة ؟ الجواب لأنه يعيش عيشا كريما، مكرما معززا بين أهله ، وحتى لا يتحول إلى غريب ، ضائع في دروب المدن والجيوب بين السماسرة والقطاع الطرق. ثمة عوامل كثيرة ، اجتماعية ، تربوية ، أخلاقية وأحيانا سياسية تخلق الاختلاف حول فكرة " العيش الكريم" فما هو عيش كريم بالنسبة للواحد هو " جهنم " بالنسبة للآخر . ولنأخذ هذا المثال : عندما تزوج ابنتك لرجل يملك كل مقومات الرفاه ، هناك مال ، ومأكل وملبس ومسكن في حي راقي ، وسيارة ، لكن أم الزوج قاسية على " ابنتك" وتطالبها بعمل أشياء هي لا تريدها . ماذا سيكون رد فعلك ؟ بماذا ستصف حياة ابنتك في وجود الثراء ؟ ألا تصفها بالحياة التعيسة ؟ وعكس ذلك، قد تتطلق تلك البنت من ذلك الرجل لتتزوج رجلا يحقق لها ماتريد من راحة واطمئنان وتقدير رغم فقره وحاجته . ألا تصف حياة ابنتك بالسعيدة مع وجود الفقر ؟ .ولو كان " العيش الكريم" يقاس بالمال والمتاع فلماذا أبناء الأغنياء والموظفين السامين يجرون وراء المخذرات والخمور ؟ أليس من أجل البحث عن عالم (عيش كريم) لا يوجد إلا في خيالهم ؟ أما أبناء الفقراء الذي يتناولون الخمر والمخذرات فلأنهم كذلك يبحثون عن عالم الأغنياء(التائهون) ، والفرق بينهم وقوم " موسى" الذين تمنوا حياة " قارون " أن قوم موسى رجعوا إلى رشدهم واستغفروا الله وثابوا [ خرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم (79) وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله لمن آمن وعمل صالحا ولا يتلقاها إلا الصابرون (80) فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فيئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين(81) أصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لم يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بن ويكأنه لا يفلح الكافرون (82) صدق اله العظيم.] ما يجعل هؤلاءأو أولئك لا يشعرون " بالعيش الكريم" في حياتهم هو خلو نفوسهم من الطمانينة، " ألا بذكر الله تطمئن النفوس " يقول سبحانه وتعالى:[ ومن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا.] صدق الله العظيم. من الصعب جدا الحديث عن " العيش الكريم" وحصر تعريفه بتحقق شرط : توفر السكن وحده، حسب ما يعتقد رؤساء ووزراء يرون بأن العيش الكريم للمواطن يتوقف على منحه سكنا جاهزا أو كمشروع وبذلك ستححقق سعادته . ولو قمنا بدراسة اجتماعية لوقفناعلى حقائق مؤثرة .إذ هناك أسر استفادت من سكن اجتماعي ، فكان السبب في قلب حياتها رأسا على عقب . وأخرج أفراد تلك الأسر من بحبوحة " الطمأنينة " النفسية إلى الصراع من أجل البقاء . والسبب هو أن " العيش الكريم " الذي انغمسوا فيه لم تكن شروطه كاملة ( سلة العيش الكريم ) أعني بذلك " الكرامة " والكرامة لها دلالة أعمق من دلالة " العيش الكريم " وأوسع ، لأن العيش الكريم في قاموس السياسين معناه العمل على توفير السكن اللائق والعمل وتوفير المرافق الصحية والتربوية والأمنية والاقتصادية وغيرها للمواطن .لكن تعريف " الكرامة " أشمل من ذلك وهو لايستهدف فقط المواطن وحقوقه الثقافية والاجتماعية والسياسية والقانونية ، وإنما كذلك الجانب النفسي وهو الأهم (هناك أقطار تشتغل من أجل أن يكون المواطن سعيدا وليس فقط يتوفر على أشياء مادية) ،الجانب الروحي والنفسي له أهميته الكبيرة .وإذا كانت " الكرامة " تعني ٍِ{ جوهر إنسانية الإنسان وأصل وجوده } ، فإن التعامل مع المواطن "كإنسان" لايستوجب توفير قفص للسكن له فقط ، ولاعمل لكسر أدرعه وإنهاك قواه ، ولا حقول ومزارع للإطعامه ثم حلبه وكما تطعم الأبقار ثم تحلب . ولا مدرسة لتدجينه وتهذيبه ليكون من السامعين الطائعين، ككائن مستنسخ لا يملك حق الرد ، ولا مساحة للتعبير عن حاجاته، كما لا يستوجب التعامل معه وكما يتعامل الفراعنة مع العبيد التاريخيين . لأن " كرامة الإنسان" لا تتحقق إلا إذا أحس الإنسان بحريته ، وبشرفه ، وبمقاره وقدره . ووجد نفسه في غيره .لا فرق بينه وبين الآخر لافي الحقوق ولا في الواجبات، لا في السن ولا الجنس ، ولا اللون ولا العرق . لا فرق بينه وبين الغني إلا في التقوى ، ومدى احترام القانون المعمول به .لكن قبل هذا وذاك على الإنسان أن يعلم ويدرك بأن الله " كرمه " ورفع من شأنه وهو الذي سجدت له ملائكة الرحمن . هذا الانسان الذي أدرك مغزى وجوده ، هو من سيعمل على احترام نفسه أولا ، واحترام غيره له .لأنه قانع بما رزق ، غير قلق من الفوارق والاختلافات بينه وبين غيره [ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيان ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ] صدق الله العظيم. أن يعيش الإنسان الحياة بكرامة ، معناه أن يتوفر له العيش الكريم المدعوم بالحرية المادية والطمأنينة والراحة النفسية . فلا يتحقق العبش الكريم بوجود الظلم ، ولا انعدام الأمن ، ولا الخوف المريب على النفس والأولاد والمتاع . كمالا يتحقق العيش الكريم في ظل القمع والشمولية والاستبداد بالرأي وبالعضلات . ولا يكون للعيش الكريم الطعم الحلو في ظل حياكة الغدر، ونصب الأفخاخ .ولا يتحقق العيش الكريم في ظل الكذب والخداع الاجتماعي والثقافي والسياسي . ولا يتحقق العيش الكريم تحت الرعب والتهديد ، والوعد والوعيد . وإنما يتحقق العيش الكريم في ظل التسامح والتآزر، والعمل المشترك فيما يحبه الله للعباد . كما يتحقق العبش الكريم في أجواء الراحة النفسية وتقدير واحترام ومحبة الإنسان للإنسان ، ومحاولات الواحد إسعاد الآخر. فالكرامة كشجرة من فروعها العيش الكريم ، الذي يغذيه تفوى الله .فالذي ينقص أولئك الحيارى وهم أغنياء، هو عدم تقديرهم للمعنى العميق للكرامة ، والتي بدونها لا يكون العيش الكريم كريما.ولنأحذ كثالا آخر، قد تجد امرأة مومسة ، تملك المال، والمسكن والأثاث ، والسيارة ، في رأيها أنها تنعم بالعيش الكريم . بينما امرأة أخرى تشتغل بالحقول ، ولا تعرض جسدها في مزاد ، فأيهما يعيش بكرامة وأنفة وعزة عند الله وفي نظرة المجتمع؟ تاريخيا اقترنت الكرامة بمعركة الكرامة بالأردن ، هزم فيها الإسرائليون شر هزيمة . كما يقترن ذكر الكرامة " بسفينة الكرامة" لفك الحصار على غزة .والكرامة كانت عند الأجداد مربط الفرس في الحياة ، وهي كل ماكان يملك الانسان ، كانت هي زاده ، ومتاعه، وقيمته في مجموعته ، بها يرتبط وجوده . وبالكرامة تصان الأرض والنسل ، والدين والثقافة والأصالة، وبها تكون التنمية وحفظ النسل والعرق والدولة. فلا حياة لمجتمع لا كرامة له ، مادام " العيش الكريم " مفهوم فضفاض له أكثر من دلالة تتنوع بتنوع الأفكار ووجود الاختلاف بين الناس ، كل يفهمه حسب موقعه في الهرم الاجتماعي ، واتباعا لطموعاته وقناعاته وحاجاته أما الكرامة فلا وجها ثانيا لها.