كان رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق جوليو أندريوتي يردد دائما أن "السياسة الخارجية الجيدة تقاس بعدد الأعداء"، فهم يقلون كلما تميزت مقاربة الدول لبعضها البعض بالحكمة والرزانة. عودة العلاقات المغربية الإسبانية إلى مجراها الطبيعي لا يمكن قراءتها سوى بعيون إيجابية، على اعتبار أنها تساهم في انفراج العلاقات بين دولتين جارتين ما يجمع بينهما أعمق بكثير مما يفرق. محاولة إيجاد سلبيات أو تأويل البيانات الرسمية بشكل مبتور، الغاية منها الانتقاص من أهمية الحدث، هي دليل على أن هناك من يؤمن بأن مصداقية الإعلاميين و"الخبراء" تجد صداها فقط في مهاجمة أي إنجاز كيفما كان نوعه. انتقاد كل شيء تقوم به الدولة هو مسيء للإعلام مثلما يسيء إليه المطبلون لها بسبب أو بدونه. أي قراءة لهذا الحدث يجب أن تمر بفهم للتغيرات الجيو-بوليتيكية للمنطقة، التي أكدت اليوم أن المغرب في نزاع الصحراء لعب أوراقه القليلة بعقلانية رغم مجازفته بتحالفات تبدو للوهلة الأولى غير طبيعية، وربما غير مقبولة بالمرة، من طرف جزء كبير من الرأي العام الداخلي. ومع ذلك، يجب التنبيه إلى أن الطريق نحو إيجاد حل نهائي لهذا النزاع الذي طال أكثر من اللازم لا يزال في بداياته. استدعاء الجزائر سفيرها بمدريد هو دليل آخر على أن الطرف الرئيسي في هذا النزاع لم يكن أبدا هو البوليساريو، الأمر الذي يعقد الوضع في المنطقة ويفسر سبب استمرار هذا النزاع الذي قد يخدم مصالح جد ضيقة للنظام الجزائري ولا يساهم بالمرة في إيجاد مخرج يحفظ ماء وجه الجميع. وهذا ما فهمه أخيرا الجار الإسباني حينما أكد أن الحكم الذاتي هو أفضل حل ممكن لأنه قد يشكل مخرجا مناسبا لا غالب ولا مغلوب فيه. النظام الجزائري، للأسف الشديد، يستمر في لعب ورقة البوليساريو منذ سبعينات القرن الماضي اعتقادا منه بنجاعتها في خلق التوتر الكافي لاستنزاف المغرب، وبالتالي المساهمة في إسقاط النظام الملكي "المخزني"، حسب تعبير الآلة الإعلامية الجزائرية. بعد 47 سنة، لم يلاحظ أصحاب القرار في الجارة الشرقية أن النتائج كانت عكسية تماما. النظام الملكي في المغرب في عز قوته اليوم ويبدو أكثر إقناعا على المستوى الدولي، كما أن إصلاحاته، سواء اعتبرناها شكلية أو عميقة، تتجلى كقدرة هائلة على التأقلم مع التحولات التي يعرفها العالم. قضية الصحراء ساهمت كذلك في خلق إجماع وطني، كما ساعدت "النظام المخزني" على تبرير كثير من الإخفاقات والأخطاء بداعي الدفاع عن الوحدة الترابية. أخطاء النظام الجزائري الذي أعمته الأيديولوجية فلم ير أبدا أن ما يسوقه كحرب ضد "نظام رجعي حليف للعدو الصهيوني"... إلخ من الجمل الفضفاضة التي تمتح من قاموس أكل الدهر عليه وشرب، تتجلى للمواطن العادي كحرب ضد المغاربة جميعا، بدون استثناء. طرد مواطنين أبرياء من الجزائر لأنهم مغاربة أو من أصول مغربية إبان بداية الصراع حول الصحراء، هو وصمة عار في جبين نظام عليه أن يقدم اعتذارا عن ذلك عوض المطالبة بقضايا ميتافيزيقية توجد في مخيلة القادة الجزائريين فقط. خطأ آخر ارتكبه النظام الجزائري حينما دفع بميليشيات البوليساريو إلى مغامرة الكركرات وما تلاها من إعلان للحرب ومن معارك وهمية تسوق لها أجهزة الإعلام الجزائرية فقط، والتي كانت نقطة التحول الفارقة نحو تصور جديد ومقنع لا يجد بديلا للحكم الذاتي كحل نهائي للنزاع. آخر الأخطاء هو إحراج إسبانيا بضيف ثقيل على مصالحها ووضعها في موقع صعب مع جارها المغرب الذي لعب كل أوراقه للوصول إلى اتفاق يخدم مصلحته. أمر طبيعي في العلاقات الدولية. ما أردت توضيحه في هذه المقالة، هو أن النظام الجزائري في نهاية الأمر، بشعور منه أو بدونه، هو خير حليف لنظام يدعو إلى إسقاط دعائمه رغم أن أحدا لم يطلب منه ذلك. انعدام أي تصور منطقي يخدم مصالح المنطقة أسقط النظام العسكري في مستنقع لا يريد الخروج منه رغم ثبوت فشل المقاربة العدائية تجاه الجار الغربي. في انتظار أن يفهم نظام الحكم في الجزائر كل هذه الأمور يوما ما، فإن على صاحب القرار في الرباط أن يعي أن موقف مدريد الجديد هو ورقة جيدة تخدم الملف المغربي ولكنها ليست نهاية للنزاع. لذا، وجب الكف عن تسويق الموقف الإسباني كانتصار شبيه بالفوز بكأس العالم. غالبية الرأي العام في إسبانيا، كما غالبية صناع الرأي من صحافيين وخبراء، أبانت خلال الأيام الأخيرة عن حقد دفين نحو المغرب، مما يحتم على هذا الأخير أن يساعد سانتشيز، الذي أخذ قرارا شجاعا بهذا الحجم، بعدم إحراجه أمام خصومه السياسيين، وهم كثر. يجب استحضار المثل المغربي: "لي غلب يعف" وتطبيقه بحكمة.